نَمُّرُ في كلِّ حينٍ  ببعض المواقع الاجتماعية، وتمتلئُ حواسُنا بالضجة التي أحدثتها الديمقراطية (كمصطلحٍ، ولفظٍ)، فنمر صامتين لا معّقبين عليها، ممّا جعلني أتتبعُ أقوال المُنافحين، والراغبين بقوانينها، فتساءلت هل يعلمون معنى هذا المصطلح؟ ومن أين مصدره؟

إذا كان أصلُ كلمة الديمقراطية " يوناني "، ومُرّكب من كلمتين : (حكم الشعب)، فما المقصود باللفظ والمعنى من الحكومة الشعبية؟

هل هو حكم الشعب للدولة؟ أم الحكومة التي يرتضيها الشعب نفسه؟ وإذا كانت الديمقراطية وُجِدت قبل الميلاد، فهل في الإسلام ديمقراطية؟

*فإنْ بدأنا بالشطر الأول من السؤال : هل هو حكم الشعب للدولة؟

فنرد عليه بأننا لم نعلم قَط أنّ شعباً من الشعوب حكم بلداً كاملاً، وإنْ كان ذلك البلد قليل التعداد -النسمة-، كما كان في بلاد اليونان قديماً، ومن الصعب جداً وجود مثل هذا الحُكم في أحد البلدان المعاصرة، كما كان من الصعب جداً وجوده في البلدان القديمة.

*وسؤال الشطر الثاني : أم الحكومة التي يرتضيها الشعب نفسه؟

فجوابي بكل يُسرٍ وسهولة : بأنّ  هذا المصطلح هو السائد في الدُول القديمة قبل الميلاد، وما جاء بعد الميلاد إلى القرن السادس، أي قبل البعثة المحمدية -صلى الله عليه وسلم- بشيءٍ  قليل، وبيان ذلك أنّ الديمقراطية المزعومة، والتي ارتضاها الشعب قديماً، لم تقم على المبدأ الإنساني المُعتَرف :

١- بالمسئولية الفردية.

٢- عموم الحقوق وتساويها بين الناس.

٣- وجوب الشورى على ولاة الأمر وعدم الاستبداد.

٤- التضامن بين أطياف الشعب على اختلاف طوائفهم وطبقاتهم.

بل كان الشعب يحمل الرئيس على أكتافه إلى الحُكم، سواءً كان موالياً له أو مُجبراً، فكلاهما تحت رحمة الطغيان وقوة النفوذ، ينقمون ويغضبون، ولا يجدون مكاناً أو مُتنفساً إليه يلجأون.

وتجد الديمقراطية في اليونان، قد نَافحَ  عنها الفلاسفة في أكثر كتبهم، فدعوا إلى المساواة، والمقصود بالمساواة هنا :(أي المساواة الوطنية، وليست المساواة الإنسانية)، ومن أمثلة ذلك فلسفة أفلاطون الحكومية، أنّ الشعب -الرعية- كالأطفال القُصّر يحتاجون إلى أوصياء، ويحق للحكومة " الوصية " عليهم أن تخدعهم بالحكايات والأساطير لضمان بقائها، وأيضاً صاحب المنطق أرسطو تحدث عن المساواة في الحرية بين المواطنين، وكان يرمز بذلك إلى صلاح الحُكم لا صَلاح الحقوق الإنسانية، والتي طالب بها أكثر المعاصرين، وكلّ إنسان بُثت فيه الروح وينتمي إلى أمةٍ من هذه الأمم، يستحق أبسط الحقوق الإنسانية.

وكما هو معلوم أنّ  روما قد تتلمذت على فلاسفة اليونان في المواضيع الفكرية والحكومية -الإدارية-.

وما أنْ نصل إلى عصر الجاهلية قبل الإسلام، حتى يكون حديثي منقسماً على وجهين :

الأول : أنّ  الجزيرة العربية قد عَرفت حرية البداوة عند القبائل قبل الإسلام، وهي مُطْلقة بلا قيود، ولكن في مثل هذه الحرية نظر؛ لأنها قائمة بدون مبدأ أو قانون، وقد شبّهها بعض النقاد بحُرّية الطير في السماء بتحليقه، بلا ضابطٍ  أو قيود، بينما حرية الديمقراطية التي نسعى لها، تخالف كلَّ هذه التحررات الفوضوية، وهذا الوجه مُتصل بحرية الأفراد التي لم تُقنن.

