ومن اروع ما قاله الشاعر العراقي حسين بن علي بن حبشي العبيدي الاعظمي في الذكريات التي لا تفارقنا ابدا :
تـطاردني الذكرى فما الطرف هاجع ولا أنـت مـنسي ولا أنـت راجع
رؤى لـست بالمحصي مداها تواكبت وحـشد طـيوف مـرزمات تـدافع
تـعـرفتها طـفـلا صـبيا ويـافعا فـتيا فـكيف الـحال والشيب ناصع
يمتلك كل شخص منا ذكريات جميلة و مؤلمة وحزينة ... ؛ وشاعرنا تطارده تلك الذكريات التي لا يتمكن من نسيانها، بل انها تحرمه لذيذ النوم الهانئ ؛ وعلى الرغم من كل هذه المكابدة ؛ فأن صاحب الذكرى لا يستطيع الرجوع الينا لأنه امسى رفات تحت الثرى ؛ ولا نحن نستطيع النسيان ... ؛ وبعد اليقظة يأتي دور النوم في استرجاع تلك الذكريات ؛ اذ تأتي الرؤى والاحلام الكثيرة و حشد من الطيوف التي يظهر فيها الاحباب والاهل والخلان الينا في المنام ؛ وكلها تأتي مجموعات تتدافع علينا ونحن في عز النوم ؛ و كلما زاد عُمر الذكرى ، زادت ثباتها ... ؛ فكيف بالذكرى التي عشنا تفاصيلها بأجمل مراحل حياتنا :( طـفـلا صـبيا ويـافعا فـتيا ... ) ؛ فمن الطبيعي ان تكون تلك الذكرى واضحة وحاضرة في الذاكرة وراسخة في نفوسنا ؛ عند الكبر واشتعال الرأس بالشيب ؛ فثمة ذكريات لا ترحل ؛ اذ تمر السنين وتبقى عصية على النسيان .
ومن هذه الذكريات الجميلة والحزينة والتي ذكرتني بها – الاصح زادت لوعتي واشتياقي ل عمي المتوفى ؛ لأنني لم انسه قط كي تذكرني به – ابيات الشاعر العراقي حسين العبيدي الاعظمي ؛ ذكرى رحيل عمي العزيز والذي انقضت اكثر من 30 سنة على وفاته ؛ فقد توفى عام 1991 ولم يتجاوز عمره الستين عام .
وكيف لي ان انساه وهو أبي الثاني الحنون وعمي الوحيد ؟
والذي كان لا يأكل الا وانا معه أجلس على مائدة الطعام مع ابنه الوحيد ... ؛ ولم ينظر الي قط الا وهو منفرج الاسارير و دائم الابتسامة ؛ على الرغم من مرضه العضال وتواتر الاحزان عليه احيانا ؛ ولم أسمع منه كلمة نابية او جارحة ابدا ؛ و طالما سمعت كلمات التشجيع والاطراء والمديح من فيه الذي يفوح بالطيب ولسانه الجميل .
لم انسى ذاك اليوم الذي كان فيه عمي مسجى على سرير في مستشفى ابن النفيس ؛ وهو يرمقني بطرف عينه ويشير الي بيده التي كان بالكاد يستطيع تحريكها ؛ ولم يكن يستطيع الكلام بسبب جهاز التنفس ... ؛ نظرت اليه وقد سالت دموعي ودموعه معا ؛ وقد شاركنا الامر ابي الذي كان بجنب عمي ولم يفارقه قط .
وبعدها رجعت الى البيت ؛ بسبب التزامي بالدوام المدرسي , وقد رأيت امور حينها ظننتها نذير شؤم كعادة العرب والعراقيين الاصلاء ؛ وجاء الخبر كالصاعقة المحرقة من خلال جهاز الهاتف الارضي وقتذاك ؛ وقالوا لي : عمك قد توفى ... ؛ كنت اظن ان الرجال أصحاب الهمم العالية لا يرحلون هكذا بسهولة حتى جاءني النبأ الفاجعة ... ؛ عمي نام في قبره لكنه ظل مستيقظا بقلبي .
ودّعناك يا عمي وابي الروحي , وواريناك التراب بالدمع والحزن والآهات ... ؛ وانت تعرف انك ستبقى حيا في قلوبنا ما بقينا وبقيت الحياة ؛ فقد عشت طيباً , كريما , حكيما , شجاعا , ذكيا , معطاءاً , , صلباً عصياً على الكسر , شهمًا فقد كنت رجلًا بكل معنى الكلمة ؛ و لا يشبهك احد من اقرباءنا بتاتا ؛ لك بصمتك الخاصة وشخصيتك المميزة ؛ فصيح اللسان قوي البيان , وثابت الجنان ... .
