ان الاخلاق ركن وثيق في حياة الافراد والشعوب والامم ؛ وضرورة وجدانية ونفسية واجتماعية لابد منها ؛ وصدق من قال :
وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَت ××ْفَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا
وكانت الاخلاق ولا تزال هوية الامة العراقية العظيمة ؛ بل هي من أعظم مقومات وجودها وتاريخها وحضارتها، ولا غرو في ذلك ففي هذه البلاد الطيبة نشأت الحضارات والاديان وشرعت القوانين ... ؛ فالأخلاق الكريمة والقيم النبيلة تشكل عند العراقيين الاصلاء جزءًا لا يتجزأ من ثقافتهم و حياتهم اليومية ... ؛ اذ في العراق : يشبع الجائع ويرتوي العطشان ويكرم الضيف , ويأمن الدخيل والطريد , ويكسى العريان , ويرحم الضعيف , ويردع الظالم , ويرتاح المكروب , ويأنس الغريب , وتصان الاعراض ... الخ ؛ و من شذ عن هذه الاخلاق العراقية الاصيلة لا تخلو حقيقته من أمرين لا ثالث لهما : اما ان يكون منكوسا رذيلا او هجينا دخيلا ... .
وفي هذه المقالة سنعرج على ذكر ابيات من الشعر الاخلاقي لرمز من رموز الامة العراقية الكريمة ؛ الا وهو الشاعر الحسين بن مطير الاسدي ... ؛ وهو شاعر مخضرم عاصر الدولة الاموية والعباسية ؛ والاخبار التي وردت عنه قليلة - حاله حال اقرانه من العراقيين الاصلاء وعلى طول الخط – الا انها وبمعية القرائن والسياقات التاريخية تؤكد عراقيته ؛ فقد كان الحسين مولى لرجلٍ من بني أسد، ويُقال أنَّ مولاه أعتقه، وتذكر روايات أخرى أنَّه كاتب مولاه حتى أُعتِقَ ... وهو من منطقة الابواء التابعة للكوفة وقتذاك ؛ وقد سكنَ الحسين بن مطر في بلدة زُبَالة ، مدينة من التغلبية ، في الطريق الواصل بين الكوفة ومكة ، وكانت المدينة عامرة بالأسواق والتُجَّار ... ؛ وقد تطبَّع الحسين بطباع أهل البادية ، فكان يلبس ملابسهم، ويتحدَّث مثل حديثهم ... ؛ و تُوفِّي الحسين الأسدي في عام 170هـ وفقا لما ذكره البعض .
واليكم بعضا من شعره :
أحب مكارم الأخلاق جهدي ××× وأكره أن أعيب وأن أعابا
وأصفح عن سباب الناس حلماً ××× وشر الناس من يهوى السبابا
وأترك قائل العوراء عمداً××× لأهلكه وما أعيى الجوابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ××× ومن حقر الرجال فلن يهابا
فشاعرنا كأهله وقومه من سكان بلاد الرافدين يحب مكارم الاخلاق ؛ ولا يحبها حبا عاديا بل يبذل قصارى جهده في التحلي بها والتخلي عن اضدادها ؛ فهو يكره ان يعيب الناس وكذلك يبغض من يعيره و يلصق به العيب ؛ وكأن لسان حاله ما قاله حكيم العراق الامام علي في هذا المضمار ؛ فقد نسب اليه : (( من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم ؛ و قال : من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ؛ وقال : يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ...)) ؛ هذه هي الاخلاق والقيم الكريمة التي غرسها الامام علي في نفوس اتباعه وشيعته ورعيته من ابناء الامة الاسلامية والعربية والعراقية ... ؛ وعلى نهجه سار العراقيون الاصلاء الى هذا اليوم ؛فهكذا ربى الامام علي حاكم العراق والعالم الاسلامي اتباعه ورعيته ومحبيه و مريديه ... ؛ اذ كان هدفه - وهدف من على شاكلته من العراقيين المتحضرين الاصلاء – ومراده ان يبنى مجتمعًا راقيًا متحضرا ، بعيدًا كل البعدِ عن مساوئ الاخلاق , والموبقات , والجرائم , والظواهر السلبية كالتطفل والفضول, والتجسس وتتبع عيوب وعثرات الاخرين , وتعييرهم بالعيوب والاخطاء , والسباب والشتم والكلام الفاحش والجارح , واحتقار الاخرين ... الخ .
