انتشرت ظاهرة التكسب من اليوتيوب والتيك توك والإنستجرام وغيرها في الآونة الأخيرة. والغريب أن الأسر في الدول العربية اكتشفوا أن الشهرة التي يحققها أفراد منهم على اليوتيوب تدرّ عليهم أموالا كثيرة فتركوهم يفعلون ما يشاؤون دون حدود ورقابة. والأخطر من ذلك أن بعض الأسر تسعى إلى تحويل أبنائها إلى وسيلة لجمع المال في فترة وجيزة، إلا أنها في مقابل ذلك تجعلهم هدفا للتنمر والتحرش، والضغوط النفسية، والأسرية، والاجتماعية.

وقد قال الشاعر العراقي معروف الرصافي:
هي الأخلاق تنبت كالنبات … إذا سقيت بماء المكرمات
فكيف تظن بالأبناء خيراً … إذا نشأوا بحضن السافلات

إن نعمة الأبناء من أفضل نعم الله على العبد، سألها الأنبياءُ والصالحون، وقرَّت بها عيون المتقين في الدنيا والآخرة، ومن أُوتي هذه النعمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ومن حُرمها فهو المحروم حقًّا، وإن كان عنده كُل المال، نعمة الأبناء من النعم التي خص الله بها فئةً من الناس وحرمها فئةً أخرى ابتلاءً منه سبحانه، وتمحيصًا لعباده واختبارًا لخلقه، ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن في أكثر من موضع، وقرنها بنعمة المال، وجعل من هاتين النعمتين زينة الحياهِ الدنيا، إنها نعمة (الأولاد): ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، الأولاد نعمةٌ إلهيةٌ، وهبةٌ ربانيه، الأولادُ زينةُ الحياة الدنيا وزهرتها، يُخففونَ عن آبائهم متاعب الحياة وهمومها، الأولاد وجودهم في البيت كالأزهار في الحدائق، يسر الفؤاد مشاهدتهم، وتَقر العين برؤيتهم، وتبتهجُ الأرواح بقربهم، الأولاد بسمةُ الأمل، وأريجُ النفس وريحانُ القلب، أولادنا هم أكبادنا التي تمشي على الأرض، وقد أحسن من قال:

إنمــــــــــــــــــــا أولادنـــــــــا بيننـــــــــــــــــــــــــــا *** أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبت الريح على بعضهم *** لامتنعتْ عيني عن الغمض

وشكر هذه النعمة يكون بإحسان تربيتهم، والاهتمام بتأديبهم، وتعليمهم شؤون دينهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فالبيت له دور كبير بالغ الأهمية في إعداد الأبناء إعدادًا سليمًا نافعًا للبشرية، وديننا عامر، وسنتنا مليئة بما يجب به إحسان تربيتهم، وتقويم خُلُقهم، وتعديل سلوكهم. وليس ما يفعله هؤلاء من استغلالهم وحرمانهم من طفولتهم.

