لم يعد خافيا على أحد ضرورة النقد الحركي، ذلك أن النقد يقوم بعملية التطوير، فهو يضع النقاط على الحروف ويسدد الأهداف، كما أنه يبين مكامن الضعف.
والنقد هو طبيعة موجودة في الإنسان، فهو تمام البيان الذي امتاز به عن سائر الحيوان، فلا تجد أي حي قابل للتطور سوى هذا الإنسان، فهو يبني ويبني وفقا لرؤيته النقدية المغروسة فيه وبذلك يتطور.
فلا يبقى مجال للشك من أن النقد ضرورة طبيعية يحتاجها أي عمل، بل ودليل ذلك هو التاريخ والتاريخ الإسلامي تحديدا، ألا ترى أن الفرق الإسلامية بدأت تنقد بعضها الآخر، وحصلت معارك نقدية بين أهل الرأي وأهل الأثر حتى امتزجت المدرستان مع رسالة الشافعي، والمعارك النقدية التي جرت بين مدرستي الأصول الكلامية والحنفية فقد أنتجت المدرسة المقاصدية والجامعة المتمثّلة بموافقات الشاطبي، وهذه مجرد أمثلة للتوضيح وإلا فالأمثلة كثيرة جدا.
ولكن على الرغم أن النقد يعد ضرورة لا يجوز النقاش فيها إلا أن معرفة النقد بأصوله ومناهجه لازالت ضبابية عند الكثير من الشباب بل ربما أتجرأ لأقول عند كل الشباب، وأخص الشباب هنا لأننا نحن الجيل الصاعد ونحن بناة المستقبل، فإن لم نبني عقلياتنا النقدية على أصول منهجية فستكون كلها هباءً منثورا.
ومن هنا وضعت هذه المحاولة لتبيين أصول النقد الحركي ومنهجيته الصحيحة، فبوجود الكثير ممن يشوه النقد بنقدٍ سخيف، فإن بوصلة الشباب تبدأ بالانحراف، فلابد حينها من إظهار كيفية النقد الصحيح بل وإحياء ذلك النقد حتى يدمغ ذلك النقد الباطل فيزهقه وتتم عملية التطور، وقد وضعت تلك الأصول على شكل نقاط ليسهل تناولها وفهمها.
١) النقد هو التوجيه والتقويم، فالناقد مرآة للمنقود يريه نفسه ليعرف مكامن القوة والخلل ولذلك فكل النقد بنّاء ولا يوجد شيء اسمه نقد هادم وإنما يُسمى هجاء.
٢) النقد هو عملية لاحقة عن العمل، فالنقد في حالته الطبيعية يكون كذلك، وذلك لأنه يحكم على الأعمال، من هنا فلابد للناقد بأن يستوعب ما ينقده استيعابا كاملا ويعيش بداخله عيشة كاملة، وهذا ليس شيء غريب بل هو عين العقل، فالناقد الأدبي مثلا حين يريد نقد قصة واحدة فإنه يرجع لمراجع كثيرة أكثر من هذه القصة وذلك ليتبين الحكم فيها تماماً.
٣) النقد كلما كان ألصق بالعمل كان أصوب، وسبب ذلك أن الذي ينقد من الداخل فإنه ينقد عن دراية بالواقع بعكس الناقد الخارجي الذي تغيب عنه أشياء، لذلك نرى مثلا تحفظ بعض النقاد الكبار كالشيخ عبدالفتاح مورو والدكتور عبدالإله بن كيران من انتقاد بعض الحركات وذلك لإدراكهم التام لصعوبة المواقف كونهم خاضوا الغمار وعلموها تماماً.
٤) نقد الفكرة والتخطيط لا نقد الخيارات السياسية، وذلك لأن السلوك لا ينبني إلا على الإيمان، فالناقد عليه معالجة الفكر نفسه الذي سيقود للعمل، أما العمل (الخيارات السياسية) فهي مبنية على اجتهاد لا يستطيع أي إنسان ادعاء الصواب المطلق فيها، وسلوك خيار ما ثم فشله مستقبلا لا يعني أن سلوك الخيار الآخر سيكون ناجحا بل ربما أفشل.
هذا وقد بينت قديما أن الخيار السياسي الأقرب للصحة هو ما يُبنى على (شورى صحيحة، فكر سديد، تخطيط واضح).
