قد ذكرنا في الحلقة السابقة (1) ؛ ان اول استخدام لمصطلح الامة العراقية حدث في العهد الملكي ... ؛ الا ان احد الكتاب قد ذكر معلومة عن تاريخ استخدام هذا المصطلح ؛ قائلا : (( ... عراقياً ، بدأت أوائل الإشارات الى الأمة العراقية في جريدة “لغة العرب” للأب انستاس الكرملي في 1911، ثم بصورة أوضح في مطالب الاستقلال لمندوبي الحركة الوطنية خلال لقائهم مع الحاكم البريطاني ويلسون عشية ثورة العشرين. أما بعد تأسيس الدولة العراقية بقيادة الملك فيصل الأول، فقد أُطلق تسمية “مجلس الأمة” على البرلمان العراقي، وأصبح استخدام مصطلح الأمة العراقية أكثر شيوعاً عند السياسيين وكذلك عند الأدباء من المؤرخين أو الكُتّاب (مثلا محمد مهدي البصير في كتابه “تاريخ الثورة العراقية” في 1923 ومحمود أحمد السيد في قصته “مصير الضعفاء” في 1922) . غير إن الإشارة إلى الأمة العراقية بدأ بالخفوت ومفهومها السياسي صار على الهامش منذ منتصف الثلاثينات مع شيوع الافكار العروبية واليسارية وتفاقم الصراع الأيديولوجي بينهما، إذ لم تنسجم طروحاتهما السياسية مع مفهوم الأمة العراقية. فالعروبيون لم يروا العراق ألا قطراً من أقطار الأمة العربية التي تسعى الى وحدتها، بينما كان اليساريون يرون أن الأيديولوجية القومية تخدم القوى البرجوازية وتتعارض مع الأممية العالمية... )) (1)
وقد راجعت اغلب اجزاء مجلة لغة العرب للكاتب ماري الكرملي ؛ ولم اعثر الا على بضعة نتائج فقط فيما يخص موضوعنا ؛ ومنها قوله في احدى اصدارات مجلة لغة العرب - وهي مجلة شهرية صدر منها 99 عدد - والتي صدرت منذ العام 1911 و توقفت عام 1914 ثم عادت للظهور من 1927 وحتى عام 1931... : (( ... الوطن لنجله علي بك : (صورة) علي بك السعدون ممثل الأمة العراقية في كتاب الوصية ... )) و (( ... و (المهذب) يكرر أخلص تهانيه بهذا التقدير الحق إلى فضيلة العلامة الجليل الأب الكرملي وإلى الأمة العراقية النبيلة ... )) و (( ... فلما أعلن الدستور واحتكت الأمة العراقية بالنزالة الأوربية سرعان ما قلدوهم في ملبسهم ومأَكلهم ومشربهم حتى انك اليوم لتعجب كل العجب من هذا التقليد الغير المنتظر وظهر لك الفرق بين الزمانين، ولكن هل ظهر الفرق ... )) و (( ... بقي مجلس الأمة العراقية مجتمعاً أربعين يوماً فوق ميعاده وفي ٨ حزيران أصدر جلالة ... )) و (( ... أهدى المؤلف هذه الرواية (إلى سعادة الزعيم والمحسن الكبير عبد الكاظم بك الشمخاني نائب الأمة العراقية في البرلمان ... )) و (( ... وصدقها مجلس الأمة العراقي في اليوم ١٤ منه... )) وكل هذه الموارد انما ذكرت في العهد الملكي ؛ اذ لم يتطرق الكاتب الى ذكر هذا المصطلح قبل عام 1920 في مجلته ( لغة العرب ) وهذه النتيجة توصلت اليها بعد ان تصفحت اغلب اجزاء المجلة ... ؛ وبناء على ما تقدم ؛ اظن ان الكاتب الكرملي قد استهواه المصطلح بعد ان استخدمه الملك فيصل – من باب الناس على دين الملوك - ؛ او لعل الاسباب التي دفعت الملك فيصل لاستعماله هي نفسها التي من اجلها استخدمه الكاتب الكرملي في مجلته او قريبة منها ... .