ويترك بعض الأزواج أو الزوجات وظائفهم الأساسية للتفرّغ إلى مرافقة ذويهم في رحلته على اليوتيوب والتيك توك والإنستجرام وغيرها وتصوير الفيديوهات الخاصة به نظراً إلى ما تحققه شهرته من مداخيل مادية كبيرة. لقد حذّر الخبراء من التأثيرات السلبية لظهور زوجات يتسوقون مع أزواجهم دون حدود، وأن يكون ذلك مصدراً للتفاخر مما يؤثر سلباً عليهم وعلى النساء الذين يتابعونهم. فمن ناحية حينما يقوم الزوج بتصوير زوجته في أماكن مختلفة وأوضاع مختلفة لتقوم بالدعاية لمكان او منتج فإنه يجعلها سلعة يتكسب من ورائها بل ليس من حفظ الأعراض أن تُعرض الفتاة أو المرأة أمام ملايين الناس ، ليفتتنوا بها ، أو يضرونها ،والأخطر أنه يخالف ربه حيث حذر الله سبحانه وتعالى من التبرج فقال للنساء عامة ، ولنساء النبي خاصة : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب33 ] .قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : " هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، فقال مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن ، فإنه لا يشبههن أحد من النساء ، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة ، وقوله تعالى: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } . قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية وقال قتادة : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } يقول: إذا خرجتن من بيوتكن وكانت لهن مشية وتكسر وتغنُّج فنهى الله عن ذلك .وهو ما يظهر تماً عند هؤلاء أثناء قيامهن بالدعاية والاعلانات وقال مقاتل بن حيان : { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } والتبرج: أنها تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج " [ دار الرسالة ص / 1087 ] . وقال ابن جرير الطبري في تفسيره: " حدثني ابن زهير، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود _ يعني ابن أبي الفرات _ حدثنا علي بن أحمر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: تلا هذه الآية: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } . قال: كانت فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل، والآخر يسكن الجبل. وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دَمَامة. وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإن إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه واتخذ إبليس شيئًا مثل الذي يُزَمّر فيه الرِّعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمَع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله، فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فيتبرَّجُ النساء للرجال. قال: ويتزيَّن الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل هَجَم عليهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصَبَاحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن، فنزلوا معهن وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قوله تعالى: { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } .إن تلك المرأة المتبرجة لا يحترمها أحد ، ولا يقدرها أحد ، لأنها خلعت ثوب الحياء من الله ومن عباده ، وتميزت بقلة الأدب ، وعرضت نفسها للسخرية منها وبها  فقط للحصول على المال والشهرة أحياناً.

