ومن اجمل ما قاله  الشاعر المصري  فاروق جويدة عن حرارة العواطف وشوق القلوب للحبيب ؛ برغم بعد المسافات واختلاف الديار : 

سيبقى حُبُنا أبدا برغم البعدِ عملاقا ... وإن دارت بنا الدنيا وأعيتنا مآسيها

البعض يعتقد ان بعد المسافات يقتل الحب في النفوس – كما يقول المثل الشعبي العراقي : (البعيد عن العين بعيد عن القلب ) - ؛ الا ان الشاعر  يؤكد شغفه بالحبيب ويتحدى البعد , وظروف الحياة ,  وتقلبات الدنيا ,  وماسي وصروف الدهر ... فكل هذه الصعاب لا تنسيه عشق الحبيب ولا تصغر  من حبه العملاق ... ؛ ولقد اشار الى هذه المعاني شاعرنا العراقي محمد بن داود الظاهري  قبل الشاعر فاروق جويدة بعدة قرون ؛ اذ انشد قائلا : 

لعمركَ ما قربُ الدِّيارِ بنافعٍ ... إذا لمْ يصلْ حبلَ الحبيبِ حبيبُ

وليسَ غريباً مَنْ تناءتْ ديارهُ ... ولكنَّ مَنْ يُجفى فذاكَ غريبُ

ومَنْ يغتربْ والإلفُ راعٍ لعهدهِ ... وإنْ جاوزَ السَّدَّينِ فهوَ قريبُ

الشاعر يقسم – ( لعمرك ) – بأن قرب الديار ليس نافعا ؛ اذا لم يكن بين الحبيب وحبيبه وصال ؛ وصدق من قال : بُعد القلوب علَى قرب المزار أشدُّ من بعد الدِّيار من الدِّيار ... ؛ وبعيد الدار ليس غريبا انما الغريب من يعاني الجفاء والهجر من حبيبه ؛ وعلى العكس من ذلك ؛ من يغترب ويهجر دياره ويبتعد عن ديار حبيبه الا ان الحبيب يبادله مشاعر الحب والود ولوفاء ويحفظ عهده ويصون حبه ؛ فهو قريب منه وليس بعيدا وان جاوز السدين – (جبلين مُنيفين ) - .

وقال آخر مؤكدا ما قاله شاعرنا الظاهري :

لو كنتَ في بلدٍ ونحنُ بغيرهِ ... ما كانَ عندكَ في الجفاءِ مَزيدُ

قربُ المزارِ وأنتَ ناءٌ لا يُرى ... وإذا القريبُ جفاكَ فهوَ بعيدُ

إن البعد الحقيقي هو البعد عن القلب وعن البال وليس البعد عن ارض الاحباب  أو مكان  الاصحاب  - ( وكما قال المثل : البعد بعد القلوب مو بعد الدروب ) - ؛ وقد صدق شمس التبريزي عندما قال : (وإن القلوب برغم البُعد تتصل ) . 

وها هو الشاعر السوداني مدثر بن إبراهيم بن الحجاز ينشد قائلا : 

