انشد الشاعر العربي ابيات في القناعة ؛ تحتوي على صور شعرية جميلة ... ؛ قال فيها : 

اقنع بأيسر رزق أنت نائله ... واحذر ولا تتعرض للإرادات

فما صفا البحر إلّا وهو منتقص ... ولا تعكّر إلا في الزيادات

فقد أوصى الشاعر السامع بالقناعة ؛ اذ طلب منه الاقتناع بما تيسر له من الرزق حتى وان كان قليلا ؛ اذا لم يكن بالإمكان زيادته بالطرق المشروعة والممكنة ... ؛ بل حذر الشاعر السامع من عدم الاقتناع والاعتراض على سنن الكون واقدار الزمان وصروف الدهر والتعرض للإرادات العليا ؛ ولا أدري ماذا يقصد الشاعر بهذه الصورة الشعرية ...؛ اذ يصور لنا وجود مجلس اعلى للإرادات السماوية او الملائكية  ؛ او يقصد الارادة الالهية وفقا للثقافة الاسلامية ؛ والآيات القرآنية تؤكد ذلك ومنها : ((وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )) و : ((قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر )) ... ؛ اذ ان التعرض والاعتراض على الارادة الالهية وفقا للمنظور الاسلامي يؤدي الى الهلكة والخسران ... ؛ ويكمل الشاعر رسم الصورة الشعرية اذ يشبه احوال الانسان ومقدار رزقه بالبحر ؛ فالبحر تصفو مياهه وتهدئ امواجه عندما ينقص مائه ... ؛ بينما يتعكر مائه وتضطرب امواجه عندما يزداد الماء فيه ... .

اشار الشاعر في هذه الابيات الى موضوع اخلاقي وقيمي في غاية الاهمية ؛ فالقناعة مفتاح عظيم من مفاتيح السعادة ، والقناعة تعني الرضا بالنعم الموجودة والتمتع بها : من مال ، وصحة وعافية ، ومنزل ، وزوجة وأبناء، ... ؛  فالقناعة هي الاكتفاء بالموجود – ان كان يحقق للشخص السعادة - ، وترك الشوق إلى المفقود... ؛ والقناعة ينبغي ان لا تفهم بأنها الرضا بالأحوال السيئة وعدم محاولة تطويرها او تغييرها ؛ او عدم السعي من اجل الثراء والرفاهية ... ؛ بقدر ما تعني الاستمتاع بالنعم الموجودة وبذل الجهود لتحصيل النعم المفقودة ولكن بالطرق المشروعة وحسب امكانيات وقدرات الفرد الشخصية ؛ اما الركض خلف النعم المفقودة وبذل الجهود الحثيثة للازدياد واكتناز الاموال ... ؛ واهمال النعم الموجودة وعدم الاستمتاع بها ؛ وتبقى ( عينك فارغة ونفسك طامعة ) كما يقول المثل الشعبي ... ؛ فهذا الحال داء لا دواء له ؛ اذ تبقى تؤجل السعادة يوما بعد يوم , فالمفروض بك الاستمتاع بالزوجة والرضا بالعش الزوجي ... ؛ واذ بك لا تقنع ولا تسعد وتؤجل الامر الى حين شراء الدار ؛ ومن ثم تشتري الدار وكذلك لا تهنئ بها ؛ وتؤجل السعادة الى حين اقتناء السيارة ؛ وعندما تشتري السيارة ؛ ايضا يستمر الحال كما هو عليه ؛ عندها تكون مصداقا لقول الشاعر :

يعز غني النفس إن قل ماله * * * ويغنى غني المال وهو ذليل

وقال أبو فراس:

إن الغني هو الغني بنفسه * * * ولو انه عاري المناكب حاف

ما كل ما فوق البسيطة كافيا * * * وإذا قنعت فبعض شيء كاف

وكما قال الامام علي :

فقير كل ذي حرص * غنى كل من يقنع

فالجري كالوحوش خلف الثراء وادخار الاموال والعمل من اجل المال فقط ؛ والركض وراء المال لأجل المال  لا غير ... ؛    يؤدي لتدمير العلاقات العامة بين الناس ,  بل وتعكير الاجواء الاسرية والعائلية , وشحن الشخص بالطاقة السلبية ؛ وتجعله كالماكنة النقدية او الانسان الالي بلا مشاعر ولا احاسيس ايجابية ... ؛ وعندما تراقبه من بعيد تلاحظ انه يعمل ويجمع المال لغيره ؛  وليس له منه سوى التعب والارهاق والتعاسة والمنافسة مع الاخرين وتبادل مشاعر الحسد ... . 

