نستشهد اليوم بمقولة لاحد اعلام الامة العراقية الكبار ؛ الا وهو المفكر والكاتب ابو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي العراقي ؛ وكما ترى ولد في بغداد وعاش فيها ؛ حتى لقبه ( التوحيدي ) ؛ قيل : سببه أن أباه كان يبيع نوعا من التمر العراقي ببغداد يطلق عليه «التوحيد» وهو الذي عناه المتنبي حين قال:

يرتشفن من فمي رشفات     ×××  هن فيه أحلى من التوحيدِ

وكالعادة اختلف القوم او اتباع الخط المنكوس في نسبه زورا وبهتانا وبغضا بالعراق والعراقيين ؛ فقيل : ان اصوله تعود من شيراز وقيل من نيسابور...!! ؛ ولكن الراجح أنه عربي الأصل كما ذهب الى ذلك المؤرخ الحافظ الذهبي في كتابه :  سير أعلام النبلاء /  طبعة مؤسسة الرسالة /  الجزء السابع عشر... ؛ لأنه توفي في شيراز التي زارها حتى شاعرنا المتنبي نسبوه للفرس زورا ؛ حتى اسماء اباءه عربية ومهنته عراقية و ولادته عراقية ومع ذلك لابد من الغمز والتزوير والتزييف ؛ وطالما تعرضنا لسرقة شخصياتنا التاريخية ونسبة بطولاتنا الى غيرنا ظلما وزورا ... ؛ ومما قاله ابو حيان التوحيدي - و الذي سمي  ب أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء - : (( الانسان الذي لا يعمل بعلمه ؛ كالشجرة المورقة لا ثمر لها ))  

يكد الفلاح ويتعب ويبذل الجهود الحثيثة في سبيل زراعة الاشجار التي يستفيد منها فيما بعد ؛ اذ بعد سنين من الرعاية والعناية بالأشجار ينتظر الفلاح منها ان تثمر ؛ كي يبيع المحصول ويأكل من ثمارها وينتفع منها ... , فالغاية الرئيسية من الزراعة هي تأمين احتياجات بني البشر من الغذاء .

وهنالك ايضا اشجار لا تستحق ان يبذل الفلاح الجهود من اجلها  ؛ وهي الاشجار التي ليست لها تلك المقدرة على انتاج الثمار الناضجة والمفيدة  ؛ فلا يستفيد منها الانسان او الحيوان ... , وهي لا تستحق من الانسان ان يعمل من اجلها لأنها بلا فائدة ترتجى , واذا ضيع الفلاح وقته وجهده في رعايتها والاعتناء بها ؛ فأنه لا يكسب منها سوى التعب وتبديد الطاقات واستنزاف الجهود وضياع الاموال .  

وهنالك شجرة من هذه الاشجار عديمة الثمر تدعى في اليمن ب شجرة الشيطان ؛ وتسمي شجرة الشيطان لأنها عديمة الفائدة فلا تثمر بثمار تفيد الإنسان ولا يستفاد منها كمرعى للحيوانات إذ أن المواشي والأنعام لا ترتع عليها ولا تأكل أوراقها وهي شجرة ضارة للأشجار المثمرة إذ تحتل مساحات واسعة من الأرض الخصبة بسرعة انتشار بذورها ونمو أشجارها ومن ثم تتغذى على حساب الأشجار والنباتات النافعة للإنسان والأنعام حيث تمتص العناصر والمركبات التى تتواجد في التربة وأيضا تمتص الماء المخزون بالتربة وتضيق على الأشجار النافعة واستفادتها من العناصر ومركبات التربة المفيدة لها كغذاء وتستنزف مياهها المخزونة .. كما أنها أشجار عديمة الظل فلا يستطيع إنسان أو حيوان الاستضلال تحتها لأنها تنمو بشكل مظلي حيث تخرج من جذوعها الأصل سيقان متفرعة كثيفة تنمو وتتقوس نحو الأسفل حتى تصل إلى سطح الأرض أي تنحني من أعلى إلى أسفل وتحمل السيقان أشواك وبعد انطراح سيقانها وفروعها على سطح الأرض تتجه نموا بشكل أفقي على امتداد الأرض ولمسافات المتر والى المترين ويصعب على الإنسان أو الحيوان الدخول للجلوس تحتها للاستضلال لوجود الأشواك ولحجب السيقان والفروع الكثيفة للجذوع الأم ويتراوح طول الشجرة الواحدة ارتفاعا عن سطح الأرض ما بين المتر إلى ثلاثة أمتار ... . 

