الشعور بالمسؤولية : حين يولد الإنسان يكون مجرد من المشاعر ، ثم يكتسبها من مجتمعه الذي يعيش فيه ، و لا شك أن المرء يرث من آبائه شيئاً من مزاجه العام ، كما لا شك في أننا نشعر بأن بعض الناس خلق مهيئاً تهيئة خاصة ليكون شاعراً بواجبه ومسؤولياته ، لكن الجوهري في هذا الموضوع هو أن المجتمع هو الذي يحدد أبعاد الشعور بالمسؤولية لدى أبنائه .

طبعاً بلا شك الشعور بالمسؤولية هو من أحد أسباب الرقي و النهضة في المجتمعات و التحضر كذلك !

لماذا ؟ لأن بكل بساطة الشعور بالمسؤولية تجعل كل فرد يقوم بواجباته في المجتمع فيصبح المجتمع بذلك قادراً على النهوض للتطور أكثر

التعاليم السماوية وموروث الوصايا الأخلاقية و الأحكام الاجتماعية هذه مجتمعة جميعها هي التي تحفز الناس على الشعور بحمل تبعة العديد من الأمور ، لكن البيئة الثقافية السائدة هي التي تحدد عتبة و سقف ماهو مقبول من الالتزام الأخلاقي والسلوكي ،

وخذ على سبيل المثال جودة المنتجات الصناعية ، إذ أنك تجد لدى اليابانيين ومثلهم كل الدول الصناعية التزاماً بحد أدنى من الجودة يصعب على أي شركة الهبوط عنه ، وقل مثل هذا في بر الوالدين و معاملة الجار والجدية في العمل والحشمة في اللباس .

حيث أن كل مجتمع يحدد ماهو مثالي في كل هذا و ما هو غير مقبول ، أو غير مرغوب فيه ، و في الغالب ينجح المجتمع في إلزام أفراده بذلك ، و عن هذا الالزام ينشأ الشعور بالتبعة وامكانية المسائلة .

القاعدة العامة تقول : كلما ارتقى الانسان في سلم الكمال و مدارج التحضر قوي شعوره بالمسؤولية ، و زاد عدد الأشياء التي يعد نفسه مسؤولاً عنها ، وتضيق دائرة الشعور بالمسؤولية لدى الإنسان المتخلف والمنعزل والفوضوي ورحم الله عمر بن الخطاب حين كان يقول :"والله لو عثرت شاة في أرض العراق لخشيت أن يسألني الله عنها ، لمَ لم تعبد لها الطريق "

إن نهضة الأمة تظل منوطة بعمق الشعور بالمسؤولية لدى جماهيرها العريضة ، إذ أن متطلبات النهوض كثيرة و ثقيلة وحين تكون الأمة في حالة تخلف يسود اعتقاد بأن الحكومات تستطيع ، بل يجب عليها أن تفعل كل شيء ، كما أنه يكثر في الناس إلقاء اللوم على الآخرين أو على الظروف أو على الحظ العاثر أو على المجتمع برمته ، و لا ترى من يلوم نفسه أو يكشف عن دوره في البؤس الذي يقيم فيه ، كما أنك تسمع الكثير من التبريرات ، وترى قدرة استثنائية على اختلاق الحجج والأعذار التي تبرئ المقصرين من أي مسؤولية !

سنذكر بعض الأمثلة على تحمل اليابان المسؤولية بحق أفضل من بقية الشعوب بشكل عام

دولة اليابان دولة منظمة فنظامها مريح للأعصاب لأن الكل يعرف الذي له و الذي عليه , ومن ثم تقل الاحتكاكات و الخصومات بالرغم أن طوكيو بلد مزدحم , إلا أنه قلما يسمع فيه أصوات "البوري" في الشوارع ,
فقد يسمع مرة واحدة في اليوم فقط و عادة يكون على شيء كبير حصل ! لماذا ذلك ؟ لأسباب ثلاثة :
1- يوجد نظام واضح في الشوارع .
2- أن الكل يعرف هذا النظام و يفهمه جيداً .
3- أن الكل يطبق النظام الغني و الفقير , الكبير و الصغير , المواطن و الوزير دون تفرقة .
على الرغم من أن المعادلة أعلاه بسيطة إلا أنها غير مطبقة في أغلب البلاد الإسلامية .
طوكيو و القاهرة كلتاهما مزدحمة ! لكن هناك فرق هائل جداً بينهما , فطوكيو مزدحمة لكن الازدحام منظم و مريح كثيراً
أما القاهرة فهي أيضاً مزدحمة لكنها مزدحمة بشكل يساعد على ارتفاع ضغط من لا يشكو من ارتفاع الضغط .