٥) البعد عن الأكاديمية في الطرح، وأعني البعد عن عبادة الألفاظ والمصطلحات والتوجه لحقائق الأمور، وسبب ذلك أن الحركات الإسلامية هي حركات تكون دوما إما فاعلة في المجتمع أو متفاعلة معه، والأكاديمي بطبعه يحسن التجميع ولكن لا يحسن فهم الكنه، فالحركة الإسلامية لا تحتاج لدكتور في الإقتصاد مثلا بأكثر من حاجتها لاقتصادي، وليست بحاجة لدكتور بالفقه بقدر حاجتها لفقيه وهكذا. فالأكاديمية بذاتها ليست متماشية مع الذات الحركية ما لم يكن ذات الأكاديمي حركي.
٦) الفهم التام لما يتم نقده وترك التسطيح، فهناك من ينقد الحركات الإسلامية وهو أصلا مخالف لفكرها، والناقد هو مرآة كما ذكرت في الأصل الأول، فلا يصلح أن يكون ناقدا للحركة وهو يخالفها فكرا، فمن خالف الفكر فشأنه هو النقاش الفكري لا النقد الحركي، كما أن التسطيح هو آفة النقد، فيظن الناقد أنه بمجرد لو فعلت الحركة كذا أو كذا فإن الوضع سيتغير! وكأن الحياة تجري بهذه السخافة والسطحية.
وقد ربطت بين الفهم المنقوص والتسطيح لما بينهما من ترابط، فلو رأينا النقد الذي وجه للحركة الإسلامية في اليمن أيام استيلاء الحوثي لوجدنا أن كل الناقدين إما لم يفهموا فكر الحركة الذي يؤمن بالتعددية والوطنية وعدم التكفير و... أو لم يفهم أن الدخول في الصراع الأهلي سيفضي لتدمير البلد كاملا، وأن الحركة الإسلامية عالميا ترفض محاربة أهل بلدها أيا ما كانوا، فجعل بعض النقاد الأمر بغاية السخافة والتسطيح وأن مجرد قتال الحوثيين سيؤدي لنصرة البلد.
٧) ترك التكبر في النقد، فالناقد يجب أن يعلم أن نقده هذا لم يكن لولا الحركة ذاتها التي بنت العمل.
٨) النقد في مواضع النقد والدقة في ذلك:
- وأوضح مثال في ذلك هو الإعلام، فكثيرا ما ينقد الناقدون الضعف الإعلامي عند الحركات الإسلامية، وهذا صحيح من جهة لكن ليس من كل الجهات، فالحركات ضعيفة فقط في الرائي (التلفزيون) أما في الشبكة النتيّة أو في شبكات التواصل وغيرها فهو قوي، وهذا يدلل أن الضعف ذاك جاء بسبب السياسة المفروضة على الحركات نفسها.
- ومثال آخر: نقد النظرية السياسية عند الحركات وترك النظريات الإجتماعية والفكرية، فالحركات الإسلامية قائمة على تغيير حضاري شامل لا يصلح أن يُنظر لها من جانب دون آخر، والنظرية السياسية هي جزء من التغيير العام الحضاري، فلابد النظر إليها من هذا المنطلق بل والنظر لجميع الإجتهادات الحركية في الفهم السياسي وبعد ذلك يتم النقد.
٩) الواقعية: فالناقد لابد له من إدراك طبيعة الواقع فلا يتكلم في شيء يستحيل تحقيقه أو يثبت التاريخ استحالته، كمن يريد التغير بجرة قلم وتوقيع وبخطب رنانة وقد أثبتت التجربة فشل هذا الأسلوب، أو كمن انتقد الحركة الإسلامية فوصفهم بالسقف المنخفض -وذلك لعيشه بعيدا عن الواقع- إلا أن الواقع أثبت أن السقف المنخفض هو الأنجع.
١٠) ادراك التغير التاريخي وتسلسل الأفكار: فالناقد عليه إدراك قضية تطور الأفكار فلا يصلح أن ينتقد ألفاظا كتبت في الوقت السابق ليحاكمها على اللاحق، وهذا يقتضي فهم عميق في نظرية تطور الأفكار، وهذا طبعا يحتم على الناقد معرفة التاريخ تماماً لاستلهام الدروس منه، وقد كتبت في ذلك مقالا من قبل باسم المصطلحات والتاريخ والخروج بالحل الثالث هذا اقتباس منه:
(كلنا يعلم قصة الإمام الشيخ محمد الغزالي السقا رحمه الله حين سأله سائل: ما حكم تارك الصلاة؟ فقال: أن تأخذه معك للصلاة.