واكاد اجزم بأن الملك فيصل عندما استعمل هذا المصطلح في خطاباته لم يقصد به المعنى المعاصر او المراد الان بلورته وصياغته وفقا للوعي العراقي النخبوي او الشعبوي ... ؛وقد يبدو معنى «الأمة» nation واضحاً في ظاهره للوهلة الأولى , لكنه في الحقيقة، موضع خلاف عميق، فمن النادر أن تجد كلمة بين المفردات الاجتماعية والسياسية المعاصرة تحمل من الالتباس ما تحمله هذه الكلمة ؛ وإذا كانت الملاحظة المباشرة فرضت على الجميع التسليم بأن البشرية موزعة بين عدد من الأمم المتمايزة، فإن كل ماعدا هذا مختلف فيه من بعد... ؛ فضلا عن وضوح مفهوم الامة العراقية لدى مستخدميه في بداية القرن العشرين ... ؛ وقد تناول الفلاسفة والباحثون والعلماء والكتاب والساسة مصطلح الامة من مختلف جوانبه ؛ ولكل من هؤلاء وجهة نظر مختلفة حول تعريف الأمة وهي تعريفات تكاد لا تتفق في مضمونها إلا في نقطتين، هما أن الأمة : جماعة ، وأن للأمة جامعة أو أكثر تربطها فيما بينها ... ؛ ولعل المتبادر من استخدام الملك فيصل وكذلك من عاصره من الكتاب كالأب انستاس الكرملي - من باب النظرية والتنظير فحسب - : مجاراة النظرية الفرنسية والتأثر بها ؛ والقرائن التاريخية والحراك السياسي وقتذاك يؤكد ما ذهبنا اليه ؛ فعلى سبيل المثال ان كلا من الملك فيصل وكذلك الاب ماري الكرملي من اصول غريبة عن بلاد الرافدين وكذلك غيرهم الكثير من الذين انتسبوا الى العراق حديثا ؛ وهؤلاء لكي يقنن وجودهم في العراق ويحصلوا على الشرعية التي تسمح لهم بالتحكم في البلاد ؛ امامهم عدة خيارات متعارضة فيما بينها ... ؛ ولعل اهمها : 1- البقاء تحت الهيمنة التركية باعتبار ان اغلبهم من رعايا الدولة العثمانية ... ؛ الا ان هذه المحاولات باءت بالفشل لعدة اسباب ومنها : انهيار الدولة العثمانية والتي سقط معها خيار الامة او الخلافة الاسلامية , ومعارضة الانكليز لها , وكره احرار العرب للانضواء مرة اخرى تحت العباءة التركية البغيضة ... ؛ 2-الدعوة للقومية العربية والمطالبة بالوحدة العربية ... ؛ 3-الدعوات الوطنية والمغلفة بالماركسية تارة وبالمزج بين القومية العربية والعلمانية تارة اخرى ؛ او الليبرالية المرتبطة بالإنكليز ولعل الملك فيصل يميل للرأي الاخير ... الخ ؛ لذلك ذهب احد الكتاب الى : (( ... وهو الأمر الذي دفع بالكثير من أرباب السياسة الجدد ، إلى استعادة وتبني مفهوم (الأمة العراقية) ، الذي كان قد ورد بصورة عرضية لدى البعض (انظر المؤرخ عباس العزاوي) ، من باب دغدغة مشاعر الأفراد الساخطين واليائسين ، والاستحواذ على اهتمام الجماعات المشتتة والمهمشة . وذلك لاستخدامه ؛ إما كشعار سياسي يراد له تحشيد عناصر السيكولوجيا الاجتماعية العراقية المفعمة بكل أصناف الطوباويات الخلاصية ، أو توظيفه كبرنامج حزبي يهدف لاستقطاب مختلف المكونات الاجتماعية المتنابذة ، تحت يافطة المزاعم الوطنية والذرائع الأخلاقية والادعاءات الدينية . بعد أن ثبت بالوقائع الموجعة والأحداث الدامية عقم كل المشاريع وإخفاق جميع المحاولات ... ))(2) ؛ فعلى الرغم من ضرورة احياء فكرة الامة العراقية وقتذاك باعتبارها المنقذ الوحيد الا ان الملك فيصل - وحاشيته والكتاب المتأثرين بالمصطلح - تناوله بصورة عرضية وبسيطة وتأثروا بها كما تأثروا بالسدارة الفيصلية والتي اضحت هوية بغدادية بل عراقية ؛ لان مفهوم المصطلح اصلا لم يتبلوا في اذهانهم ولم تحدد معالمه بصورة جلية ... بل انهم خلطوا بين مفهومي الامة والمواطنة ؛ اذ يُعتبَر تحديدُ المفهوم خطوة أولى في سبيل الوصول إلى نتيجة حميدة للبحث وفيما بعد الطرح ، حيث تخرُج مصطلحات البحث من دائرة الغموض والإبهام إلى وجهة الوضوح والبيان، تمهيداً لإيصال الفرضيّات إلى الدليل والبرهان...؛ لذلك لا بُدَّ من إيراد تعريف للمفهوم ( الامة العراقية ) وتحديده وبيان حدوده وتوضيح معالمه ... ؛ تمهيداً لطرحه وعرضه ومخاطبة الجماهير به ... ؛ او للولوج إلى حلٍّ للإشكاليّة المطروحة كما هو الان .