قال الشاعر:
بنيةُ إنْ أردتِ ثيابَ حسنٍ --- تزينُ منْ تشا جسماً وعقلاً
فانبذي عادةَ التبرجِ نبذاً --- فجمالُ النفوسِ أسمى وأعلى

وأعتقد أنه لا يشك أحد أيضاً في أن ما يقدمه هؤلاء من صور لمختلف مظاهر الحياة اليومية إنما هي في الحقيقة صور بعيدة عن الواقع إلى حد كبير. ولا أقصد هنا الاعلانات التجارية فقط، بل أكثر تفاصيل حياتهم الشخصية، حتى الولادة وتحديد جنس المولود والطلاق والحفلات غير معروفة السبب في أشهر الفنادق، غير مطابقة للواقع والحقيقة أنهم في الإعلانات التجارية باتوا يستخدمون سائر، وسائل الخداع، والإخفاء، والستر. فلنبدأ أولاً بمدى واقعية مظاهرهم. إذ معلوم لدى الجميع أن الذين يقدمون الفيديوهات الدعائية لا يتم تصويرهم إلا بعد عملية مكياج دقيق للرجال والنساء على السواء حتى في الإعلانات التجارية للأزياء الإسلامية، علما بأن العارضات للحجاب هن نفس العارضات اللواتي في الإعلانات التجارية لملابس نسائية داخلية وملابس السباحة بيكيني و للتأكد من عدم تطابق صورهم مع الواقع يمكن للجميع الاطلاع على صور هؤلاء بدون مكياج في الإنترنت لمعرفة الفرق الهائل بين الوجوه بمكياج و الوجوه بدون مكياج و كذلك الوضع عندما يتعلق الأمر بالملابس والمنتجات الغذائية وما يتصل بهما؛ لأن صور هذه السلع والأمتعة في الشاشات والصحف والمجلات لا تعكس الواقع تماماً ؛ لا لأن الفرق طبيعي بين الشيء وصورته ، بل لأن الفرق و الاختلاف، له اسباب أخري غير الطبيعية و هي أن هذه الصور يتم تصويرها وتسجيلها في استوديوهات بعد عملية تجميلية وتصويرية دقيقة جداً مع استخدام ملمعات وتقنيات خاصة يسميها البعض بالحيل الدعائية و الأهم من ذلك أنه يتم اخفاء كثير من الحقائق فيما يتعلق بالأضرار الصحية لبعض المنتجات الغذائية والوجبات السريعة تحديداً هذه صورة الإعلانات التجارية إلى حد كبير و قد يكون السبب في غياب صورة حقيقية لعالم خارجي هو الحرص على أن لا تحمل الإعلانات عناصر غير جذابة و طاردة و مبعدة عن مشاهدة الإعلانات التجارية أو سماعها أو قراءتها ، إلا أنه لا يجوز أن يؤدي هذا الحرص إلى نوع من التضليل و الخداع بخلق عالم مثالي وافتراضي يخالف الواقع للغاية و يقدم للناس صورة مزورة وخادعة باختصار شديد يمكن أن توصف الإعلانات التجارية بأنها محاولة لتقديم صور مختلفة لجنة زائفة و بهذا الاعتبار يجوز أن توصف الإعلانات التجارية بأنها نوع من الخيال العلمي من حيث عدم تطابقها مع الواقع و الحقائق، علما بأن الجماهير من المشاهدين و الصغار منهم بالتحديد ينجرون وراء هذا العالم الافتراضي كعطشان يسعى وراء سراب في الصحراء بغية الوصول الى الماء. في عالم الإنستغرام واليوتيوب والتيك توك وغيرها المبهر، حيث الأجسام المثالية بشكل اصطناعي، والتقنيات التي تدفع المؤثرين في صنع جمال زائف والترويج لمنتجات بشكل مضلل ونذكر هؤلاء أن الكذب هو رأس الخطايا وبدايتها، وهو من أقصر الطرق إلى النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإيّاكم والكذِبَ، فإنّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإِنّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النّارِ وَمَا يزَالُ العبْدُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرّى الكَذِبَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذّابا". [رواه البخاري ومسلم].