وكما في عالم النباتات اشجار عديمة الفائدة كذلك في عالم بني البشر يوجد اشخاص عديمو الفائدة ... , وقد تتزايد اعداد هؤلاء وتتمدد افقيا وعموديا مما يؤدي الى خنق وقتل الطاقات المبدعة وطرد الكفاءات وابعاد اصحاب الخبرات والانجازات ... في المجتمع ؛ اذ ان ضرر هؤلاء ضررا مضاعفا يعود على انفسهم اولا ومجتمعهم ثانيا ... , وينشط هؤلاء في الدول الفاشلة والمتخلفة والتي تعاني من الازمات والانتكاسات ... الخ .ولعل هذه المجتمعات تتميز باحتضان الاشخاص عديمي الفائدة بل وتساعد على تكاثرهم بصورة طردية , فالعوامل الموجودة في هذه المجتمعات تقود الى انتاج الكثير من الاشخاص عديمي الفائدة ... ؛ علما ان هذه المجتمعات هي الاكثر حاجة للكفاءات والخبرات والانجازات واصحاب الاختراعات والاختصاصات العلمية والثقافية والسياسية والاعلامية ... الخ ؛ وبما ان المجتمعات تتكون من المجاميع والجماعات والفئات ... الخ ؛ وهذه بدورها تتكون من الاشخاص والافراد , وبما ان قيمة الانسان ما يعلمه ويعرفه من معلومات وما يحسنه ويتقنه من مهارات وكفاءات ... ؛ انشد حكيم العراق وحاكمه الامام علي :

وقيمة المرء ما قد كان يُحسنه  ××× والجاهلون لأهل العلم اعداءُ

فقم بعلم و ﻻ تطلب به بدلاً ××× فالناس موتى واهل العلم احياءُ

وبما ان المجتمع يتكون من افراده ؛ فقيمة المجتمع من قيمة افراده ؛ وكذلك الدولة تكون قوية اذا كان ابناء المجتمع أقوياء ’ شجعانا ’ أذكياء ’ احرارا ’ ؛ وهي ضعيفة اذا كان ابناء المجتمع ضعفاء ’ متخاذلين ’ جبناء ’ مستذلين ’ جهلة ... ؛ فما قيمة المواطن ان كان لا يحسن شيئا ذي بال ؛ سوى الاكل والشرب والنوم والنكاح كالبهائم والحيوانات ... , ومع شديد الاسف حين اختصر العراقيون حياتهم بالأمور القشرية والسطحية والهامشية والشكلية ... الخ ؛ وقصروا معرفتهم بما لا ينفع ولا يسمن ولا يغني من جوع ؛ أصيبت حياتهم بالشلل، وحضارتهم بالعطب، وعقولهم بالبلادة، وتأخروا عن مسايرة الركب وهم مطالبون ليس فقط بالمسايرة بل بالتقدم والتميز كما كان اسلافهم الاوائل ... . 