وهو يعرض – يصفح – عن سب وشتم الناس ويبتعد عن هذا الخلق السيء ؛ و عندما يعرض عن رد السب والشتم على الساب ولا يبادر الى دفع الشتم بالشتم ؛ ليس ضعفا وجبنا او خوفا من الشاتم ؛ وانما عفة وحياء وحلما ؛ فكل اناء بالذي فيه ينضح ؛ ومن الواضح ان شر الناس واسفلهم وارذلهم من يهوى الشتم والسباب والطعن بالناس والتعيير بهم ... ؛ لذلك لا تتعجب عندما تراجع سيرة حكام الفئة الهجينة وزبانية الطغمة التكريتية والعصابة الصدامية وتراها مليئة بالألفاظ الفاحشة والكلمات السوقية والمفردات الجارحة ؛ ولعل اغلبكم شاهد كيف تعامل هؤلاء الاوباش مع الجنوبيين والفراتيين العراقيين في انتفاضة عام 1991 – فقد وثقت تلك الحالات ب تسجيلات متلفزة ؛ واظهرت رجال الطغمة وهم يتفوهون بأقذر الألفاظ بحق الاصلاء من ابناء الرافدين - ... ؛ لانهم ليسوا عراقيين اصلاء ؛ بل عبارة عن : شرذمة منكوسة منحطة وهجينة .
ويستطرد شاعرنا قائلا : واترك الشخص سيء الخلق والمتفوه بالقبح – قائل العوراء – والالفاظ السيئة عمدا ؛ والشاعر هنا يواجه قائل العوراء بالتجاهل والتغافل وهذا الامر يهلك المقابل ؛ لان تجاهل الشاتم والمريض نفسيا يزيده ألما ومرضا وحسرة ؛ فلا شيء اضر بالعدو من تجاهله ؛ ولعل لسان حال شاعرنا في هذه الحالة ؛ كما قال حكيم العراق الامام علي :
وَذي سَفهٍ يُخاطِبُني بِجَهلٍ ××× فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا
يَزيدُ سَفاهَةً وَأَزيدُ حُلماً ××× كَعودٍ زادَ بِالإِحراقِ طِيبا
فعندما يترك شاعرنا الرد على ( قائل العوراء ) لا يعني ذلك انه عي اللسان او ضعيف البيان او يحجم عن الرد خوفا ؛ بل انه يريد ان يميت الباطل بالسكوت عنه ؛ ويهلك الشاتم بالترفع وعدم النزول الى مستواه الهابط واخلاقه الدنيئة ... .
ثم يكمل قائلا : ( من هاب الرجال ... ) ؛ اي من اجلهم واحترمهم وعظمهم ؛ اجلوه واحترموه ؛ ولكن من ( حقر الرجال ) اي من استهان واستخف بهم ونظر لهم باستهزاء واستصغار واحتقار ... ؛ فلن يحترم من قبل الرجال او يقدر ويكرم من قبلهم ؛ وصدق العراقي الحسن البصري عندما قال : ((اِصْحَب الناس بأي خلق شئت يصحبوك بمثله )) ... .
وقد جاءت هذه الابيات الشعرية منسجمة مع تراثنا العراقي والعربي والاسلامي ؛ فقد جاء في الاثر عن النبي محمد : (( انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق )) وكذلك اثنى كتاب القران الكريم على النبي محمد بقوله : (( وانك لعلى خلق عظيم )) ؛ وقد حث فلاسفة وعلماء ومفكري ورموز الامة العراقية على التمسك بمكارم الاخلاق والتحلي بالفضائل والابتعاد عن موبقات الاعمال والرذائل والتخلي عن الاخلاق السيئة ... ؛ و نحن اليوم بأمس الحاجة الى السير على طريق الحضارات العراقية العظيمة والاقتداء برموز الامة العراقية ؛ وذلك من خلال التمسك بكل ما هو جيد وايجابي ومثمر ؛ وتجنب كل ما هو سيء وسلبي وضار ... .
فالأمة العراقية ظلت طيلة سيرتها الطويلة، وتاريخها المجيد - تحتل قصب السبق بين الأمم الأخرى، وتنال أوسمة أمة الأخلاق والكرم والكبرياء بلا منازع، ولا مقارع ؛ بل إن بعض الشعوب والاقوام تقف مذهولة إزاء الكرم والطيبة والشجاعة العراقية ، مبهورة تجاهها، عاجزة دون بلوغ مكانتها الاخلاقية بالكرم وحسن الضيافة ... الخ ، وفاشلة أمام نزع ألقاب ريادتها في كافة ميادين الحياة والحضارة والاخلاق .
وعليه يجب على احرار وغيارى ومثقفي ومفكري الامة العراقية و النخب الواعية، وأصحاب الأقلام الصادقة والضمائر الحية والشخصيات الوطنية الحرة ، تعزيز الأخلاق الايجابية والروح الوطنية في نفوس أبناء بلاد الرافدين ؛ وذلك بسبب هجمات الاعداء وقوى الخط المنكوس المستمرة والتي تستهدف بلادنا واخلاقنا وحضارتنا وتاريخنا ورجالنا وثرواتنا وشبابنا ونسائنا ... الخ ؛ وبالتالي باتت هذه القضية مسألة مهمة ومصيرية ، وغير قابلة لأي تملص أو تكاسل، ولا تحتمل أدنى تأخير ... ؛ ولقد أحسن من قال :
وإذا أصيب القومُ في أخلاقهم ××× فأقم عليهم مأتمًا وعويلاَ