إذا جَـنّ ليـلي هام قلبي بذكركم   ....وطـاب الهـوى فـيـكم ولذ التشوق

من فرط ما بي من معاناة هجركم ...  أنـوح كـمـا نـاح الحمام المطوّق

أتعرفون ما النوح ؟ ، لعل البعض يظن انه البكاء! هو كما تظنون، لكنه اقصى درجات البكاء واكثرها اسى وحسرة وتحرق ، كما انه صوت المرأة وعويلها وبكاؤها على الميت ، وهو ايضا سجع الحمام وصياحه ، والشاعر  السوداني في هذه الابيات يكشف لنا هيامه وشغفه بالحبيب كلما جن الليل عليه ؛ اذ يزداد القلب رقةً واستعطافاً وشوقا  للحبيبة الهاجرة والبعيدة عنه ؛ ومن فرط معاناة الهجر والبعد ينوح الشاعر على حبيبته كما ينوح الحمام المطوق   -  (  الحمامة المطوقة التي  يوجد حول رقبتها طوق  )  - ؛  والشعراء يستخدمون كلمة النوح للتأثير على السامع، ولأن الشاعر ايضا يجوز له ما لا يجوز لغيره ,  والنائحة هي من تندب الميت ، كما ان النوح صوت الريح شديدة الهبوب ... ؛  نعم  هناك أشخاص تبقى مكانتهم في قلوبنا رغم طول المسافاتِ بيننا وبينهم، لأنّ ذكرياتهم لا تحملُ في  طياتها الالم بل ان ذكراهم تفوح بأريج المودة والاخلاص والمواقف المشرفة والاخلاق السامية  ؛ وقد علق احد الشعراء الشعبيين العراقيين  - بالابوذية -  على الابيات انفة الذكر قائلا : 

تظن بعد المسافة فراگ ولفاي

بذكرك هايم الدلال ولفاي

اذا جانه ظلام الليل ولفاي

نحت نوح الحمام ال بيه شچيه

اذ يخاطب الشاعر الشعبي حبيبه ( ولفه ) قائلا : ان بعد المسافات لا يعني الفراق والهجر وانطفاء نار العشق  - (تظن بعد المسافة فراگ ولفاي ) - ؛ والدليل على ذلك  امور ومنها : ان ذكراه  لا تفارقه ابدا و قلبه لا زال هائما بحبه - (بذكرك هايم الدلال ولفاي ) - ؛ كما  انه كلما جاء الليل وارخى سدوله كالبحر ,  وكلل  الظلام الشاعر العاشق  ؛ ناح كما ينوح الحمام الذي يشكو الحبس والطوق   ... . 

وهذا الفن  يسمى ب : الملمع في الشعر الشعبي العراقي  وهو الذي يحتوي  على  الابيات العربية الفصيحة واخرى شعبية ( عامية ) ؛ فهو عباره عن شعر مزيج بين الفصحى و ( العامية ) - الصدر يكون بالفصحى او الابيات الاولى والعجز بالعامية او الابيات الاخيرة )  ؛ وهو من فنون الشعر الشعبي العراقي ؛ وهو لون من الشعر تتم المزاوجة فيه بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي “العامي”، بطريقة التشطير، أي ان يقوم الشاعر الشعبي بمجاراة شاعر الفصحى شطراً بشطر، ولا يخرج عن المعنى والغرض ... ؛ ففي النص الملمع انما تبدو القصيدة واحدة ... والشعر الملمع انما يلجأ اليه الشعراء لمحاولة التقريب بين اللونين من الشعر... .

فقد دأب شعراء ومطربون الجنوب والفرات الاوسط على الجمع بين الشعر العربي الفصيح والشعر الشعبي العراقي ؛ اذ يبدأ الشاعر بترديد ابيات من الشعر الفصيح العربي لاحد الشعراء ثم يلحقه بأبيات من الشعر الشعبي العراقي ؛ وعندها تشاهد لوحة فنية رائعة لا يعرفها الا من يمتلك ذائقة فنية وحس شعري مرهف واحساس عراقي اصيل ؛ وهذا الدمج والمزج بين الصنفين الادبيين ؛ ان دل على شيء فإنما يدل على عمق العلاقة بين لهجات اللغة العربية وبين لهجات الامة العراقية وتقاربهما ؛ لان منبعهما واحد وجذرهما متقارب ... ؛ وبما الشعر الشعبي العراقي  كان بمثابة الصوت الحقيقي  المعبر عن معاناة وهموم طبقات المجتمع العراقي المظلومة والمحرومة والاصيلة  ... ؛ بل هو صوت العراقيين الاحرار الاصلاء  ... ؛ لم تهتم به سلطات الاحتلال الاجنبي – كالاحتلال التركي والانكليزي – وكذلك حكومات الفئة الهجينة الطائفية العنصرية المتعاقبة بل ان الحكومات الهجينة عملت على محاربة الشعر الشعبي العراقي الاصيل واقصاء وابعاد الشعراء الشعبيين الاصلاء ؛ وان معاداة السلطات الهجينة لهذا الخطاب الجمالي والفن العراقي والشعر المؤثر  ومنتجيه ومريديه ... ؛ لأسباب كثيرة ومنها : 