الثاني : طغيان الحُكم باستبداده وسلب حقوق الفرد، ومن أفضل الأمثلة استطراداً : كُليب وائل، وعمرو بن هند، فعندما تمكنا من الحُكم، وأمسكا بزمامه خير ممسك، خَرجَ  القامع المكنون بداخلهم، وبدأ التسلّط بأخذ الحقوق جهاراً أمام الرعية، فالأول كان إذا مرّ  بروضةٍ  من رياض القوم، فاستحسنها وأعجبته وقتئذ فهي له وتحت مُلكه، والويل لمن يعترض، والآخر كان يُخاطب الناس من وراء سُتور، وقيل عددها سبعة سُتور، وقيل أيضاً أنها لم تُفتح إلا للشاعر الجاهلي الحارث بن حلزة.

وبعد هذه العصور، والأحداث المتتالية، فقد مرّت الديمقراطية في أطوارٍ عدة، منذ عصر الأثينيين إلى عصر الجاهلي قبل الإسلام، فاكتشفنا أنّ الديمقراطية كانت للضرورة العملية أقرب منها إلى المبادئ الفكرية والحقوق الإنسانية، وأنّ مصطلح الديمقراطية (حكم الشعب) لم يأتِ  معناه بأنّ  الشعب يباشر في الحُكم بنفسه، أو إنابة أحد الأفراد للقيام بالحكم عنه، بل لم نرَ  منه سوى الاستبداد، والطغيان، واغتصاب الحقوق بغير حقٍ  وفرية.

*ونأتي إلى السؤال الأخير : هل في الإسلام ديمقراطية؟

فنجيب غير مكترثين بقول القائلين أو سخط الساخطين، بأنّ الديمقراطية لم تَسمُ  ولم تَعلو إلاّ بعد تهذيب الإسلام لها، وجاء التشريع الإسلامي بتقرير الديمقراطية وجعلها للإنسانية قاطبةً غير مقتصرة على فئة محددة دون أُخرى، (ووُضِعت الحقوق المناطة بالحاكم والرعية، وتساوت الحقوق بين أفراد المجتمع، وبذلك يتَساوى الثواب والعقاب، وجُعِلت المسئولية الفردية -الحرية- تكليفاً لا لعبَ  فيه ولا لهو، ليس به انفلاتٌ أو حرية مطلقة تتعارض مع حُريات الآخرين، ولا يُظلم أحدٌ بخطيئة أحدٍ آخر، ولا يكون الإجماع على حاكمٍ  إلا بعد التشاور بالشورى بينهم، وهم شوكة المجتمع من أهل الحل والعقد)، ونرى التفاوت الكبير بين ما انتجه البشر على مر العصور، وبين ما جاءنا به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقَبْل الدعوة المحمدية بقليل وأثناء انتشارها، كانت جزيرة العرب محاطة بعدة دول وأعراق مختلفة، فقد كانت دولة الرومان، والفرس، والحبشة، قائمة بذاتها، وتحيط بالجزيرة العربية، ولم تكن دولة من هذه الدول تقوم على الديمقراطية أو تؤمن بمبادئها، وكما ذكرنا أنّ  الإسلام أول من وضع صبغته على الديمقراطية، وكلامي هذا مبنيٌّ  على معطياتٍ كثيرة :

١- المسئولية الفردية التي أوجدتها هذه الصبغة.

٢- عموم الحقوق وتساويها بين الناس، وجعل الثواب والعقاب متساوٍ بينهم.

٣- وجوب الشورى لاختيار ولاة الأمر، ووجوبها في السلم والحرب.

٤- التضامن بين أطياف الشعب على اختلاف طوائفهم وطبقاتهم.

وهذه الصبغة الجديدة جاءت صريحة في كتاب الله -عز وجل-.

فنبدأ (بالمسئولية الفردية) : وهو إعطاء الفرد حق المعيشة الكريمة في المجتمع، ويترتب على ذلك إعطاؤه كامل حريته في القول والعمل، ويُقابل ذلك تحمل الفرد تبعات هذه الحرية المناطة بالمسئولية اتجاه الآخرين، فلا يجوز له إيذائهم بها، أو أنْ  يتعدى حدود حريته إلى اختراق حدود الآخرين بحريتهم، والديمقراطية الإسلامية لا تظلم فرداً ولا تحاسبه لخطأ غيره، وفي ذلك يقول تعالى :{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ويقول تعالى :{كُلُّ امْرِئٍ  بِمَا كَسَبَ  رَهِينٌ}.