وقد نلتمس العذر للملك فيصل والقوم آنذاك ؛ لأسباب عديدة منها : انهم غرباء ودخلاء ؛ بالإضافة الى تركات وتبعات الاحتلال العثماني ومضايقات وتدخلات الاحتلال الانكليزي ؛ والتجربة السياسية الجديدة وانعدام الكفاءات الوطنية في المجالات الحيوية ... ؛ وبعد مضي اكثر من 12 عام من تأسيس الدولة العراقية المعاصرة ؛ أدرك الملك فيصل حقيقة المستنقع العراقي واراد تصحيح الامور ؛ من خلال استخدام مصطلح الامة العراقية ومحاولة ايجاد تجربة سياسية في بلاد الرافدين تحاكي مفهوم الامة وفقا للنظرية الفرنسية ؛ وسأذكر بعض الاسباب التي دعت الملك فيصل وغيره من الساسة والكتاب لاستخدام هذا المصطلح :
- 1-لتفريغ الثورة العراقية الكبرى في 1920، من مضمونها التحرري .(3)
- 2-من باب دغدغة مشاعر الأفراد الساخطين واليائسين ، والاستحواذ على اهتمام الجماعات المشتتة والمهمشة . (2)
- 3-عندما وصل فيصل إلى العراق شاهد الفروع المختلفة بالبلاد: عشائر ومذاهب وأديان وقوميات، تركتها الدولة العثمانية بلا رابط اجتماعي وسياسي، حسب ما ذكره كُتاب وباحثون مِن الذين نفوا حتى وجود العراق كاسم، لذا حَسب الملك للرابط الجغرافي حساباً، ليصبح قاعدة في تشكيل هذه الأُمة... ولم يتقدم بإدخال «السدارة» غطاء الرأس، والذي عُرف نسبةً إليه بالفيصلية، إلا لخلق مزاج جديد يتناغم مع الدولة الحديثة، ورمز لصب الفروع في الأصل، مِن دون أن يلغي بعضها بعضاً... و دعم فيصل شعاره: «الاُمة العراقية» وسدارته التي أخذ يعتمرها موظفو الدَّولة، بمخاطبة زعماء الدَّولة، والغالب منهم، ممَن لم يستطع التخلص مِن آثار السياسة العثمانية تجاه الأديان والمذاهب والقوميات، أي الفروع، قائلاً: «إن البلاد العراقية، هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية. ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدِّينية... يحتاج ساستها أن يكونوا حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء، مادة ومعنى، غير مجلوبين لحِسيات أو أغراض شخصية، أو طائفية» ... وأضاف الملك في مذكرته معترفاً بالتَّأثير العثماني على إدارة العراق الجديدة قائلاً: «العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سُنَّية، مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني. وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتَّخلي منها، بدعوى أنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى الحكومة نفسها. إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي، الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التَّمرن عليه، والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي، المنقسم إلى هذين المذهبين...» (4) أي انه اراد دمج المواطنين في دولة مواطنة وتصحيح اخطاء الفترة العثمانية والتخلص من تبعاتها واثارها البادية على التجربة السياسية الجديدة ... .