  • لأنه يمثل العراقيين الاصلاء سكان العراق الاوائل والقدامى  بل يمثل هوية الجنوبيين والفراتيين .
  • لأنه يتضمن ( الحسجة ) واغلب حكام وموظفي السلطات المحتلة والهجينة هم من الاجانب والغرباء والدخلاء ومن بقايا العثمنة والعجم ؛ وبالتالي هم لا يفقهون شيئا من معانيه ولا يعرفون مضامينه ؛ والناس اعداء ما جهلوا كما قيل قديما ؛ بالإضافة الى نبز اهل العراق الاصلاء بأولئك الغرباء والدخلاء والاجانب من خلال الشعر الشعبي العراقي و ( الحسجة العراقية ) .
  • تعتبر هذه السلطات ان خطاب الشعر الشعبي العراقي خطاب محرض على نقد الاوضاع العامة وتحدي السلطات الحاكمة لذلك تعمل على اقصاءه وابعاده عن الساحة الثقافية والاعلامية والعامة ؛ فهو  مرتبط بالإنسان الكادح البسيط  والعراقي  الاصيل ذي الهموم الاعتيادية والوطنية ، والمطالب بإحقاق الحق وازهاق الباطل المتمثل بحكومات الاحتلال والحكومات الهجينة العميلة . 

فالقصيدة الشعبية لا تختلف في اشتغالاتها  ومواضيعها ومضامينها عن القصيدة العربية الفصيحة على الرغم من اختلافها من حيث الشكل وكلاهما يتناولان ربما ذات الفكرة ... بالإضافة الى الشفرة العراقية المحلية التي تمتلكها القصيدة الشعبية ( الحسجة ) ؛ نعم اضطرت بعض الانظمة الهجينة للاحتفاء بهذا الشعر الشعبي وكرمت بعض الشعراء الشعبيين في بعض الاوقات لغايات سياسية منكوسة ومشبوهة ؛ فعندما تشن تلك الانظمة العميلة الهجينة الحروب ؛ كانت تسخر كل ماكنتها الاعلامية وادواتها الثقافية وبما فيها الشعر الشعبي العراقي من اجل تحقيق اهدافها السياسية المنكوسة والمشبوهة ... ؛ نعم  ان وجود بعض الدخلاء والذين استهلوا كتابة القصيدة الشعبية بدون تضمينها فكراً معلناً او موضوعا مهما ذا قيمة ثقافية او معرفية او اجتماعية او سياسية ... الخ ؛   افقدها التقبل لدى البعض الذي لا يريد ادخالها في صفحات الثقافة الصحفية . 

عوْداً على بَدْء : ان عالم الحب والعشق والوفاء والاخلاص ... ؛ لا يعيش فيه سوى الاوفياء والكرام ؛ وعليه  :  وإن طالت المسافات بين الأحباب سوف يبقى جسر من الأمل والحب  في التواصل عن قريب وإن بعدت المسافات  ؛ اذ يبقى القلب يضخ دماء الحب وينبض بالوفاء والاخلاص للحبيب ؛  فالحب الحقيقي لا يعرف لا زمان ولا مكان ، ولو طالت المسافات يبقى الحب عنوان الحنين و لنفوسنا دواء نعالج به آلام السنين ... ؛ فالبعد لا يقف عائقا امام  طرق تواصل العشاق والاحباب والاصدقاء  ؛ والمسافات لا تفرق بين الاحباب ... ف لسان حال البعض  كأنه يقول : ‏مهما بعدت بيننا المسافات  ؛ ستبقى بوجداني ؛ و مهما فرقتنا الأماكن ستبقى في قلبي ؛ و محفورا في ذهني , و مالكا لكياني  ... ؛ سأظل اذكر صوت أنفاسك لآخر لحظة بعمري , و سأظل اصدح باسمك  , وسأظل أنادي عليك حتى  وان لم تسمعني  ؛ لأني أحبك ... .