ونأتي للثانية (عموم الحقوق وتساويها بين الناس) : وهو تساوي أصحاب الشرف العالي مع ذو الشرف الأقَل، وتساوي الغني بالفقير، والأبيض بالأسود في حقوقهم وواجباتهم، وأقربهم إلى الله من كان أحسنهم عملا، وفي ذلك يقول الله سبحانه في كتابه :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ   إِنَّا خَلَقْنَاكُم من ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ  وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }، وفي أفضلية النسب يقول تعالى :{فَلَا أَنسَابَ  بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :{لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى}.

والثالثة (وجوب الشورى) : وأهل الشورى هم أهل الشوكة من (العلماء، والرؤساء، ووجوه الناس الذين لا تقوم الولاية إلا بهم، ولثقة الناس فيهم، ويُسَمَّون بأهل الحل والعقد)؛ لأنهم يختارون الحاكم الصالح للرعية. وفي ذلك يقول تعالى :{وأمرهم شورى بينهم}، وقوله تعالى :{وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}، وقد استعان النبي -صلى الله عليه وسلم-، بآراء أصحابه الكرام في السلم والحرب، وقد وكَّلَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعض الصحابة بأمر اختيار الخليفة من بعده وهم :(علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبدالله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف)، ولذلك سُمُّوا بأهل الحل والعقد.

والرابعة (التضامن بين أطياف الشعب على اختلاف طوائفهم وطبقاتهم) : وهو أنْ يتعاون الجميع في المسئولية العامة، فقد يكون ضرر بعض الجُناة القِلة على المجتمع كاملاً، بتشويه صورته، أو زرع الفتن بين أفراده، فالله سبحانه وتعالى يقول في كاتبه :{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، ولهذا وَجُب التضامن بين أطياف المجتمع من (عربي، وأعجمي، وذِمي مالم يخن العهد)، فلكلٍّ منهم الحماية سواءً حماية (النفس، أو المال، أو العِرض)، وعليهم أن يتكاتفوا في إبطال أي مشروع يسبب الفوضى والخراب، وعليهم دفع الشر عن أنفسهم وعن مجتمعهم.

وفي الختام : نستطيع أنْ نقول بأنّ الديمقراطية كانت بمهدها في العهد القديم قبل الميلاد، مشتتة الأفكار والمبادئ، ولم يصلح فيها سوى لفظة :(حكم الشعب) مع عدم تطبيقها، وما إنْ فحصنا هذه الحقيقة حتى تَكَشّفَ   لنا ما بها من عيوبٍ  وتشوه، لأنها بفعل البشر واجتهاده، وظل هؤلاء على حالهم إلى أنْ جاءت الدعوة المحمدية بنضجها وكمالها، حيث كانت الدول التي تحيط بالجزيرة العربية لا تعرف ما الديمقراطية ولا تؤمن بمبادئها، كالروم، والفرس، والحبشة، ورأينا كيف جاءت الصبغة الإسلامية لتَـلُم الديمقراطية المشتته في الحُكم، وتبيّن ما للحاكم من واجباتٍ وما عليه من حقوق، وما للرعية من واجبات وما عليهم من حقوق، فالمسئولية قائمة على الجميع، فأعطت كلّ ذي حقٍ حقه، وحاسبة كل مسيءٍ  بفعلِ سوءته، فلم تَظلِم ولم تُظلم.

وعَجِبتُ  أشد العجب، فيمن دعى إلى الديمقراطية ونسِيَّ أنّ الذي هذّبها وجعلها بأحسن الصور والمعاني هو (الإسلام)، فكيف ندعو بمصطلحٍ وقد تكفّل الإسلام به، وجعله جوهراً في مبادئه، وألبسه لباس الحق والعدل في الواجبات والحقوق، وكيف نلجأ إلى المذاهب الدنيوية الأُخرى، ونترك ما قدّمهُ الإسلام لنا! أليس علينا أنْ نعرف جوهر ديننا قبل أنْ نبحث عن بديل؟ عَلِمْنا مهد الديمقراطية ونشأتها، وعَلِمْنا جوهر الإسلام ومبادئه، فلا عُذر لمن عَلِم الحق وتجنبه، ولا عُذر لمن عَلِمه وصمت عنه، والله في كتابه يقول :{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ   فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

أقول قولي هذا واستغفر الله العلي العظيم، إنه هو الغفور الرحيم.