ومما تقدم عرفنا ان الاشجار غير المثمرة لابد من اقتلاعها لعدم فائدتها ؛ وكذلك الاشخاص عديمي القيمة والفائدة لابد من اعادة تأهيلهم للنهوض بالمجتمع وبناء دولة قوية ؛ والبعض يعتقد ان الجهل وحده الذي لا ينفع , و ان الجاهل هو الشخص الوحيد الذي يصدق عليه انه عديم القيمة والمنفعة  ؛ بل العلم كذلك احيانا ؛ اذ ان العلم الذي لا يعمل به كما قال مفكرنا العراقي ابو حيان التوحيدي حاله كحال الشجرة المورقة الا انها عديمة الثمر والفائدة ... ؛ لذلك قال حكيم العراق الامام علي : (( يهتف العلم بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل ))  فالعلم المفيد والنافع ذاك العلم المقرون بالعمل ؛ والعالم ذو القيمة والفائدة ذاك الشخص الذي يعمل بعلمه ؛ فأن عذرنا الجاهل لعدم عمله بسبب جهله ؛ بماذا نعذر العالم ؟

فليس هناك أجهل من حامل العِلم الذي لم يستفد من علمه ولم ينتفع به ؛ لذلك وصف كتاب القران الكريم امثال هؤلاء بما يلي : ((  كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا   )) ... ؛ ولعل مقولة علي الطنطاوي توضح لنا الامر , اذ قال : (( نحن لا ينقصنا العلم، بل ينقصنا الشروع في العمل بما نعلم ، لا ينقصنا العلم، إن كل واحد منا يعلم أن الكذب شر والصدق خير، وكل واحد منا يعلم أن للوالدين حقوقًا وأن صلة الرحم من الواجبات وأن الغش والظلم والعدوان من أسباب غضب الله، ولكنا لا نعمل بهذا الذي نعلمه  )) فالبعض لا ينقصهم العلم والمعلومات انما ينقصهم العمل بما علموا وتطبيق ما تعلموا على ارض الواقع , ومشاركة تلك المعلومات مع ابناء وطنهم ؛ فالعلم يزكو على الانفاق ويزدهر بالعمل ؛ فاذا تعاون العلماء مع الجهلاء واخذ العالم بيد الجاهل والمثقف بيد الانسان البسيط وتشاركوا بالأفكار والاعمال والطموحات والآمال ... ؛ عندها تنهض الامة العراقية من كبوتها وتزيح عنها غبار قرون التأخر وحقب التخلف وعقود الظلم والغبن ... الخ . 

فما فائدة العلم من دون عمل وابداع ونشاط ؟ بل لعله يؤدي الى نتائج عكسية لذلك قال حكيم العراق : (( رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لاَ يَنْفَعُهُ )) البعض فسر الحديث بما يلي : المراد هو الجهل المركّب الناشئ من عناد النفس واستكبارها ، وفي هذه الحالة لن يكون لعلمه أي فائدة له... ؛ وانا اقول : ان العالم الذي لا يستفيد من علمه ولا يستطيع اظهار علمه للاخرين فضلا عن مساهمته في بناء وطنه ومجتمعه ؛ يعيش صراعات داخلية ويشعر بالغبن والتهميش وتعتلج  في صدره   الهموم والطموحات فضلا عن مشاعر العجز  ؛ لذا قال حكيم العراق : ((اكثر الناس هما من اتسع علمه وقلت همته )) .

نعم قلنا ان قيمة الرجل تعتمد على علمه ؛ ولكن ما نفع العلم من دون همة ؛ لذا قال حكيم العراق : ((  قدر الرجل على قدر همّته )) فالشخص الاناني والمواطن الطالح لا يرى الا مصالحه المادية والشخصية ؛ وكلما ضاقت دائرة همته ؛ عرفنا نفسيته وكشفنا شخصيته , اذ ان الشخص الاناني يتصادم مع الاخرين من خلال تفضيل نفسه على ابناء جلدته واهمال المصلحة العامة وتقديم مصلحته الخاصة ؛ وهذا يؤدي الى انهيار المجتمع وسقوط الافراد  في حضيض الرذائل والسلوكيات السلبية ... , وهذه الانانية المتفشية بين ابناء المجتمع  وانعدام قيمة المواطنين وانحدار مستواهم الثقافي والمعرفي والسلوكي ... ؛ علامة على الانحلال الأخلاقي والتحلل  للأمة العراقية ... . 