ففي اليابان تجد شارعاً فارغاً ليس فيه سيارات أبداً ومع ذلك تجد شخصاً ماشياً في الشارع واقفاً على إشارة المشاة الحمراء إلى أن تفتح خضراء فيعبر الشارع !
على الرغم من أنه وحده و لا توجد سيارات ! ولا توجد رقابة ! لكنها رقابة داخلية موجودة عند الفرد الياباني
ضمير حي يفهم أهمية تطبيق النظام بشكل جيد و أن تطبيق النظام سيعود بالفائدة على بلده و مجتمعه وعائلته
ومن ثم عليه هو شخصياً في النهاية .

كذلك هناك مثال آخر عن تحمل مسؤولية الدولة في توفير الراحة و منح الحقوق للأشخاص العُمي فهم بشر مثلنا لابد أن يتمتعوا بنفس حقوقنا !

فكل شوارع طوكيو ومحلاتها و محطات قطاراتها فيها ممرات مخصصة للعمي ! وهي ممرات مدببة على الأرض بحيث يشعر بها الرجل الأعمى وهي مدببة بشكل طولي ثم عندما يكون هناك تقاطع أو درج تتحول إلى تدبيب على شكل دوائر حتى يعرف الأعمى بأن هناك تغيير في المسار !
لماذا كل هذا ؟ لأنه أصبح نظاماً معمماً في كل اليابان ! ولماذا أصبح نظاماً؟ لأنه في عام 1973 حصلت حادثة وقع أعمى في أحد محطات القطار في سير القطار , فمات !!
هو شخص واحد فقط و ليس أكثر !
ولماذا كل هذه الضجة على شخص واحد ؟ لأن المواطن الياباني له قيمة و لأن الحكومة تعد مسؤوليتها حماية المواطن من أي أذى !!
فقاموا بوضع قانون بوجوب ممرات خاصة للأعمى في كل شوارع اليابان وليس فقط الشوارع ولكن المصاعد وأجهزة شراء تذاكر القطار , كلها مجهزة بلغة (برايل) حتى يعيش الأعمى باستقلالية دون اللجوء لمساعدة أي شخص آخر .

يستطيع الأعمى أن يركب و يخرج من القطارات في اليابان لوحده دون مساعدة أحد قط .

وهناك أيضاً مكتبة في اليابان للمكفوفين فيها سبعين ألف كتاب بما فيها القرآن بلغة برايل للمكفوفين
وللترفيه على المواطن الياباني المكفوف يوجد طاولة تنس للعمي وهناك أيضاً مسابح و ملعب كرة سلة وملعب كرة طائرة ومكان للقراءة وهناك أيضاً بطولات لتنس الطاولة للعمي على مستوى اليابان .

وهذا مثال آخر أيضاً على تحمل مسؤولية الفرد الياباني عن نظافة بيئته فاليابانيون يأتون للحدائق العامة و كل واحد منهم معه كيس خاص لمهملاته يضع فيها النفايات ثم يذهب و يرمي هذا الكيس في قمامة بيته !
فالحدائق مليئة بمئات الناس لكنها في قمة النظافة . سأل الأستاذ أحمد الشقيري في رحلته لليابان أحد اليابانيين
وقال له : لماذا هذه النظافة ؟ فأجاب قائلاً : هذه أخلاق الياباني , نحن شعب نظيف و سأل كذلك  يابانياً آخر كالسؤال السابق فتعجب من سؤاله واستغرب كذلك كثيراً ولم يعرف بماذا يجيب وقال :
ماهذا السؤال؟ وهل يعقل أصلا أن يرمي الشخص وساخة على الأرض؟

وهذا مثال آخر كذلك عن تحمل مسؤولية النظافة لدى الطالب الياباني في المدرسة فمن أعظم و أرقى الأنظمة هي الموجودة في المدارس اليابانية فالطلاب اليابانيون ينظفون مدرستهم بأنفسهم كل يوم !
نعم لا تتعجبوا ! توجد ربع ساعة يومياً من ضمن اليوم الدراسي يأخذ كل طفل ياباني من أولى ابتدائي وحتى الثانوي ممسحة أو مكنسة ويبدأ في تنظيف الأرضيات في فصله و في الطرقات ويمسح حتى الزجاج وكذلك الطاولات وهذا ليس فقط في مدرسة أو مدرستين في اليابان ولكن ذلك هو النظام في كل المدارس فيستحيل بعدها أن يتكبر الياباني
و لذلك لن تجد ياباني يحتقر عمال النظافة أبداً حيث أن المهام التنظيفية تتغير بينهم كل أسبوع .

