في البدء كانت الورقة، بيضاء من غير سوء، متمددة أمام غواية الألوان وتخيلات الطفولة، يتلهف بياضها للخضرة والحمرة والزرقة والصفرة، شمس تشع في الزاوية، وطيور تصل إلى حدود الشمس، سماء حادة الزرقة عليها سحب بيضاء كحلوى المارشملو، تتعانق خضرة الأرض مع زرقة السماء، لا فاصل فيما بينهما، أشجار بجذوع ضخمة، وثمارها ناضجة ومحمرة، وعليها أعشاش عصافير لا تنهرها فزاعة ولا يطالها الجوع.

بفعل التقادم فرّت ألوان كثيرة من اللوحة، اضمحلّت السُحب أولًا، صارت دخانًا متكاثفًا يسيل الدموع، تواطأ الدخان مع نيران صديقة، فانسحبت الطيور من السماء ومات بعضها في مكانه، بفعل هذا الفزع الطارئ انطفأت عين الشمس المشرقة في زاوية الصفحة، صارت رمادًا... فشحبت زرقة السماء حزنًا عليها، وتوارى الأخضر من الأرض خجلًا من اقتحامه للمشهد الحزين... وبفعل هذه الانسحابات المتتالية، انمّحت الألوان كلها، عادت هذه المساحة إلى لون البدء، إلى البياض... لكنها لم تعد ورقة كسابق عهدها، صارت ضمادة، ضمادة في طريقها للنمو حتى تصير كفنًا...