والمواطن الجاهل والشخص عديم القيمة والفائدة والمرء الاناني ؛ كالطفل الذي يكون همّه اللعب بالتراب وما شابه ذلك ... ؛ وكلما تقدم به العمر ونضج  قد   يدرك أنّ هذا لا ينفعه، وأنّ الذي ينفعه هو ما ينشغل به الكبار من بناء البيت، أو ترتيب وضع العائلة، أو التجارة، أو ما إلى ذلك ... ، ولكنّه ما دام مكفولا من قبل أوليائه ومنصرفاً إلى الألعاب الطفوليّة ، تراه لا تنمو همّته ، ولا يتّسع أُفقه النفسي ، في حين أنّه لو فجع بموت وليّه وإحساسه بالمسؤوليّة تجاه العائلة ـ مثلا ـ تراه يتحوّل في وقت قصير من المستوى الضيّق من الهموم إلى مستوى أوسع ، ويترفّع عن كثير من السفاسف التي كان لا يترفّع عنها ، على أساس أنّه ابتلي بحمل هم واسع رفيع لم يكن حاملا له قبل ذلك... ؛ والإنسان الذي يعيش في أُفق بلد صغير متداني الأطراف ومتضارب المصالح ، تراه أضيق أُفقاً من الذي يعيش في دائرة واسعة تقلّ فيه مرتبة تضارب المصالح والمآرب... ؛و كذلك من يعيش لعائلته تراه أكبر همّة وتعالياً ممّن يعيش لنفسه... ؛ ومن يعيش لقومه تراه أكبر همّة وأُفقاً ممّن يعيش لعائلته ... ؛ ومن تراه يعيش للناس تراه أوسع أفقاً وذهنيّة ممّن يعيش لقوم... ؛ ومن يعيش للوطن  والمبادئ  الوطنية وتوسيع رقعة بلاده   تراه يطعن على الأهداف الماديّة القشرية والمطامع الشخصية  التي هي معترك الناس في حياتهم التافهة ... ؛ وحديث حكيم العراق انف الذكر ؛ وكأنّه لأجل توجيه الناس نحو علوّ الهمّة وسعة الاُفق ؛ وقد أكد هذا الامر الامام جعفر الصادق اذ قال : (( ...إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يحبّ معالي الأُمور، ويكره سفسافها... )) و لدفع العراق إلى الأمام والنهوض بالأمة العراقية  ، يجب علينا  أن  نغير من نظرتنا للأمور وان نسعى بجد واجتهاد من اجل مصالح الوطن والمواطن العليا ... . 

وصدق شاعرنا الكبير ابو الطيب المتنبي عندما انشد قائلا : 

عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ×××وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ

وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ×××وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ

وعليه ان اي دين او مذهب او قومية او فئة او حزب ... ؛ ان لم تكن اهدافه سامية  وانسانية وتصب في مصلحة الوطن والمواطن ؛ وكذلك وسائل تحقيق تلك الاهداف يجب ان تكون نظيفة  ... ؛ فلا يحصد سوى الخيبة والهزيمة والعار بل سيكون عنوانه الهدم وقتل الانسانية وتدمير الوطن والاضرار بالمواطن ... ؛ فالحياة العامة والخاصة على حد سواء ان لم تكن ذات قيمة وفائدة فهي موت مسبق – كما قال الكاتب غوته - , ولا تغرنكم الشعارات الشوفينية والقومية والاممية والطائفية والعرقية... الخ ؛ فالمصالح الوطنية العراقية و الروابط الإنسانية النبيلة  وتحقيق امال وطموحات العراقيين  أسمى وانبل واشرف من كل الشعارات والأيدولوجيات  ؛ واخر ما اختم به مقالتنا قول الكاتب شكسبير : (( ثمة وقت في حياة الإنسان إذا انتفع به نال فوزاً ومجداً، وإذا لم ينتهز الفرصة أصبحت حياته عديمة الفائدة وبائسة )) .