إذا أرخى الليل سدوله

(الخبيئة)


 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه........                                أما بعد:

إذا أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام في الكون ذيوله، إذا أقبلت عساكر الليل، وخفقت رايات الظلام، إذا غارت النجوم، إذا أغلقت الأبواب ، إذا هدأت الأصوات، إذا سكنت الأنفاس، إذا غاب الناس ...

هناك الابتلاء العظيم، هناك الامتحان الجسيم.

إنها الخلوة والاختلاء، إنها الخبيئة والاختفاء، إنها السريرة التي ستُبلى، إنها الخفايا التي ستجلى.

  • عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَسِرُّوا مَا شِئْتُمْ، مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةَ خَيْرٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا، وَمَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةَ شَرٍّ أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا».
  • وعن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ،قال  «مَنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ صَالِحَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا رِدَاءً يُعْرَفُ بِهِ».

عباد الله: ظواهرنا انعكاس بواطننا؛ مهما حاولنا التزين والتجمل، والتزييف والتبدل، يدرك ذلك منا من أنار الله بصائرهم، وطهر قلوبهم.

والسرائر على قسمين:

الأول: السرائر الصالحة:

وهي الخشية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألها من ربه تعالى ، فيقول في دعائه: " أسألك خشيتك في الغيب والشهادة "

فخشية الله في الغيب والشهادة هي أعظم المنجيات، لأنها قائدة المرء لفعل الأعمال الصالحات.

  • قال ابن رجب رحمه الله: "وفي الجملة فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان، وله تأثير عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين".
  • وقال ابن الجوزي: "فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر".اهـ
  • وقال ابن المبارك: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا ارْتَفَعَ مِثْلَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ سَرِيرَةٌ.

إن عمل الخلوة كان أحب إلى السلف من عمل الجلوة، وكان السلف يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا يعلم عنها زوجة ولا غيرها.

  • لحديث الزبير بن العوام أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من استطاع منكم أن يكون له خَبِءٌ من عمل صالح فليفعل)). صحيح 
  •  ولحديث سعد ابن أبي وقاص أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)). صحيح مسلم

ولذا يجد المطالع لسيرهم عنايةً فائقة بعبادة السِّر وعمل الخفية:

  • فعن محمد بن إسحاق قال: (كان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل).
  • وعن زائدة: (أن منصور بن المعتمر مكث ستين سنة يقوم ليلها ويصوم نهارها، وكان يبكي، فتقول له أمه: يا بني! قتلت قتيلاً؟ فيقول: أنا أعلم بما صنعت بنفسي. فإذا كان الصبح كحل عينيه، ودهن رأسه، وبرق شفتيه، وخرج إلى الناس) .
  • وقال محمد بن واسع: (لقد أدركت رجالاً، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بلَّ ما تحت خدّه من دموعه لا تشعر به امرأته. ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خدّه ولا يشعر به الذي إلى جانبه).

يا عبد الله: دعا الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة فم الغار؛ وتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي أسروها بينهم وبين ربهم، فكان في ذلك نجاتهم،،،

فهلا سألتَ نفسك: لو كنتَ رابعهم فبماذا أنت داع؟ وبأي عمل تتوسل؟

فليحرص كل منا على خبيئةِ خيرٍ يجعلها ذخراً له عند الله، والله يضاعف لمن يشاء، وليعلم أن فيها إرضاءً لمولاه، ودحراً لشيطانه، فإنّ أعمال السرّ هي أشدّ الأعمال على الشيطان، لكونها أبعدَ الأعمال عن مخالطة الرياء والعجب والشهرة.

النوع الثاني من السرائر: سريرة السوء:

حين يتغلب الهوى ويضعف الإيمان.

 حين يستحي المرء من كل شيء إلا من الملك الديان! ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم).

حين يكون الله العظيم أهون الناظرين إليك!

 حين تتخذه في العلن ولياً وفي السر عدواً كما تتظاهر بفعل العكس مع الشيطان!

حين لا يزلزل قلبك هذا الحديث المخيف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم-: ((لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمَّتي يأتون يومَ القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تِهامةَ بيضاءَ، فيجعلها اللهُ هباءً منثورًا))، قال ثوبان - الرواي -: يا رسول الله، صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا؛ ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أمَا إنهم من جِلدتكم، ويأخذون مِن الليل كما تأخذون، ولكنَّهم إذا خَلَوْا بمحارم الله انتهكوها))؛ رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني "السلسة" (505).

أيها الأخ الحبيب: سريرة السوء مفضوحة، إن لم تكن في هذه الدنيا الفانية، فانتظرها (يوم تبلى السرائر).

  • قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: " يبدي الله يوم القيامة كل سرٍّ؛ فيكون زيناً في الوجوه وشيناً فيها"  (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه).
  • وقال أبو الدرداءرضي الله عنه: " ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين" .
  • وقال المعتمر بن سليمان رحمه الله: إن الرجل يصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته.

يا عبد الله: بأي لسان تجيب الله حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك؟

 وما ظنك بسؤال من قد امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله؟

 وكيف بك إن ذكَّرك مخالفتك له وركوبك معاصيه، وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك في الدنيا بطاعته؟

وماذا تقول إن قال لك يا عبدي ما أجللتني؟ أما استحييت مني؟ أما راقبتني؟ أستخففت بنظري إليك؟ ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك ؟ما غرك مني؟

فأعظِم به موقفًا؛ وأعظِم به من سائل لا تخفى عليه خافية؛ وأعظِم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت في طاعته، وعلى ركوبك معصيته {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}.

ولا تنس أيها المبارك: أن خاتمة السوء لا تكون إلا بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس.

اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، واغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

أما بعد:

 فإن من رام صلاح سريرته، وحسن سيرته، ونجاته يوم تبلى السرائر فعليه بأمور منها:

1-       دوام المراقبة لله تعالى : (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ )(وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)  (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)

قال ابن رجب: "فإن من علم أن الله يراه حيث كان، وأنه مطلع على باطنه وظاهره، وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر، وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله عز وجل {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} ".

وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر؟ قال بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره.

2-       تذكُّر ذلك الموقف العظيم بين يديه: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)

(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المـأوى)

يقول بعض السلف : ( كم من معصية في الخفاء منعني منها قوله تعالى : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " ) .

  • التفتيش الدائم عن أعمال السر التي يستطيع القيام بها، وعدم التواني في ذلك، والاستعداد لفعلها خاليا بربه تعالى، فعنده الجزاء وبيده العقاب وفي حديث المستظلين بعرش الرحمن: ( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

- قال ابن الجوزي رحمه الله: "نظرت في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله سبحانه عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس.

وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك؛ ليعلم الناس أن هنالك من يجازى على الزلل، ولا ينفع من قَدَره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.

وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.

وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله - تعالى - فإنه يكفيه كلَّ همٍّ، ويدفع عنه كل شر.

وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامَّاً ".


اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهاد، وكلمة الحق في الرضا والغضب.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين.....