مات عمي وما ماتت مآثره ... وهل تنازع شمم الجبال رياح
رحلتَ وتركت ابي رفيق دربك و اخاك الصغير وحيدا منكسرا ... ؛ و الى هذه اللحظة وبعد كل تلك السنين لا زال يفتقدك و يشعر بألم وحزن كبيرين على فراقك ... ؛ كما انه يعيش على ذكراك ويحكي لنا عن اجمل ذكرياتكم و عن جميل صفاتك ويلهج باسمك دائما .
نعم كان عمي يملك قلباً طيبا وصدرا رحبا ووجهاً مبتسماً ومنطقا عذبا , و لم أره يوماً متذمراً , كان الأمل يعلو ابتساماته فيشعرُكَ بها , فكان عما و أباً وأخاً وصديقاً وسندا ورمزا .
وصدق من قال :
يا راحلاً عن هذه الدنيا وتاركاً . . ذكراك باقية وأنت مخلدُ
قد لا نراك ولا ترانا انما . . في القلب رسمك لم يزل يتجدّدُ
وعلى الرغم من اشتداد المرض المزمن عليه وضعف بدنه ؛ الا انه كان قوي الشكيمة ؛ وكان يردد هذا البيت الشعري الشعبي بصورة دائمة متحديا المرض وصروف الدهر :
اتلاوه وي دنياي بكل وكاحة ××× ما اخلي دمعة تهل وانصب مناحة
وقوله هذا يذكرني بالبيت الشعري المنسوب للإمام علي :
خُلقنا رجالاً للتجلد والأسى ××× وتلك الغواني للبُكا والمآتم
فمن طبائع الرجال التجلد والصبر على المحن والنوائب ؛ واما النساء فلهن البكاء والنوح واقامة المآتم ؛ ولا غرو في ذلك فأنه ينتمي الى عائلة جنوبية عراقية اصيلة ، كريمة الأصل، وعظيمة الشرف ، وتنتسب هذه العائلة إلى بيت مشيخة عريقة ؛ فهو يعد من أشراف القوم نسباً ، و ينحدر من كرام قوم وفرسان بيداء ؛ حتى لقب اهله وبني قومه واجداده ب ( الصفران ) لشدة بأسهم وشجاعتهم وكرمهم ؛ وينتمي الى زعامة عشيرة من اقوى واعز عشائر الجنوب العراقي ؛ بل ومنتشرة في شمال و غرب العراق ايضا وفيها السنة والشيعة معا ؛ وكان عمي دائم التواصل مع ابناء العشيرة في سامراء ؛ بل انه كان الوحيد الذي يعرف اكثر من 200 شخص – من سكان الشمال العراقي - ينتمون الى العشيرة ؛ اذ هاجر اجدادهم منذ القدم الى محافظات شمال العراق وانقطعت علاقتهم بالقبيلة الام .
وقد هاجر عمي كما هاجر معظم شيوخ العشائر وزعماء القوم ؛ مع اغلب ابناء عشيرته الى عاصمتهم بغداد ؛ وفيها تسنم منصب ( المختارية ) – طبعا منصب المختارية في عقد الخمسينيات و الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم ؛ يختلف اختلافا جذريا عن فترة حكم صدام ؛ وان حافظ الكثير من المختارية على نفوس واعراض الناس من بطش السلطة حتى في عهد صدام - و من خلالها ومن خلال علاقاته العامة والمتعددة ؛ قضى حوائج المحتاجين وانجز العديد من المعاملات الرسمية العويصة لبعض المواطنين من ابناء العشيرة وغيرهم ؛ بل انه انفذ الكثير منهم من حبل المشنقة والسجن ؛ ويشهد له بذلك المواطن جبار والي ؛ اذ قال لي : بأن الاجهزة الامنية اعتقلته بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي واخذوه الى مقر الشعبة الخامسة ولولا تحركات عمي و وساطته لما نجى من زبانية البعث وقتذاك ... ؛ الا ان عمي قد تم فصله من منصب ( المختارية ) فيما بعد ؛ لأنه تشاجر مع المجرم المنكوس مسلم الجبوري في عقد السبعينيات من القرن المنصرم فقد تفوه هذا المجرم بكلام سيء ينتقص فيه من اهل الجنوب الا ان عمي رده بالقول : (( انتم مجرد كاولية واصحاب ربابة ما انتم والحكم والسلطة )) وعلى اثرها امر زبانية البعث بسجن عمي الا انه افرج عنه بعد فترة لعلاقاته الطيبة مع ابناء مختلف القوميات والطوائف ؛ ومع كل ذلك بقى يمارس دوره الاجتماعي المتميز واحتفظ بمجموعة من العلاقات المهمة مع بعض مسؤولي وموظفي الحكومة المحترمين من الذين يسعون في انجاز معاملات الناس وتخليص العراقيين من محارق ومجازر البعث وصدام وسجونه ومعتقلاته ... ؛ ولن انسى كلماته التي كان يخاطبني بها قائلا : (( ما دام انا حي واتنفس الهواء ؛ مستحيل اخليك انت لو اخوك – ويقصد ابنه الوحيد - تلتحقون بالجيش وتخدمون الضباط )) ؛ لعل البعض يعتبر هذا الكلام سلبيا ويتشدق قائلا : بضرورة خدمة العلم والوطن ... الخ ؛ الا ان هذا وامثاله اما ان يكون من الحمقى والمغفلين او من ازلام وايتام النظام الطائفي ؛ فالجيش كان عبارة عن مؤسسة بوليسية قمعية تأتمر بأوامر السفاح المجرم صدام ورعيان العوجة وهمج تكريت ؛ وتمارس في هذه المؤسسة اقسى وسائل التعذيب والتجويع والاذلال والخنوع والاستغلال ... الخ ؛ بحق الجنود العراقيين الاصلاء من الذين ينتمون للأغلبية العراقية المظلومة والمهمشة وقتذاك ... ؛ وكان الجندي فيها عبارة عن كائن مسلوب الارادة والكرامة ومهمش – لاحول ولا قوة - ؛ ويتعرض للإهانة بسبب ومن دون سبب ؛ ولعل الكلمة المحببة لدى ضباط الفئة الهجينة والتي ينادون بها على الجنود العراقيين : (( قشامر ؛ او لك قشمر ؛ او يول قشمر )) ... ولم يقبل احرار ورجال وابطال الاغلبية العراقية بهذه القسمة الضيزى والمعادلة الظالمة والمعاملة الحقيرة ؛ وقارعوا النظام الطائفي الهجين بمختلف طرق المقاومة والتحايل واللف والدوران ... الخ ؛ حتى افقدوه توازنه وانهوا صلاحية عمالته وخيانته .
إن حنان العم لا يمكن مقارنته بأي شخص اخر فحبه حب ابوي مليء بالعاطفة الدافئة التي تشعرك بالأمان والطمأنينة ... ؛ والعم هو قطعة من الأب بل من الاصل ؛ وكان مصدر قوة لي وللعائلة بأكملها ؛ و لم يمر يوم واحد دون أن أشعر أنه كان له تأثير كبير علينا ... ؛ فقد كان دائمًا المرشد الأول في العائلة والمربي لي , فقد تعهدني منذ الصغر ؛ حتى عندما كانت تنتابني نوبات الربو – صغيرا - ؛ كان يأخذني الى صديقه المقرب الدكتور المرحوم اديب الفكيكي ؛ ولا يهدأ له بال حتى اتعافى واشفى من المرض ... .
وعلى الرغم من كوني الابن الاكبر والبكر للعائلة ؛ اذ حظيت بالرعاية والاهتمام والدلال من اجدادي وعمي واخوالي وابي ؛ الا انني ومنذ فترة المراهقة اتوق الى الشغل ومزاولة العمل ؛ واهوى الاعتماد على الذات وخوض تجارب الحياة بمفردي ؛ فقررت في احدى المرات العمل مع احد اقربائي خلال فترة العطلة المدرسية ؛ وعندها جن جنون عمي وقال لي بالحرف الواحد : (( تشتغل واني عايش موجود ... شتريد انطيك , أملئ لك هذه الغرفة فلوس ... بعد عمك اهتم بدراستك بس ... )) ؛ والشيء بالشيء يذكر ؛ ادخلني الى غرفته في احدى المرات وفتح حقيبة مليئة بالأموال واعطاني (( عيدية )) بمناسبة حلول العيد ... .
وبعد ان خلت الديار من ساكنيها ؛ ورحل عمي من بيته الى وادي السلام ؛ نفرت روحي من الدار ؛ وصار لسان حالي كما قال الشاعر الشعبي :
اريد انصب مناحه وادك بالدار
لمن شريان كلبي يكف بالدار
ابدلنك يا عمي تظن بالدار
الدر يهون وانته اغلى عليه
فلا قيمة للديار والاموال بعد رحيل العزيز ؛ تلك الدار التي كنا في يوم من الأيام مع عمي وجدي نسكنها وتسكن قلوبنا جميع مكوناتها ، في جمع عائلي مترابط تخيم عليه روح الهناء , وتظلله أشرعة البساطة في أسلوب الحياة ، فيبدو متوافقاً متآلفا ... , تملأ أجواءه مشاعر الأمن الأسري والتقارب الروحي ...؛ تلك الدار التي ولدت وترعرعت فيها , وتفيأَت بظلالَها وارتويت من فراتِ مائِهِا ، فكانت فيها مَراتِع الصِّبا ، وضَحكاتِ الطُّفُولةِ البريَئةِ ، وبرغم انها اضحت جزء من كياني .... ؛ الا انها بعد رحيل عمي اضحت بلا طعم ولا نكهة ؛ وكأنها جامدة وخامدة , وخاوية على عروشها ؛ فما قيمة الديار من غير ديار ؟ ؛ وصدق من قال :
ديـار خـلت مـن أهـلهـا وتـوحـشـت ××× فـليـس بـهـا مرعى لعين ولا خصب
علاها البلى حتى تعفنت رسومها ××× وأنـكـرهـا طـرفي فأثبتها القلب