من خلال تتبع نمط استراتيجيات العديد من الدول القائمة على الاهتمام المبالغ فيه بحقوق الإنسان وقضايا المرأة والديمقراطية في إيران (مثل قضية وفاة الفتاة الإيرانية محساء أميني)، لم يعد من الممكن تجاهل مدى الاستغلال السياسي والأمني والثقافي، الذي يحدث.
من حيث المبدأ، هناك استراتيجية أصبحت واضحة ومعروفة، تقوم على خلفيات ثقافية هدفها الأساسي تفتيت المجتمعات من الداخل (الحروب الناعمة)، كما أن العديد من الدول (إسرائيل على وجه الخصوص) لا تستطيع على الإطلاق قبول حقيقة وجود إيران كقوة إقليمية كبرى، حيث تمكنت إيران، على الرغم من كل سياسات العقوبات المتبعة لعزل وتهميش إيران خلال الـ 45 عامًا الماضية، من بناء قوتها وتعزيز نفوذها الإقليمي.
وبالتالي، فإن تلك الدول المعادية لإيران ليس لديها خيار سوى التحرك نحو استغلال بعض القضايا الخلافية داخل المجتمع الإيراني، والمتعلقة بحقوق الإنسان والمرأة والديمقراطية من أجل زعزعة استقرارها وإضعافها، وعليه اتجهت هذه الدول نحو خيار الحرب الناعمة من خلال:
1- الاختراق الثقافي داخل المجتمع الإيراني لتمزيق بنيته السياسية.
2- دعم الحركات الإرهابية، بما في ذلك محاولة إعادة إنتاج داعش الجديدة.
وفي هذا السياق، هناك الكثير من الأدلة التي تؤكد تلك التدخلات الخارجية الهادفة إلى إغراق إيران في الصراعات والحروب الداخلية، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1- ضبط شحنات أسلحة قادمة من الخارج والتي تزامنت مع أعمال الشغب الداخلية.
2- تفكيك الخلايا الإرهابية، التي كانت تخطط لاغتيال شخصيات من أصول عربية وتنفيذ عمليات إرهابية في الأماكن الدينية لإشعال حرب أهلية.
3- القبض على مجموعات إرهابية مرتبطة بمخابرات أجنبية تعمل على تهريب أسلحة.
وبناءً على هذه الحقائق، يبدو أن الهدف الأساسي هو تدمير البنية المجتمعية، وتضخيم الاستقطاب السياسي، وتقويض الاستقرار الأمني، بحيث تصبح إيران أكثر هشاشة وعرضة للانقسام.
عمليًا، تواجه الجمهورية الإيرانية حربًا هجينة، هدفها السياسي هو مواجهة النفوذ الإيراني، حيث يرتكز هذا النفوذ على:
1- التمسك بالبرنامج النووي.
2- دعم حركات المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
3- التواجد في سوريا ومساعدة الجيش السوري في حربه ضد الحركات الإرهابية.
4- دعم الحوثيين في اليمن بشكل دائم.
5- ترسيخ النفوذ في العراق على جميع المستويات.
6- التقارب الاستراتيجي مع كل من روسيا والصين.
وهنا لا بد من الاعتراف بأن التوترات الإيرانية الداخلية ورقة رابحة حاولت الولايات المتحدة وإسرائيل استغلالها لتحريض الشعب الإيراني على النظام والاشتباك معه، هذا الوضع أو التحدي الجديد يتطلب من الحكومة الإيرانية تبني رؤية مختلفة حول كيفية التعامل مع مثل هذه التطورات.
حيث اتبعت الحكومة الإيرانية ومؤسساتها الأمنية سياسة ضبط النفس، وعدم اتخاذ أي خطوة استفزازية قد تؤدي إلى الصدام، على العكس من ذلك، تم العمل على:
1- امتصاص غضب الناس والسماح بالتظاهر.
2- مراقبة الوضع الأمني عن كثب والسيطرة على الخلايا الإرهابية.
3- الكشف للمجتمع الإيراني عن سياسات التعبئة والتحريض الإعلامي.
4- ما يدل على ارتباط العديد من حركات المعارضة بأجندة دول أجنبية.
5- ربط الأحداث الداخلية بالنمط القائم على تطبيق النموذج السوري في إيران.
في هذا السياق، وبغض النظر عن مدى قدرة الحكومة الإيرانية،على مواجهة هذه الحروب الناعمة، هناك تحديات سياسية وثقافية وأمنية داخلية خطيرة للغاية لا يمكن تجاهلها بعد الآن، وتتطلب إعادة النظر في العديد من السياسات التي كان يعتقد أنها أصبحت بديهية، بما في ذلك:
1-- لم يعد من الممكن اتباع سياسة تقوم على محاسبة الحكومات الإيرانية وتحييد المرشد الأعلى للثورة أو مؤسسة ولاية الفقيه من أي مسؤولية.
- وجود تغييرات جذرية مرتبطة بالتهديدات الأمنية، التي لم تعد محصورة بالتهديد الإسرائيلي بل امتدت لتشمل الحركات الإرهابية.
- زيادة التعقيدات المرتبطة بالمخططات الخارجية التي تسعى لتقويض أسس الدولة الإيرانية.
- الأزمات الداخلية تبدو الأكثر خطورة وقد تؤدي إلى تقديم تنازلات استراتيجية على مستوى الملف النووي والقضية الفلسطينية، والعلاقة مع سوريا وحركات المقاومة.
خلاصة القول…. إن الاهتمام المبالغ فيه بقضايا حقوق الإنسان يأتي في سياق الضغوط، التي تعرضت لها إيران منذ عقود لتحقيق أهداف جيوسياسية، لكن… وبحسب كيفية مواجهة إيران للتحديات السابقة، يبدو أنها قادرة على تجاوز الصعوبات الحالية، إذ لا تزال ركائز الدولة راسخة على جميع المستويات.
علاوة على ذلك، لا ينبغي الاستهانة بقدرة إيران على إعادة تقييم علاقاتها الخارجية، بناءً على المعادلة القائلة بأن أمن إيران مرتبط بأمن المنطقة، لدى إيران العديد من الخيارات التي تعزز هذه المعادلة، هناك استحقاقات متعددة الأبعاد مرتبطة بالواقع الإيراني، سواء من حيث البرنامج النووي أو زيادة حدة التصادم مع إسرائيل أو أمن الطاقة.
على سبيل المثال، لم يعد من الممكن الاعتماد دائمًا على ضبط النفس المستمر لإيران في اليمن، وما يترتب على ذلك من تداعيات استراتيجية إقليمية وعالمية، على الأقل على مستوى موازين أمن الطاقة العالمية.
ناهيك… عن أنه إذا نفد صبر إيران الاستراتيجي، فليس من المستبعد على الإطلاق أن تستهدف إيران المصالح الإسرائيلية مباشرة، ربما تكون المواجهة في مرحلة ما، مباشرة داخل فلسطين المحتلة نفسها.
إذ تدرك إيران تمام الإدراك، أن كل محاولات زعزعة استقرارها لا يمكن فصلها إطلاقًا عن ردود أفعال إسرائيل، التي تواجه خطرًا وجوديًا بعد أن خسرت كل حروبها مع محور المقاومة المدعوم بشكل كامل وغير محدود من الجمهورية الإيرانية.