إن النقاشات التي تُبنى عليها المصطلحات كلها نشأت في سياق تاريخي وضمن ظروف معينة، ويجب على من يأت بعد ذلك الإستفادة مما تم بناؤه وإتمام البناء عليه وذلك هو (الحل الثالث).
فمثلا: تقسيم المدارس الإسلامية لمدرسة الرأي والأثر هو تقسيم تاريخي بحت نُسخ بظهور المذاهب الإسلامية التي استفادت من الجميع. وبعد عصر تمام المذاهب واستواؤها ظهر الفقه المقارن الذي يستفيد من الجميع أيضا.
وفي عصرنا الحاضر قد نوقشت القضايا الفكرية الكبرى على كبار المفكرين ابتداء من سيد قطب ومالك بن نبي مثلا وغيرهم كثير، إلا أن الزمن الحاضر يتطلب منا تحويل تلك الأفكار إلى واقع عملي لا إعادة النقاش مرة أخرى في قضايا لن تنفع في شيء. وإليك بعض الأمثلة:
- مثال عقدي: آيات الصفات ونقاشها الذي رسى آخر أمره على مدرسة الأثريين ومدرسة الأشاعرة المتكلمين، وصار كل طرف يرمي الآخر إما بالتجسيم أو التعطيل، حتى جاء الإمام الشهيد حسن البنا وكتب مقالا في المنار جمع فيه الرأي بما يتفق عليه الطرفان أصلا وبما يحقق القصد من إثبات للصفات ونفي التشبيه عنها وقبل ذلك كله زرع العظمة لله في قلب المؤمن. وهذا هو قصد المسألة.
- مثال فقهي: جهاد الطلب، فبغض النظر عما إذا كنا نثبته أو ننكره، فهل هو يقع في العصر الحاضر ضمن المعاهدات الدولية؟ وقد تكلم فقهاؤنا القدامى عن هذا الموضوع ومنعوا الجهاد الطلبي مع دول المعاهدة، هذا عوضا عن أن جهاد الطلب لا يكون إلا تحت الراية الراشدة أو شبه الراشدة لذلك لا يضحكني أكثر من تكفيري يطالب بالجهاد الطلبي وهو أصلا يكفر كل الدول.
- مثال فكري: مفهوم الحاكمية، هو مفهوم فكري، جاء في زمن أحتيج إليه لتقرير قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونُسُكِي ومَحْيَاي ومَمَاتِي لله رب العالمين). وإن إثبات هذه الحاكمية في الحاضر لا يكون إلا بالبرامج التطبيقية فالبقاء ضمن المحدد الفكري مخالف لذات المفهوم.
لذلك فلابد من تجاوز الفكر الذي كان جدارا فولاذيا على العتاة من الطغاة والمنحرفين، ليكون هذا الجدار تاما بالأعمال والبرامج التطبيقية الواقعية، وعلى ذلك ستجمع بين مدرسة مالك بن نبي ومدرسة سيد قطب.
بذلك -رحمني الله وإياك- نتجاوز مفاهيم باتت تاريخية ونخرج بالحل الثالث وهو الحل العملي كما فعل الشيخ الغزالي مع سائله فهو لم يدخل معه في خلاف هل يكفر أم لا وتأليف المصنفات في ذلك وإنما اقتصر الطريق لصالح الإسلام الذي ينفع الجميع).
أخيرا أود ذكر نماذج وأسماء عنيت بالنقد الحركي لابد من الاستفادة منها لتكون مثالا يحتذى به بل والتفوق عليه أيضا فلا يعني ذكرنا لهذه الأسماء وحفظ ألقابها أننا على تمام الإتفاق وإنما لأنها نماذج محترمة بعكس ما يتم نشره للشباب:
- فريد الأنصاري وتحديدا بكتابيه البيان الإسلامي وكتابه الفجور السياسي.
- حسن عشماوي، جميع كتبه لمن وجدها.
- يوسف القرضاوي في كتابه أولويات الحركة الإسلامية وكتب أخرى.
- شاهد على العصر عبدالفتاح مورو.
- برنامج مراجعات مع: بن كيران (إضافة للقائه في بلا حدود)، عبدالرزاق مُقري، مهدي عاكف، إبراهيم منير.
- كتابات الشيخ أحمد الريسوني الحركية.
- من فقه الدعوة لمصطفى مشهور.
-مراجعات الحركة الإسلامية هشام الطالب.
- الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة لصالح كركر.