ترعبني صيغ الجمع في مقابل الواحد، الحالات في مقابل الطبيب، الطلاب في مقابل الأستاذ، العملاء والمراجعون في مقابل الموظف، الشعب في مقابل الحاكم... الخ

وسم الجموع بصفتها في مقابل وسم الفرد بوظيفته يلغي الإنسان الفرد في مقابل تغليب الإنسان النمط أو الإنسان القالب، فينسى الطبيب أنه يتعامل مع إنسان يتألم ويتذكر أنه يتعامل مع حالة، ينسى المعلم أنه يتعامل مع طالب يفكر بشكل منفرد، يشعر، يُكسر، يخاف... يتذكر فقط أنه يتعامل مع مجموع رؤوس تجلس على كراسي... الفكرة ذاتها تتكرر مع باقي الأدوار، فكرة إلغاء الشخص بكل الاتساع فيه لتغليب صفته الاعتبارية المؤقتة التي نتعامل معه من خلالها.

من هذا التكرار والتغليب يولد الاعتياد المخيف، الروتين الذي يُفقدنا الحس الخاص في التعامل مع الأمور. الاعتياد الذي يعني مرورك بالشيء ألف مرة و مروره عليك مرات لا تُحصى حتى تفقد ملكة الانتباه إليه وإدراك تفاصيله.

كتب ماركيز في كتابه (قصص ضائعة) مقالًا بعنوان (أبهة الموت) تتقاطع تفاصيله مع مخاوفي هذه. كتب عن جمود الروتين، ومأساة البيروقراطية في وكالة لدفن الموتى. بفعل الاعتياد والتعامل اليومي مع الموت يفقد الموت هيبته ويُعامل الموظفين الموتى وذويهم معاملة آلية باهتة.

يذهب ماركيز ليشهد مراسم حرق جثة صديقه، فيجد التوابيت المشتراة من عائلات الموتى لتضم جثامين أحبتهم قد صارت بلا جدوى بعد انتهاء مراسم الدفن، فتعمد الوكالة إلى بيعها من جديد لعائلات موتى آخرين. يصطدم ماركيز ومرافقوه بطابور الانتظار الطويل للجثث التي ستُحرق، وبعد طول الانتظار يقترح السائق: لماذا لا ترجعون غدًا وتحاولون أن تكونوا أول من يصل؟"

الموظف الوحيد في هذه الوكالة يُفسّر الأمر بتفسير خبّاز: "الفرن مشغول، والفرّان في الداخل لن ينتهي من التفرين قبل ثلاث ساعات"

يختم ماركيز مقاله بقصة بشعة عن امرأة أمريكية باعت كل ماتملك ليحظى زوجها بجنازة أكثر أبهة من إمكاناتها الطبيعية. كل ترتيبات الجنازة كانت تبدو مُحكَمة ومثالية، إلى أن يتصل بها أحد موظفي وكالة دفن الموتى ليخبرها أن الجثة أطول مما هو مدوّن في العقد، وهذا يعني دفع مبلغ إضافي لإتمام مراسم الدفن. وحين تُخبره الزوجة أنها انفقت كل شيء يُقدّم لها الموظف حلًا بصوته الهادئ: أرجو منكِ  أن تمنحينا تفويضًا لنشر قدمي الجثة.

وبالطبع لن تقبل الزوجة بهذا الخيار المروّع و وجدت المال بطريقتها ليُدفن زوجها كاملًا

والسؤال الذي تركته قصة هذه الأرملة في ذهني هو: هل مازالت إنسانيتنا نحن الأحياء  مكتملة في مواجهة الروتين والاعتياد والبروقراطية؟ أم أنّ أجزاءً  منها تم نشرها واستئصالها لنتواءم مع الصيغ الأولية لعقود وجودنا؟ ولنلائم المقاسات المطلوبة. فيسهل دفننا في الحياة قبل الموت.