- 4-... فماذا أراد الملك من هذا الخطاب غير درء السياسة التركية، التي وجد أثرها واضحاً في أدمغة كبار موظفيه ؛ لكن لم يستمر الحال على ما هو عليه، فبعد أن تدرج الكُرد والشيعة وباقي الطوائف في التعليم والتَّأهيل، أخذ ذلك التمييز ينحسر رويداً رويداً، فتسنم الكُردي والشِّيعي وزارات سيادية ورئاسة وزارة ومراكز خطيرة في الدَّولة ... (4) – لا اوافق الكاتب بكل ما ذهب اليه انفا ؛ اذ لم يحصل الشيعة على ربع استحقاقهم الوطني قط - .
- كان الملك فيصل محاصرا حصارا شديدا من قبل بقايا العثمنة ورعايا وخدم ومرتزقة الاتراك والذين كانوا اشبه بالعملة ذات الوجهين ( عملاء مزدوجون ) ؛ ولاءهم الاول والاخير للأتراك والانكليز ؛ ولم يكن للعراق منهم نصيب من الخير والخدمة ابدا ... ؛ بل بلغت الوقاحة بهم ان رشحوا الأمير التركي برهان الدين أبن آخر سلاطين الدولة العثمانية لحكم العراق مرة اخرى لولا معارضة الانكليز والقوى الوطنية وقتذاك ... ؛ ومر عليكم في حلقات ( طائفية ساسة العراق وعنصريتهم ) تصرفات هؤلاء العملاء مع الملك فيصل ومحاولاتهم المستمرة لتعطيل كافة المشاريع التي تصب في صالح العراق والعراقيين الاصلاء ... ؛ وذلك من خلال علاقاتهم المشبوهة بالأتراك والانكليز معا ... ؛ وقد شرعوا بمعية الانكليز قوانين واتفاقيات جائرة تسمح للأتراك بأخذ حصة من نفط كركوك لسنين عدة ... , بل تساهل هؤلاء الاوغاد بمسألة ترسيم الحدود بين الدولتين اذ استولت تركيا على اراضي عراقية شاسعة وارادت ضم الموصل ايضا لولا معارضة المجتمع الدولي ... , حتى زوجات البعض منهم تركيات كالمدعو الطائفي عبد المحسن السعدون – وليته كان سعيد معها ؛ اذ عد البعض ان من اسباب انتحاره سوء علاقته الزوجية ..!! - ؛ والعجيب في الامر انك عندما تعرج من بغداد صعودا الى المناطق الشمالية الان وتسأل اهالي تلك المناطق ك تكريت وغيرها عن احوالهم الاجتماعية وجذورهم واصولهم سوف تصدم بكثرة المصاهرات بينهم وبين الاقوام العثمانية فالكثير منهم يرتبط بالأتراك بالنسب من جهة الاب او الام ... ؛ حتى الكردي العثماني بكر صدقي صاحب اول انقلاب عسكري اغتيل في الموصل وهو في طريقه مسافرا إلى تركيا ... ؛ بل ما من مسألة وطنية او قضية سياسية تخص الشأن العراقي الا وذهب هؤلاء الاوغاد الى الاتراك كي يطلبوا منهم التدخل في الشؤون الداخلية والقضايا الوطنية واليك نماذج من هذه الافعال الخسيسة والعمالة للأجنبي : (( عقدوا مع الاتراك عدة اتفاقيات ومنها اتفاقية سعد اباد ومن ثم حلف بغداد ... وكلها تصب في صالح الاتراك – باعتبارهم الطرف الاقوى والمفاوض العراقي - وقتذاك - او الذي يدعي تمثيل العراقيين مجرد عميل بريطاني وذيل عثماني ليس الا - ؛ وكذلك عندما ساءت العلاقات العراقية البريطانية ؛ هرول هؤلاء الجحوش الهجينة الى تركيا لاستشارتها ؛ بصفتها دولة صديقة ومجاورة للعراق ولكونها عضواً في ميثاق سعد آباد في الموقف الأفضل الذي يمكن أن يتخذه العراق بالنسبة للحرب ولأطراف الصراع – الحرب العالمية الثانية - , وكان الوفد مؤلفاً من نوري السعيد وزير الخارجية وناجي شوكت وزير العدلية والى جانب مهمة الوفد أعطيت تعليمات سرية الى ناجي شوكت من دون علم نوري السعيد للاتصال بفون سفير ألمانيا في انقرة للتعرف على موقف الألمان الحقيقي من القضايا المصرية للأمة العربية وللبحث معه في إمكانية التعاون العربي الألماني – كما يدعون - وشهدت عشرة الأشهر التي تلت اجتماع شوكت بالسفير الالماني تردياً في