إلى المتمسكين بأفضلية صدقة سقي الماء بإطلاق:

يكثر الناس التصدق ببرادات الماء في المساجد، وإن جاء رمضان ما أكثر ما تمتلئ المساجد بصدقات الناس بعبوات الماء بمختلف أشكالها وأصنافها، وبعضهم عن اعتقاد أفضلية التصدق بالماء على غيره اعتمادا على حديث مختلف في صحته أولا، ومختلف في مدلوله ثانيا.

جاء في سنن أبي داود, باب في فضل سقي الماء, عن سعيد يعني ابن المسيب: أن سعداً أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أيُّ الصدقةِ أعجبُ إليك؟ قال: "الماء".وفي رواية عن سعيد بن المسيّبِ والحسن عن سَعْدِ بن عُبَادة

عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... مثله.

ومن طريق رجل عن سعد بن عبادة: أنه قال:

يا رسول الله! إن أم سعد ماتت؛ فأيًّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال:

"الماء".

قال: فحفر بئراً وقال: هذه لأم سعد.

أولا—الخلاف في صحته:

قال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح أبي داود الأم (5/368): "فالإسناد صحيح؛ لولا الانقطاع بين سعيد وسعد كما تقدم، وكذلك بينه

وبين الحسن- وهو البصري-؛ فإنه لم يدركه أيضا.

والحديث أخرجه الحاكم (1/414) ، وعنه البيهقي (4/185) من طريق أخرى

عن ابن عرعرة ... به.

وتابعه عفان: ثنا شعبة ... به: أخرجه البيهقي.

وتابعه هشام صاحب الدَّسْتَوَائِيُّ عن قتادة عن سعيد وحده.

أخرجه ابن ماجه (2/394) ، وابن خزيمة في "صحيحه " (ق 252/1) ، وعنه

ابن حبان (858) .

وأخرجه أحمد (5/284) عن المبارك عن الحسن وحده.

وهو رواية له من طريق شعبة عن قتادة قال: سمعت الحسن ... به.

وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، مخرج في "التعليق الرغيب " (2/52

-53) ؛ فهو به حسن.

وقال الشيخ العباد في شرح سنن أبي داود (204/17): "والحديث فيه رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة وهو لم يدركه، ففيه انقطاع، ويقولون: إن أصح المراسيل هي مراسيل سعيد بن المسيب.

وهذا الحديث حسنه الألباني، فلا أدري وجه هذا التحسين مع هذا الانقطاع، فهل له شواهد, أو لكونه من مراسيل سعيد ومراسيله أصح المراسيل عند المحدثين؟ ولكن المشهور والمعروف أن المرسل منقطع، وأنه ليس بحجة؛ لاحتمال أن يكون سقط تابعي مع الصحابي، ومع احتمال كونه تابعياً يحتمل أن يكون ثقة، ومحتمل أن يكون ضعيفاً، والإشكال يأتي من احتمال كونه تابعياً ضعيفاً.

وقد ذكر بعض الطلبة أنه جاء في (السلسلة الصحيحة) حديث برقم (2615) من طريق أنس عن سعد بن معاذ عن سعد بن عبادة، أنه حفر بئراً وتصدق بها عن أمه كما في الحديث الذي جاء من طريق الحسن وسعيد بن المسيب عن سعد بن عبادة، وهما لم يدركاه، فهذا جاء من طريق أخرى من رواية سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

وذكره الشيخ الألباني في (صحيح سنن النسائي) برقم (2367، 2368).

لكن كلا الإسنادين يرجعان إلى ابن عجلان؛ لكن الأول ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد والقعقاع عن أبي هريرة.

الثاني: ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة.

ذكر يعني طريقين: طريقة فيها ابن خالد وطريقة أنها أخرى فيها محمد بن عمرو بن وقاص الليثي".

فمن حسن إسناده نظر إلى مجموع الطرق، ومن ضعفه فبالانقطاع, وهي أوضح علة، وبعلل أخرى، وقوة السند لو كانت على قدم راسخة توحي بإطلاق أفضلية صدقة الماء للسؤال. {أي الصدقة أعجب إليك}، على أن النظر في نصوص أخرى يلغي هذا الإطلاق، منها ما في الترمذي, 1625 عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " " أَفْضَلُ الصَّدَقَاتِ ظِلُّ فُسْطَاطٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَنِيحَةُ خَادِمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ طَرُوقَةُ فَحْلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "

وما رواه أحمد في مسنده, 23000 عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ

ثانيا—الاختلاف في معناه:

قال المباركفوري في مرعاة المفاتيح(6/346): "أي الصدقة أعجب إليك (قال الماء) وفي رواية أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان. قال: سقى الماء أي في ذلك الوقت لقلته بالمدينة يومئذ، أو على الدوام، لأنه أحوج الأشياء عادة قال القاري: إنما كان الماء أفضل، لأنه أعم نفعاً في الأمور الدينية والدنيوية خصوصاً في تلك البلاد الحارة ولذلك من الله تعالى: {وأنزل من السماء ماءً طهوراً لنحيي به بلدةً ميتةً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً} [الفرقان: 48، 49] كذا ذكره الطيبي. وفي الأزهار الأفضلية من الأمور النسبية، وكان هناك أفضل لشدة الحر والحاجة وقلة الماء (فحفر) أي سعد وفي بعض النسخ. قال: أي الراوي عن سعد فحفر، وهكذا وقع في أبي داود (بئر) بالهمز ويبذل (وقال) أي سعد (هذه لأم سعد) أي هذا البئر صدقة لها أو ثواب هذه البئر لها، وفيه فضيلة سقى الماء، وفضيلة الصدقة عن الميت، وإن ثواب الصدقة المالية يصل إلى الميت وهو أمر مجمع عليه، لاختلاف فيه عند أهل السنة".

والشاهد قوله: "أي في ذلك الوقت لقلته بالمدينة يومئذ، أو على الدوام"، فبين أنها قد تكون أفضلية دائمة، ويمنع منه غيره من الأحاديث التي فيها التعبير بأفضل الصدقة كذا، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم غير الماء، ويحتمل أن يكون المقصود بالحديث أفضلية مؤقتة بحسب الحاجة، كما مر نقله.

ولعل القول بالأفضلية النسبية بحسب الحاجة هو الأقرب, قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح ص415: "وأفضل الصدقة: ما صادفت حاجة من المتصدق عليه، وكانت دائمة مستمرة.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة سقى الماء ). وهذا في موضع يقل فيه الماء، ويكثر فيه العطش؛ وإلا فسقي الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة".

وبهذا تتفق الأحاديث التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أحوالا وأعمالا في أفضلية الصدقة، والله أعلم.

وعليه, فلينظر المسلم وليكن فقيها في رمضان وغير رمضان، ما يكون الحاجة إليه شديدة فليتصدق به, وليتصدق بأفضل ما يجد كما وكيفا ونوعا, فإن جاء الناس بتمر جاء بأجود أنواع التمر، وإن جاء الناس بماء في الصيف أتى به أبرد وأوفق لحال الحر، وإن أتى الناس بالبرادات جاء بأجود أنواعها، ولا يكرر ما يفعله غيره، حتى لا تهمل صدقته ولا ينتفع منها، أو تكدس مع غيرها، بل صدقته دائما بالأجود والأفضل رواجا، والأوفق للحال أو الوقت، وباختصار ما صادفت حاجة عند المتصدق عليه كما قال ابن القيم رحمه الله. والله الموفق.