بدأت حملة للمنع القانوني للمؤثرين وأصحاب العلامات التجارية لاستخدام "فلاتر" التجميل بدعوى من ساشا بالاري، وهي إحدى المؤثرات في عالم إنستغرام، بعدما تواصلت مع الجهات المختصة في أغسطس/ آب 2020. وأرسلت بالاري العديد من أدلة التضليل التي يستخدمها المؤثرون للترويج لمنتجات التجميل، والتي تجعل المؤثرات يضعن "فلاتر" تضيف إليهم لون سمرة غير طبيعي أو تعطي نقاء بشرة، بزعم أن المنتج المعلن عنه قادر على تحقيق هذه النتائج. وتفاعل المتابعون مع حملة بالاري، ونشروا صورهم قبل وبعد استخدام الفلاتر، للوصول إلى نتائج غير واقعية. وأوضحت بالاري أنها تتلقى يوميًا رسائل من نساء يواجهن صعوبة في الوصول إلى صورة تتناسب مع الصور التي تظهرها المؤثرات. وبدأت حملة تشجع فيها النساء على عدم الاعتماد على "الفلاتر" في نشر الصور، في محاولة لتقبل الوجه الطبيعي. ونجح وسم "فيلتر دروب"بعد محاولات حثيثة في الوصول لهدفه بالمنع القانوني للمؤثرين وأصحاب العلامات التجارية لاستخدام "فلاتر" التجميل. واعتبرت هيئة "إيه إس إيه" (ASA) البريطانية للرقابة على الإعلانات أن "الفلاتر" المستخدمة لتحسين الصورة خيال خادع وتضليل تجاري مباشر ومخل بمعايير الإعلان. وأصدرت قرارا رسميا بالتعاون مع إنستغرام بمنع المؤثرين من استخدام "الفلاتر" في الترويج لأي منتج تجاري. ويمكن القول إنه هناك ضرورة ملحة لخروج قانون لمنع ظهور المحتويات المستفزة مثل ظهور أحد المشاهير وتماديه في نشر عدد وماركات سياراته وممتلكاته الفخمة فيتسبب في استفزاز للناس التي تعاني من سوء حالتها المادية فيجبر الناس على قول "أنا أيه اللي يخليني أشتغل"، وهنا يلجأ عدد منهم على البحث عن اليوتيوب أو أي طريق سهل للحصول على مكاسب سهله؛ لذلك لابد من وجود القانون وان ما يطبق القانون يكون موضع ثقة لضمان تفعيله وتطبيقه على هؤلاء. وفي الوقت الذي نجد فيه العديد من المحتويات التعليمية الهادفة كتعليم اللغات والحرف وغيرها الكثير، إلا أن هناك محتويات سلبية سطحية غير مسئولة تبث عبر «يوتيوب»، مما يؤثر بالسلب على سلوكيات المتلقي الذي يجري وراء كل ما هو غير مألوف، والذي يعتقد بمرور الوقت أن «اليوتيوبرز والتيك توكرز والإنستجرامرز وغيرهم » شخص ذات أهلية ويصبح نموذجًا يتلقى منه الخبرات والمعلومات والعظة، لتتحول فيما بعد قناته إلى منبر دون معرفة ما هي أهدافه وهويته وما هي ثقافته؛ لأنه استكان لعدم وجود رقابة أو قيود إلا إذا قام المتابع بالإبلاغ لتتحرك بعدها الجهات المختصة بمواجهة الفيديو المبلغ عنه فقط. نظرًا لسعي المتابعين خلف محتويات سطحية ومساعدتهم في إشهار «اليوتيوبر والتيك توكرز والإنستجرامرز وغيرهم» ممن يعتمدون على عرض حياتهم الشخصية في المحتوى، نجد في المقابل أن العديد من القنوات ذات المحتوى الهادف توقفت، نتيجة لوجود مشاكل في الإنتاج، نظرًا لعدم إقبال المتابعين على المحتوى الهادف وما بلغ ما قال الجاحظ  “لا تجالس الحمقى فإنه يعلقوا بك من مجالستهم يوما من الفساد ما يعلق بك من مجالسة العقلاء دهرا من الصلاح فإن الفساد أشد التحاما بالطبائع.”  وجل ما نخشاه تأثير هؤلاء على أجيال المستقبل في بلادنا إذا تركناهم بدون رقابة مما يدمر بلادنا فقد قال أحمد شوقي