العلاقات العراقية – البريطانية كما شهدت مفاوضات مكثفة بين القادة العرب وألمانيا وإيطاليا والاتحاد السوفيتي من جهة ثانية وكان هدف تلك المفاوضات حصول القادة العرب على ضمانات من تلك الدول باحترام استقلال بلدان الوطن العربي والتعهد بتوفير السلاح والمساعدة في حالة نشوب صراع مسلح بين العراق والقوات البريطانية ؛ وقد واجهت حكومة الكيلاني صعوبات متزايدة في الأشهر الأخيرة من عام 1940، كما تفاقمت الخلافات بين أعضاء الوزارة خاصة بين ناجي شوكت ونوري السعيد ثم أن الحكومة البريطانية مارست كل أنواع الضغوط ؛ ومنها : أنها قطعت أمدادات الأسلحة عن الجيش العراقي وروجت إشاعات مفادها أن العراق في طريقه الى إعادة العلاقات مع ألمانيا , وأبدت بريطانيا معارضتها الشديدة لهذه الخطوة بل أنها هددت بأنها سوف تعيد النظر بعلاقاتها مع العراق إذا أقدم هذا على إعادة علاقاته مع ألمانيا وهي بهذا تطالب باستقالة رشيد عالي الكيلاني من رئاسة الوزارة... وفي اجتماع البرلمان في 30 كانون الثاني 1941، أسمع بعض النواب رئيس الوزراء انتقاداً وكلاماً مهيناً فطلب من الوصي حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة فطلب الوصي منه إمهاله حتى المساء للنظر في الأمر وعند مغادرة الكيلاني دبر الوصي أمر فراره الى الديوانية وعليه قرر الكيلاني الاستقالة... ؛ ثم دفعتهم تركيا للتحالف مع الالمان ضد البريطانيين ؛ ولتمرير هذه الصفقة السياسية المشبوهة رفع هؤلاء شعارات الوطنية والامة العربية وتحرير العراق من النفوذ البريطاني... اذ اعلن هؤلاء حركة مايس عام 1941 ... الخ ؛ لذلك اسماها الناس وقتذاك ب (بالعامية : دگة رشيد عالي الكيلاني ) فقد استلم رئاسة الوزراء الكيلاني من جديد , فامتنعت بريطانيا عن الاعتراف بالوزارة الجديدة، وبدلا عن ذلك صعدت الموقف بإدخال قوات عسكرية اضافية إلى العراق دون إذن مسبق ... ؛ ونشبت المعركة - معركة الوكالة : نيابة عن الاتراك والالمان – بين الطرفين ... ؛ وبهذا كانت قد أعلنت الحرب على بريطانيا من قبل قادة حركة مايس / أيار من عام 1941 ؛ حيث اخذت دار الإذاعة العراقية من بغداد تبث البيانات العسكرية والتي تخللتها الاناشيد الحماسية والتي سبق وأن أوعز الملك غازي بنظمها عند انشائه لمنظمة الفتوة والشباب، والإذاعة الخاصة به، ومنها أناشيد «موطني» و «لاحت رؤوس الحراب تلمع بين الروابي» و«نحن الشباب لنا الغد»، و« يا تراب الوطن ومقام الجدود ها نحن جينا لما دعينا للخلود» ... ؛ وقد تغلغل (عملاء النازية) في صفوف الحركة وقد دفعت الحكومة على إعلان محاربة الشيوعية بينما كانت أهداف الحركة ضد الاستعمار البريطاني مما أغاظ جماهير واسعة من المثقفين وأصحاب الفكر وأثار الشك والظن لديهم عن أهداف الحركة ؛ فهي ليست من أجل مصلحة العراق وطن وشعب وتجردوا من مساندتها ودعمها... (5) ؛
- كانت ذريعة بريطانيا بإنزال قواتها في العراق هو مرورها عبر الاراضي العراقية إلى فلسطين للاشتراك في المعارك الدائرة في اوروبا ، واستنادا لبنود المعاهدة العراقية -البريطانية لسنة 1930 كان لزاما على بريطانيا طلب موافقة يقدمه ملك بريطانيا إلى ملك العراق لانزال القوات البريطانية إلى الاراضي العراقية ولما كان الوصي عبد الاله قد فر إلى الاردن فلم يكن امام السفير البريطاني الا بالتعامل مع الشريف شرف – الذي نصبه قادة الحركة - ورشيد عالي الكيلاني نفسه ... وقد وافق - ( الشفيه )- رشيد عالي الكيلاني على نزول الوجبة الاولى من القطعات وهي