والناس اصبحت تربط السعادة باقتناء الاشياء بينما السعادة شعور داخلي قد يستشعره الانسان مع ابسط الامور ؛ فليس من الضروري ان تسعد باقتناء السيارة ؛ اذ لعل السعادة  تتحقق بالتخلي عن الشيء لا بامتلاكه ؛ وفيها قال  القهستاني :

غنيّ بلا دنيا عن الخلق كلّهم ... وأنّ الغنى الأعلى عن الشيء لا به

فالقناعة هنا تعني الحالة الايجابية والتفاؤل الذي يلازم الشخص والاستمتاع بما هو موجود , والثقة بالله  ؛ وفيها يقول عمر بن أبي عمر اليوناني :

غلا السعر في بغداد من بعد رخصة ... وإنّي في الحالين بالله واثق

فلست أخاف الضيق والله واسع ... غناه ولا الحرمان، والله رازق

وصدق من قال : (( يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة. وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنّهُم؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تبصر من هم تحتهم؛ فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا... ؛ ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها )) (1)

اذ بعض الناس يعتقد أن الغنى الحقيقي هو غنى الأموال والمناصب والوجاهات والعلاقات  , وينسى أن كثيرا من الناس يملكون من الدنيا كثيرا لكنهم فقراء النفس ومساكين القلب , فقد أعمى الطمع قلوبهم قبل أعينهم عن مصدر السعادة والغنى الحقيقي , ألا وهو غنى القلب والرضا وسكينة النفس والطاقة الايجابية .

وبما ان الحياة ليست منصفة دائماً ؛ وارزاق الناس مختلفة ومتفاوتة , علينا التحلي بالقناعة ؛ لان النظر الى املاك الغير والحسد والتحسر والضجر لا ينفع بشيء ابدا ؛ بل يزيد الامر سوءا ؛ لذلك قيل : ((اثنان لا يصطحبان أبداً: القناعة والحسد، واثنان لا يفترقان أبداً الحرص والحسد )) . 

يكاد أن تكون شكوى الناس من القلق وانتزاع الطمأنينة من قلوبهم من أهم مظاهر الحياة المعاصرة،  و يعود ذلك لأمور كثيرة من أبرزها افتقاد عنصر القناعة ، نعم إنها القناعة بكل أشكالها ، والرضا بكل أبعاده ، فلم يعد الشخص مقتنعا بما هو عليه ؛ ولا راضيا عن وظيفته وشكله وزوجته ومسكنه وعشيرته ؛ بل حتى الوطن الذي يعيش فيه، والمجتمع الذي حوله ، ينظر لكل شيء بسخط وعدم رضا ، وهو مع ذلك يتطلع لما ليس بيده ، وتستشرف نفسه الكمال في كل شيء... ؛ بينما تجد الشخص السوي والانسان الحكيم هادئ النفس راضياً بما فيه وسعيدا  وايجابيا ، فلا يسخط ولا يتبرم إذا لم يمتلك كل شيء من متع الحياة بل يقنع بما حققه وبما يسعى الى   تحقيقه  وفقا  لإمكانيته المتاحة ؛  فتمكن المرء بالمال القليل مع قلة الهم أهنأ من الكثير ذي التبعة والمشاكل ، ... ؛ وعليه من سابع المستحيلات ان تجد موظفا مرتشيا او مسؤولا فاسدا او لصا مجرما او شخصا جشعا  ... ؛ ذا قناعة .

وليس في هذا دعوة إلى الكسل والدعة او القبول بالواقع المزري  والمعيشة البائسة ، بل على المرء ان يعمل ويجد في سبيل تطوير حاله وتحسين معيشته واسعاد نفسه واسرته ... ؛ ولكن  عليه العمل بشرف والكسب بالطرق القانونية والمشروعة ... ؛ وان لا يطمع بما في أيدي الناس او ينظر لأملاكهم  كي يعيش حرا بينهم... ؛ فالقناعة لا تُعارض الطموح ؛ القناعة  :  هي حدود الممكن للطموح ... ؛ وبهذا لا يكون معنى  مقالنا هذا ؛  هو عدم العمل أو ترك الطموح ، بل هو في سياق الذي لا تتوفّر له الحياة الأفضل ماليّاً ، فيرشده المقال  إلى ضرورة القناعة من العيش وعدم التذمّر ولا السخط  ولا الشعور بالإحباط واليأس والفشل والطاقة السلبية ، فالقناعة عزّ لصاحبها ، وليست خمولاً عن العمل  او مضاعفة الجهد من اجل تحقيق الاهداف الشخصية . 

..............................................................................................

  • كتاب دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ / شحاتة صقر / ص 255 .