المدرسة في اليابان تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه الأطفال لذلك فالأولاد أعمارهم ست سنوات وأكبر يمشون على أرصفة الشوارع بنظام عجيب جداً عليهم حقائب موحدة وقد خصصت مدرسة الحي موظفين كل يوم صباحاً يقفون عند التقاطعات عملهم الوحيد أن يساعدوا الأطفال على المرور في التقاطع بسلام ومعهم علم مخصص لذلك حتى تعلم السيارات و تنتبه وكذلك يقومون برفع أيديهم لأنهم صغار القامة حتى يراهم راكبوا السيارات .

وفي المدارس اليابانية هناك نظام رائع حيث بعد دق جرس الحصة فوراً يقوم الطلاب اليابانيون بتجميع طاولات الفصل على شكل مربع في كل مربع أربع طاولات لتكوين سفرة أكل ثم يخرج كل طالب ياباني مفرش خاص به أحضره من المنزل وفي هذه الأثناء يلبس خمسة من طلاب كل فصل زي موحد ويقومون بإحضار الأكل ووضعه على شكل بوفيه ويقومون كذلك هؤلاء الطلاب بتقديم الأكل للطلاب الباقين .
الأكل و العبوات لكل طالب موحدة والكل يأخذ نصيبه ثم يجلس في مكانه وينتظر أن يأخذ الجميع أكله ثم يقوم أي طالب لرأس الفصل ويذكر الطلاب بنعمة الأكل المقدم ويحني جميع الطلاب رؤوسهم على الطريقة اليابانية ( بغض النظر عن طريقتهم فالمهم الفكرة ) ثم يبدأ جميع الطلاب بالأكل ويشارك أستاذ الفصل الأكل مع باقي الطلاب و في هذه الأثناء يقوم أي طالب يريد أكلاً إضافيا إلى البوفية , وفي حالة انتهاء الطلبة وبقي أكل يأخذونه للفصول الأخرى لمن يريد أكل إضافي .

كل الطلاب ينهون أكلهم و لا يبقون أي شيء في صحونهم ثم يقومون بعد ذلك بوضع الصحون في الأماكن المخصصة ومع ذلك فمدير المدرسة يمنع من دخول مطبخ المدرسة
وكذلك مدير المدرسة يأكل قبل الطلبة بنصف ساعة من أكلهم نفسه للتأكد من أن الأكل سليم ولن يمرضهم
وعندما سئل لماذا كل هذا الحرص الشديد حيث أجاب قائلاً : لأن كل هؤلاء الطلاب هم مستقبل اليابان!

الطلاب اليابانيون بعد الانتهاء من الأكل يأخذ كل طالب فرشة أسنانه الموضوعة في الفصل في جهاز تعقيم مخصص ثم بعد ذلك يقوم الطلاب بالذهاب لتنظيف أسنانهم ثم يعودون ويضعون فرش الأسنان في المكان المخصص ومع كل طالب فوطة أو منشفة لتنشيف يده بدلا من استخدام المناديل الورقية وذلك حفاظاً على البيئة اليابانية .

فيتعلم الطلاب اليابانيون بذلك الحفاظ على صحتهم منذ سن مبكر . وكذلك لدى اليابانيين احترام كبير للعلم والمدرسة والنظافة فالأطفال يخلعون الجزم قبل دخول المدرسة ويلبسون جزماً خاصة بالمدرسة حفاظا على نظافة و سلامة المدرسة .

كذلك التعليم في اليابان يرتبط بالواقع والتطبيق الواقعي فمن أرقى الأمور الإيجابية التي تنمي الطفل الياباني أن يكون لديه منذ سن صغير ارتباطاً وفهماً بالحيوانات والنباتات وأن تكون هناك أنشطة خارجية يتفاعل فيها الطفل مع الحيوانات مباشرة وهذا هو الموجود في اليابان فيوجد مزرعة كبيرة معدة لاستقبال الزوار والأطفال حيث يقومون فيها بأنشطة مختلفة منها حلب بقرة حيث تخرج في كل ساعة بقرة حلوب وزنها ستمائة كجم ويصطف الأطفال مع أهلهم ( أطفال أربع سنوات فما فوق ) ويأخذون دورهم في حلب البقرة فهذا نشاط جميل وسلس للأولاد اليابانيين وكذلك يجعلهم يتحملون المسؤولية بوحدهم ويعتمدون على أنفسهم ويتم عمل عرض كل ساعة لحركة عشرات الخرفان التي يقودها راعيٍ إلى مكان مخصص مسور ثم يشرح للأطفال اليابانيين أنواع الخراف المختلفة و يشرح كذلك الراعي كيف تتم عملية تحريك الأغنام وكيف تمشي في قطيع وكيف تتم الاستعانة بكلاب في تلك العملية كذلك يتم بعد ذلك فتح السور ويسمح للأطفال بالدخول و لمس الخراف عن قرب وكذلك أيضاً يتم تعليم الأولاد اللعب مع الأرانب وعمل سباقات مختلفة أيضاً مع حيوانات عديدة مختلفة ثم يتم تعليمهم كيف يصنعون زبدة وجبنة بأنفسهم ويقوم الأطفال بقطف الزهور و التقاط الفاكهة مثل الفراولة وغيرها من الفواكه العديدة .