عبارة عن اللواء العشرين البريطاني مع كتيبة مدفعية ميدان واسراب من طائرات الفلانشيا وبعض افواج المشاة المتجحفلة ... ؛ وبدأت المعركة وباءت كل خطط رجال الحركة بالفشل الذريع ؛ وشرع الطيارون البريطانيون بمهاجمة القواعد الجوية العراقية التي كانت تقلع منها الطائرات العراقية المهاجمة ، كما هاجمت مرابض كتائب الدفاع الجوي العراقية وكتائب المدفعية الثقيلة الاخرى المحاصرة للقاعدة البريطانية ... ؛ وبعد معارك حامية الوطيس وسقوط العديد من الضحايا في صفوف الجيش العراقي وتكبد العراق خسائر مادية وبشرية جسيمة ... ؛ هرب الكيلاني وحكومته والمربع الذهبي من العاصمة ؛ وترك قيادة العمليات للقطعات المدافعة من خارج بغداد والتي انظمت اليها فرق المجاهدين من المتطوعين وافراد العشائر ...!!
- وضعفت المقاومة وبدأت تنسحب شيئا فشيئا من مواقعها القتالية امام تقدم القوات البريطانية ... ؛ وفي بداية يونيه / حزيران 1941 طلبت القوات البريطانية الهدنة ؛ فاختير محافظ بغداد ارشد العمري لمفاوضتها ... ؛ واذا بالعقداء الأربعة يتسللون بسياراتهم الى الحدود الإيرانية قرب خانقين ثم لحق بهم في اليوم التالي رئيس الوزراء الكيلاني وعدد من المسؤولين ... , ولجأ ( القائد الشفيه وزعيم الحركة ) رشيد عالي الكيلاني إلى المانيا عبر تركيا - ومن ثم اللجوء إلى المملكة العربية السعودية ؛ ولقد بقي الكيلاني في السعودية إلى أن أُطيح بالنظام الملكي في العراق في حركة 14 يوليو / تموز 1958؛ حيث عاد الكيلاني إلى العراق وبلغ من العمر 66 عاما، وأخذ ينتقد سياسة رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وحوكم بتهمة محاولة قلب نظام الحكم مع مجموعة من السياسيين أمثال ناظم الطبقجلي، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد مختار بابان، والعقيد رفعت الحاج سري، وغيرهم وسرعان ما أُخلي سبيله مع أحمد مختار بابان ؛ وغادر رشيد عالي الكيلاني العراق بعد إخلاء سبيله من تهمة التآمر، وسافر إلى لبنان وبقي فيها لغاية وفاتهِ في بيروت عام 1965م - ... ؛ حيث خصص هتلر للكيلاني محطة اذاعة عربية من برلين سميت حيوا العرب من برلين بإدارة الاعلامي العراقي المعروف يونس بحري ..., و كان أعضاء المربع الذهبي هم : العقيد صلاح الدين الصباغ ، العقيد كامل شبيب ، العقيد فهمي سعيد ، والعقيد محمود سلمان ؛ من الذين تأثروا إلى حد كبير بالسفير الألماني فريتز غروبا ، وكان له بدوره تأثير كبير على السياسة في العراق خلال ثلاثينيات القرن العشرين وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين ... , وفي 4 مايو(آيار) 1942، سلمت بريطانيا كلا من يونس السبعاوي ومحمود سلمان وفهمي سعيد إلى الحكومة العراقية بعد أن ألقت القبض عليهم في إيران، وشكلت محكمة عسكرية سريعة أعادت محاكمتهم في نفس اليوم أمام المجلس العرفي العسكري، الذي أيد الحكم السابق الصادر في حقهم، والقاضي بإعدامهم، ونُفّذ بهم الحكم في اليوم التالي المصادف 5 مايو 1942، بحضور عبد الإله ونوري السعيد... ؛ أما صلاح الدين الصباغ، فقد فرّ إلى تركيا، وبقي هناك حتى عام 1945، حيث سلمته الحكومة التركية، تحت الضغط الشديد من الحكومة البريطانية، إلى الحكومة العراقية، في أكتوبر (تشرين الأول) 1945، وجيء به إلى بغداد، وأمر الوصي عبد الإله بشنقه أمام وزارة الدفاع صباح يوم 16 أكتوبر، وبقي معلقا فوق مشنقته لعدة ساعات، وحضر الوصي لمشاهدته، والشماتة به ... ؛ وماذا ينتظر المرء من الاتراك ؟!