: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

وقد يصل تأثير هؤلاء على المجتمع أن ينطبق علينا قوال الله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الآية (41) من سورة الروم. أعتقد أن اليوتيوبرز والتيك توكرز والإنستجرامرز وغيرهم لم تخطر ببالهم يوماً أن لهم علاقة بمسألة الغزو الفكري والثقافي وأعتقد أيضا بأنهم يعتبرون أنفسهم محترفين يقومون بمهنهم و قد يكون هذا صحيحاً إلى حد كبير و لكنه لا يغير من الواقع شيئاً؛ لأن كثيراً من الإعلانات التجارية بطبيعتها قابلة لخدمة أهداف الغزو الفكري و الثقافي وأغراضهما و لو لم يكن ذلك في نيتهم ذلك؛ علما بأن الأعمال بالعواقب لا بالنيات فقط وكما يقال (الطريق إلى الجحيم معبد – مرصوف – بالنوايا الطيبة و الحسنة) و لذا فان كثيرا من الأعمال والممارسات و النشاطات ربما تؤدي إلى نتائج سلبية غير متوقعة وغير مرغوبة فيها كما هو ملاحظ فيما يخص الإعلانات التجارية و من جهة أخرى ينبغي الإشارة إلى أن أكثر اليوتيوبرز والتيك توكرز والإنستجرامرز وغيرهم من ذوي التوجهات العلمانية و ليسوا من التوجهات الاسلامية . وإذا كان الأمر كذلك، فمن الطبيعي أن تكون الاعلانات ذات طابع علماني وغير ملتزم بالمبادئ والقيم الإسلامية كما يظهر بوضوح في أكثر الاعلانات التجارية المنشورة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، سواء كانت ذات التوجه العلماني أو التوجه الإسلامي. وأضف إلى ذلك كثيرا من الإعلانات التجارية التي يتم اعدادها في الدول الغربية وتحمل سمات الثقافة الغربية وعناصر من ممارسات وسلوكيات غربية مخالفة للثقافة الاسلامية ثم يتم عرض هذه الإعلانات ونشرها في الدول الإسلامية بجانب الدول الأخرى وبهذه الطريقة تشكل الإعلانات التجارية الغربية قناة من قنوات الغزو الثقافي والفكري بتلقينها مباشرة أو غير مباشرة للثقافة والقيم الغربية المخالفة للثقافة الإسلامية. نعم، المآخذ نفسها صحيحة فيما يخص الأفلام الغربية أيضا، ولكن الإعلانات التجارية تبدو أكثر خطورة نظراً لتكرارها وهذا القصف الإعلاني يؤدي في نهاية المطاف إلى غسل العقول وفق ايديولوجية علمانية ورأسمالية. ولا شك في أن هذا الأمر نوع من الغزو الثقافي والفكري ولو بشكل غير مباشر وعن غير قصد. فإن تبين أنه عن غير قصد فإن نصيحتنا لهؤلاء الذين فعلوا ذلك عبر وسائل الاتصال الحديثة أن يتوبوا إلى الله تعالى، وينتهوا عن هذا الفعل المحرم مِن قَبْل أن يصيبهم عذاب الله تعالى؛ فإنهم بنشرهم لهذه الاعمال داخلون في الوعيد الذي توعَّد الله تعالى به مَن يرغب في إفساد المسلمين، وفي تزيين الحرام لهم، وفي إشاعة الفاحشة فيهم، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {النور:19}، فتوعَّد الله تعالى هؤلاء بأن لا يقتصر عذابهم على الآخرة فقط، بل يصيبهم العذاب في الدنيا أيضًا، قال الألوسي في (تفسيره): "روي عن ابن عباس: {لَهُمْ} بسبب ذلك [وهو محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين] {عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا} مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى، {وَفي الْآخِرَةِ} من عذاب النار ونحوه" ا.هـ. كما أن هؤلاء الذين يساعدون حاملي مهمة الغزو الفكري والثقافي لبلادنا تتضاعف سيئاتهم لأنهم يحملون أوزارهم وأوزار الذين يشاهدون هذه الاعلانات؛ لأن الدَّال على الشرِّ كفاعله، فقد قال الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ {النحل:25}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» رواه مسلم.  فما بالك إذا كان الأمر بقصد مباشر كما حذر منه النبي في حديث أَبو إدريس الخولاني : الذي قال إنه سمع حذيفة - رضي الله عنه قال : " كان الناس يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنتُ أسأله عن الشر مخافةَ أن يدركَني ، فقلتُ : يا رسولَ الله ، إنَّا كنا في جاهليةِ وشرِّ ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخيرِ من شرِّ ؟ قال : نعم ، قلتُ : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن ، قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يَستَنُّون بغير سُنَّتي ، وَيهْدُون بغير هَدْيي ، تَعْرِفُ منهم وتُنْكِرُ ، فقلت : فهل بعد ذلك الخيرِ من شرِّ ؟ قال : نعم ، دُعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلت : يا رسول الله ، صِفْهم لنا ، قال : [ نعم من جِلْدتنا ، ويتكلَّمون بألسنتنا ] فقلتُ : يا رسول الله ، فما ترى - وفي رواية : فما تأمرني - إن أدركني ذلك ؟ قال : تَلْزَم جماعة المسلمين وإمامَهم ؟ قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةُ ولا إمام؟ قال: فاعتزل تِلك الفِرَقَ كُلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرة ، حتى يدرككَ الموتُ وأنت على ذلك " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .الأمر الذي يشير بوضوح إلى خطورة الاعلانات التجارية السلبية وأضرارها وإلى ضرورة اتخاذ اجراءات على مستوى الحكومات والمجتمعات المدنية في العالم الاسلامي وكما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير " كل رجل مُذنب بكل الخير الذي لم يفعله."  ومن الآثار الهدَّامة للإقناع الخفي للإعلان الذي يقوم به هؤلاء أنه يضع المستهلك في حال تشوق وضعف وفقدان الأمان، ثم فجأة يخلق له سبيلاً للخلاص عن طريق السلعة التي يعلن عنها، لدرجة بات الاعلان طاغية يستبد بالإنسان عن طريق مختلف أنواع السلع والبضائع، وقوة الإعلان في الصحف ربما تكون أقل تأثيراً وسيطرة على المستهلك من التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التأثير الاجتماعي، لكن ربما يكون له أهداف أخرى تتجاوز ـ غالباً ـ مسألة تصريف المنتج إلى مسألة الغزو الفكري وترسيخ قناعات فكرية للدول ذات النفوذ وحقيقة الأمر أن خبراء الإقناع الخفي يصنعون للإنسان نفساً على هواهم، نفساً معبأة في ربطة أنيقة، كأي سلعة من السلع التي يصنعونها ويبيعونها، ونحن بني البشر لا نرضى لأنفسنا أن نكون بهذه الصورة لأن الإعلان يستغل نقاط الضعف عند الإنسان وكرامة المرأة وبراءة الطفل، واستنزاف موارد البلاد عن طريق إقناع المستهلك بأن ما لديه رديء ويجب أن يلقيه في الشارع ليشتري بدلاً منه• وكذلك تُفقْد المشاهد شخصيته، وتجعله ضعيفاً أمام المغريات المادية، وتدفعه بقوة إلى هاوية النهم الاستهلاكي من خلال الإعلانات التجارية، وكذلك تترك كلمات سوقية بذيئة تظل عالقة في أذهان الأطفال والصبية، على وجه الخصوص، وكذلك تحدث نوعاً من الاضطراب النفسي المزمن في حياة الناس، وإلى الانحلال والفسق، وترسيخ إمكانية الربح السهل والسريع في عقول الصبية والشباب• الإعلان سلاح ذو حدين، وعلينا أن نعرف كيف نستخدمه، لتأثيره الخطير الدائم على أفكار الناس، الذين يتعرضون إليه من خلال الإعلان التجاري (القناع الخفي) ولا سيما ما يهدد أبناءنا، أطفال اليوم، من حدوث صراع بين الرغبات والقيود المفروضة، مما تتشكل داخل الطفل عقدة الحرمان، ويفسد أخلاقنا، ويبالغ بتجميل المنتوج، لأن غاية الإعلان التجاري، الربح، دون الاهتمام بقضايا المجتمع، وهذا الإعلان بالذات هو المسيطر حالياً عبر شاشات التلفاز والصحافة، لذا يتوجب علينا إدراك الأثر الاجتماعي الذي يتركه الإعلان إذا استخدم بشكل علمي ومدروس، فالإعلان يؤثر على أفكار الناس، ويصقل مواهبهم، ويعمق ثقافتهم، ويزيد مستوى وعيهم من خلال الحجة والمنطق العلمي، ويجب على الرسالة الإعلانية أن تطبق ضمن شروط علمية مدروسة من قبل خبراء ومتخصصين، وبدورنا علينا أن نتسلح بالوعي والثقافة أمام التيارات الغربية المقبلة من بيئات تختلف عن بيئاتنا وعادتنا وتقاليدنا، وأن تكون إعلاناتنا ذات طابع تربوي تعليمي تقدم الفائدة الكاملة لأفراد المجتمع• ونذكر هؤلاء الذين يجرون وراء المال بكل قوتهم بما قاله الفيلسوف الفرنس فولتير "أولئك الذين يعتقدون أن المال يفعل كل شيء ينتهي بهم الأمر إلى فعل كل شيء من أجل المال". لابد من قمع مثل هذه الظاهر الغريبة على مجتمعاتنا، وعدم السكوت عليها، ولابد من إنكار المنكر كل حسب طاقته، كما أنه يجب الأخذ على أيدي أولئك الذين مسكوا زمام الإعلام ، الذي هو وسيلة من أعظم وسائل التوجيه والإرشاد والتثقيف بين العامة والخاصة .

د. خالد جمال طه امام احمد

[email protected]