تضمحل الصور كلما تقدم بنا العمر ، لنصل إلى مرحلة تصبح فيها الذاكرة بيضاء إلا من شعورٍ راسخٍ نحو الأشياء والأشخاص والأماكن التي أحببناها بعمق ، وبعد سنين طويلة من الثرثرة يصبح الصمت هو الشاهد على الوصول لقمة النضج وختام التجربة ، ماذا تبقى ! .. رحل الرفاق .. وها أنت تعدد من بقي منهم على أصابعك وتبتسم ، تخبرني أنك تنتظر دورك دون أن تراعي شعوري بالخوف من فقدانك أو الحزن على رحيلك ، ماذا بقي ! .. ترددها بيأس دون أن تنظر في عيني ، ليس لديك الجرأة لتنظر في عيني وتقولها بوضوح : أريد الرحيل دون ندم .
كلما التقيا حدثته عن لهفتها به وحدثها عن خوفه ، هو يخشى الخطوة القادمة وهي واثقة من قلبها الذي سيتجاوز كل المخاوف دون تردد .
عندما توشك الذاكرة على التحلل ، نبدأ في اختلاق البدائل ، حياة أخرى وأناس آخرون ، في محطة القطار نلتقيهم لنبدأ معهم رحلتنا الجديدة ، الكثير من الحقائب مكومة على الرصيف ، في كل حقيبة ذاكرة ، ترحل نحو محطة أخرى ، بينما ننتقي من تلك الحقائب ما يسد فراغ الذاكرة ، هناك من ينتقينا ، نمتلئ بهم ويمتلئون بنا هكذا حتى ننسى العناوين والمحطات ويمر القطار دون أن ينتبه لوقوفنا .
لم يخبرها يوماً بشعوره نحوها لكنها كانت تجيد قراءة عينيه ..
قالت لها أنا لا أعرفك لكني أعلم أني أحبك ، كان هذا كافياً لتطمئن لوجودها معها ، إنه الشعور ، ما يتبقى من كل تلك التجارب ، يستوطن تجاويف القلب ، ويضخ في الدورة الدموية ، يستعيد نشاطه مع كل غياب ، يجدد الجريان مقاوماً العجز والخوف ، يسابق النبض ويقوده ، حين ترتجف الأطراف تدرك الذاكرة عجزها عن مقاومته فهو ما تبقى لنا وما نكافح لنستبقيه .
في آخر لقاءٍ لهما كان الجو ماطراً فتعذر بالبلل ، بينما فضلت هي أن تقف تحت المطر لتبرر دموع عينيها .