- وصدق من قال :
- إذا كان الغراب دليل قوم .. فلا فلحوا ولا فلح الغراب
- ولكن هذا لا يعني ان اسباب اندلاع الحركة محصورة بما ذكرناه انفا ؛ ولا يعني عدم تأييد القوى الوطنية وبعض الجماهير العراقية لها ؛ لان العراقي الاصيل مجبول بطبعه على مقاومة وبغض كافة اشكال وانواع الاحتلال والنفوذ الاجنبي ودعم كل من يخرج على اعداء العراق ؛ فلسان حال العراقيين : ( عدو عدوي صديقي ) ؛ هذا بالنسبة للعراقيين الاصلاء , اما بخصوص هؤلاء فأمرهم مختلف تماما ؛ وقد عرفتم الدوافع الحقيقية لهؤلاء ؛ وما هم بنظر الاتراك او الالمان او الانكليز سوى حفنة من العملاء والمرتزقة ولا غرو في ذلك فالبعض منهم بل اغلبهم لا ينتمون الى هذه البلاد ؛ فقد يشاهد المرء في الخارج فعلا واحدا الا ان دلالة الفعل تختلف باختلاف الفاعل , فمعاوية الاموي كان يقيم الصلاة وكذلك الامام علي ولكن شتان بين الامرين ؛ فلكل منهما دوافعه ونواياه ... ؛ وسار رجال وحكام الفئة الهجينة على هذا المنوال كابرا عن كابر ؛ اذ تعتبر تركيا بالنسبة لهم الام الحاضنة – حتى وان كانت فاجرة وغادرة ...!!- , فكلهم مروا بها , او جاؤا منهم , او تعاونوا معها ضد مصالح العراق والعراقيين , و في انقلاب عام 1968 هرب الرئيس عبد الرحمن عارف الى تركيا ... ؛ واستمرت العلاقات العراقية التركية بالرغم من تبدل الحكومات وتغير الحكام ولم تتأثر بذلك اطلاقا ؛ وعندما تشاهد لقاء المجرم طارق عزيز وزير خارجية النظام الصدامي البائد وهو يتحدث عن العلاقات بين البلدين , ويوضح للمشاهد بان الفوائد والعوائد المالية والاقتصادية التي تحصل عليها تركيا من العراق تفوق المردود والمساعدات الغربية لها بكثير ... ؛ واما صدام فقد سمح لهم بدخول الاراضي العراقية بحجة مطاردة حزب العمال الكردي وكذلك بتقليل حصة العراق المائية بذريعة تجفيف الاهوار ... ؛ واستمر الوضع بالنسبة لرجال الفئة الهجينة حتى بعد سقوط النظام ؛ فإلى هذه اللحظة لا يجرؤ احد من هؤلاء الاوغاد على انتقاد وشجب الاعتداءات التركية السافرة ضد العراق والعراقيين ...!!
