إن كلاما مهما للعلامة محمود الطناحي يصلح لكثير من الشباب المبتدئ بطلب العلم والذي يُغرق نفسه بقراءة كتب الصحفيين السطحية والتي تتسم بتفخيم العبارة والاختصار النظري وفقدان العملية والإرهاب اللفظي، فما إن يحصل الشاب من تلك الكتب معلوماته، إلا ويدب فيه الغرور العلمي وما هو إلا نفحة هواء تتلاشى عند أول اختبار ثقافي.

يقول رحمه الله:

(جاءني يوما أحد الطلبة يسألني: يا دكتور، ما الفرق بين الموقع الإعرابي والحالة الإعرابية؟ فقلت له: من أنبأك هذا؟ قال: الدكتور الفلاني في الكتاب الفلاني، فقلت له: يا بني، هذا الدكتور رجل من أهل العلم، وكلامه هذا للكبار من أهل العلم، أما أنت فلازلت بأول الطريق، وقد جئت إلى الكلية تدرس فيما تدرس علم النحو، لكي تقرأ قراءة صحيحة وتكتب كتابة صحيحة، فاشتغل بذلك ودع ما سواه.

ومن أخطر الأمور أيضا ما يقوم به بعض زملائنا من نقد للفكر اللغوي والنحوي أمام هؤلاء الشباب، ويحدثنا بعض الطلبة أن أستاذا يخصص نصف المحاضرة لعرض القاعدة النحوية، ثم يصرف النصف الآخر لنقدها ونقضها، وبعضهم يبدأ حديثه عن المعاجم العربية بذكر عيوب المعجم العربي، من تكرار المادة وتشويشها وتضارب النقول فيها، ثم يأتي حديثه عن مناهج هذه المعاجم ومدارسها وطريقة التعامل معها، خافتا ضعيفا في آخر الكلام.

لقد تحول كثير من الأساتذة الآن إلى منظرين وفلاسفة وبعضهم يستخدم مصطلحات وتراكيب لامعة براقة، تأسر الطالب أسرا، وتجعله دائم التطلع إليها والتشبث بها، يريد أن يحاكيها، وقد يصده ذلك عن التماس العلم الحقيقي.

إن الطالب في حاجة إلى مربٍ ومعلم، لا إلى منظر وفيلسوف، فكل ما يلقى على الطلبة في هذه المرحلة الجامعية الأولى، وكل ما يكتب لهم ينبغي أن يقوم على أساس ثابت من أصول العلم وحقائقه، وما فوق ذلك من نقد وتحليل وتتبع ينبغي أن يؤجل إلى مرحلة الدراسات العليا، كما قلت، فمناهج تدريس النحو والصرف واللغة والبلاغة والأدب يجب أن تدور في فلك القاعدة والشاهد، ولا بأس من الإلمام بشيء من النقد والتحليل، يشرف ولا يتوغل، ويحوم ولا يواقع، لأنه لا يصح بحال أن نكشف لصغار الطلبة في هذه المرحلة الجامعية الأولى، عن أبواب النقد هذه، وأن ندلهم عليها، فإن مداركهم تقصر عن إدراك تلك المرامي البعيدة، فضلا عما يحدثه ذلك في نفوسهم من زلزلة وبلبلة قد تزهدهم في العلم كله).

المقالات ص ٣١٤-٣١٥

إن الكتاب الصحفيين يستخدمون أسلوبا إرهابيا لترويع الشاب فيفتن بكتاباتهم وهي كما وصفها ابن قتيبة في مقدمته لأدب الكاتب: (ترجمة تروق بلا معنى، وجسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغُمْز والحدث الغر قوله: الكون والفساد وسمع الكيان... راعه ما سمع، فظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل).

ولذلك فعليك أخي الشاب أن تلتزم بالمعاني عن الألفاظ كما قال جلال الدين الرومي:

(وما كان ذا معنى يبدو طيبا حلوا، وما لا معنى له فضيحة في حد ذاته

فامض وجاهد في المعنى يا عبد الصورة، ذلك أن المعنى بمثابة الجناح على جسد الصورة

وكن جليسا لأهل المعنى حتى تجد العطاء كما تكون فتى).

وهذه الكتب الصحفية كثيرا ما تغني الشاب عن قراءة الكتب الأصلية فيكتفي بوصف الصحفيين لها ولا يعلم أن ذلك الوصف هو وصف الصحفي بعينه عن ذلك الكتاب أو عن تلك الشخصية فيقول عن تفسير ابن عاشور -مثلا- الذي ألفه في أكثر من ثلاثين سنة: تفسير يهتم بالبلاغة! فيختصر كل التفسير بهذه الكلمات ويقف الطالب الشاب عندها ولا يتعب نفسه لقراءة الكتاب والعودة إليه، والأمثلة في ذلك كثيرة.