ومن الأمثلة على تحمل دولة اليابان مسؤولية تأخر القطارات و تقدير اليابانيين العظيم للوقت فمتوسط تأخر القطارات في اليابان آخر أربعين سنة سبع ثواني في السنة فقط وهذا يدل على حرصهم على الوقت بالثانية أيضاً !

فمواعيد محطات القطارات في اليابان بالدقائق مثال على ذلك 10:25 , 6:40 ,8:06 مثلاً !
ومدير محطة قطار يابانية انتحر بسبب أن أحد القطارات في شركته تأخر لبعض دقائق فقط عن موعده فلم يتحمل الضغط عليه في الصحف و الأخبار ( نعلم بأن الانتحار محرم وفعله خطأ لكن المقصود بمدى تحمل مسؤوليته في ذلك الأمر) .

آن الأوان لكي نتأمل و نعرف أسباب اختلاف الشعور بالمسؤولية لدى الأفراد وكذلك لدى المجتمع!

•إذن دعونا نتفكر و نتسائل لماذا هناك تباين في الشعور بالمسؤولية ؟

أسباب التباين في الشعور بالمسؤولية : فلو تسائلنا عن سبب التباين بين مجتمع و مجتمع في مسألة الشعور بالمسؤولية لأمكننا أن نوضح الآتي:
١- القمع الذي تمارسه الأسرة أو المدرسة أو المجتمع أو أي سلطة أخرى من أي نوع كان هو سبب جوهري في ضعف شعور الفرد بالمسؤولية
إن وجود قدر جيد من الحرية والقدرة على الاختيار و المخالفة لما عليه الآخرون يعد شرطاً أساسياً لبناء الوازع الداخلي (الضمير)

ذلك الوازع هو الذي يصدر الأوامر بفعل ماهو خير والبعد عما هو شر ، وحين يقوم المرء بعمل مابدافع الخوف من العقاب يضعف عليه الحافز الذاتي ويحل محله الحافز الخارجي ، مما يحول المرء إلى (منافق) يمتثل للضغوط ويخاف من العقوبات ويفعل مايحلو له من المنكرات !


٢- كثير من مراحل تاريخنا يتسم بتوالي الفتن والاقتتال الداخلي ، مما جعل الوعي المسلم ينفر على نحو مبالغ فيه من الخلاف ، وصار التشابه والتوافق في كل شيء مطلب ملحاً وهذا أدى إلى انسحاق شخصية الفرد وخسران تفرده وخصوصيته مما يؤدي إلى شعور بانعدام القيمة
ومعه يغيب الشعور بالمسؤولية عن سلامة الحياة العامة ونحن نعاني من هذا أشد المعاناة .

3- الإيمان هو أساس النظام ، و إن كل القوانين تظل مجوفة وغير فعالة ما لم تستند إلى قاعدة أخلاقية عميقة و راسخة في النفوس وحين يذبل الإيمان يذبل النظام وتذبل معه الحرية ايضًا لأن الإلتزام بالنظم و القوانين السارية هو الذي يجعل للحرية معنى كما أن الضياء هو الذي جعلنا نتعرف على الظلام كما أن القبح هو الذي جعلنا نعرف قيمة الجمال ... هكذا إذن يؤدي ضعف العقيدة إلى ذبول الحريات و مع ذبولها يذبل الاحساس بالمسؤولية ، و قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : " إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع "إنهم بدافع من الشعور العميق بالمسؤولية يكثرون حين ينادي منادي الجهاد ، وبدافع التعفف والاخلاص يقلون عند توزيع الغنائم !

مصادر استفدنا منها : 

١- الشقيري,أحمد.خواطر3.المملكة العربية السعودية:العبيكان للنشر,1431

٢- بكار,عبدالكريم.ثقافة النهضة.المملكة العربية السعودية:دار وجوه للنشر والتوزيع,1433