- وعلى الرغم من ان استخدام الملك فيصل لهذا المصطلح كان استخداما سطحيا او هامشيا ؛ لأنه بلا مفهوم حقيقي يلامس امال وتطلعات وتاريخ وحضارة اقوام بلاد الرافدين الاصيلة ؛ وكذلك من ردده خلفه كالببغاوات ؛ ولاسيما وان الحاشية المحيطة بالملك فيصل كانت تنقسم الى معسكرين لا ثالث لهما عثماني النشأة والهوى مع عمالة للإنكليز – اقتضتها الظروف وتقلبات السياسة – او عثماني النشأة والهوى الا انه ادعى العروبة ورفع شعار الامة العربية بالضد من ابناء العراق الاصلاء ؛ ولعل ساطع الحصري من ابلغ الشواهد على ما قلناه .
- ومع ذلك لم يقبل هؤلاء الدخلاء والغرباء بدعوات الملك فيصل التي تطالب بالمزيد من بذل الجهود لإنصاف الاغلبية العراقية الاصيلة وباقي المكونات العراقية , وازعجتهم مطالباته المستمرة – طبعا من باب الحفاظ على عرشه - ؛ عندها طفح الكيل وفار التنور , وضاق بهم ذرعا , وعرف الملك فيصل نواياهم ؛ مما ادى الى اغتياله في عام 1933 ؛ ولم نعد نسمع بهذا المصطلح اليتيم بعد ذلك مطلقا ؛ استكثروا علينا مصطلح ( الامة العراقية ) هذا المصطلح المحبب الى نفوسنا والذي نهرع اليه كلما داهمتنا الخطوب وتفاقمت الازمات وتوالت الغزوات والاحتلالات .
- ومن خلال ما تقدم ؛ يتضح لنا بأن عدم فهم البعض لمدلولات مصطلح ( الامة العراقية ) او سوء استخدام البعض الاخر لهذا المصطلح لتحقيق غايات مشبوهة ؛ او اهمال هذا المصطلح بل ومحاربته وتسفيه مفهومه ومعناه من فبل البعض ؛ لا يوقف الحراك العراقي الاصيل ولا يعطل مسيرة البحث عن الهوية العراقية الجامعة والمتمثلة بالأمة العراقية ؛ ومحاولات احيائها والنهوض بها من جديد , او صياغة مفهوم لهذا المصطلح يعبر عن الآمال والاهداف والتطلعات والقيم والتاريخ والحضارات العراقية , و لا يمنع من الضرورات الاجتماعية المطالبة بهذه الهوية الجامعة والحراك الجماهيري والشعبي لتحقيق هذا الحلم المشروع .
- ..............................................................
- 1-ثورة تشرين وتحديات إحياء الأمة العراقية / فراس ناجي .
- 2-الأمة العراقية : مفهوم بلا واقع/ ثامر عباس .
- 3-الأمة العراقية: جذور المصطلح وانبعاثه الجديد/ علاء اللامي .
- 4-الأُمة العراقية... وللجغرافيا أثرها الملموس نقلا عن تاريخ الوزارات العراقية للحسني / رشيد الخيون .
- 5-حركة رشيد عالي الكيلاني في شهر مايس / 1941 في العراق / فلاح أمين الرهيمي .
- 6-مجلة لغة العرب .
- 7- فيليب ايرلاند، العراق دراسة في تطوره السياسي، ترجمة جعفر الخياط، بيروت، 1949.
- 8-محمد حمدي الجعفري، بريطانيا والعراق حقبة من الصراع 1914 – 1958، بغداد، 2000.
- 9-علاء جاسم محمد، الملك فيصل الأول حياته ودوره السياسي في الثورة العربية وسورية والعراق 1883 – 1933، بغداد، ط1، 1990.
- 10-عبد الرزاق الحسني، الأسرار الخفية في حوادث السنة 1941 التحررية، صيدا، 1958.
- 11-كمال عثمان حداد، حركة رشيد عالي الكيلاني، صيدا، 1946.
- 12- ليلى ياسين حسين الأمير، نوري السعيد ودوره في حلف بغداد وأثره في العلاقات العراقية – العربية حتى عام 1958، بغدا، 2002.
- 13-فاروق صالح العمر ، المعاهدات العراقية البريطانية واثرها في السياسة الداخلية من 1922 ولغاية 1948, 1977 .
- 14-عبد الرزاق الحسني ، احداث عاصرتها ، 1992 .
- 15 عبد الرحمن البزاز ، العراق من الاحتلال حتى الاستقلال ، 1967.