ينقسم الشعر الشعبي العراقي الى عدة اقسام ومنها : (( الابوذيه )) ؛  و تتكون ( الأبوذيه )  من  اربع أبيات فقط، الأبيات الثلاثة الأولى تنتهي بنفس الكلمة والرابع بكلمة تكون نهايتها بالمقطع (يه) وهي تعبر عن موضوع معين بإيجاز شديد، ويشتهر أهل المناطق الجنوبية والوسطى  من العراق بهذا النوع من الشعر ... ؛ والبعض يطلق على الشعر الشعبي العراقي الجنوبي والفراتي ب (الحِسْچَة ) : و ( الحسچة )  ، في أدق تعريف لها : هي البلاغة في القول والشعر حصرا  ؛  ولا يمكن اقحامها في أمور اخرى كالعلم والاقتصاد والسياسة وغيرها ، فلا نستطيع القول بوجود ( حسجة ) في  علم الفيزياء او الهندسة او في القانون ... الخ ؛  الذي ان وجدت فيه، مثلا، فإنها ستصبح كارثة لا محالة  .

والخطأ الشائع الذي وقع به اغلب من خاض في تعريف معنى ( الحسچة ) ، هو حصر معناها بأنها كلام او شعر يحمل معنيين، اي ان المعنى الباطن فيه يختلف عن المعنى الظاهر؛ و الصحيح هو ان اختلاف المعنيين او “التورية” هو جزء من سمات ( الحسچة )  وليس كلها ؛ وقال عنها الشاعر الكبير علي الشرقي في المقدمة التي وضعها لديوان الملا عبود الكرخي : “اصبح للغة (الحسچة) ما بين اللغات العامية في العراق المقام الرفيع الذي كان للغة قريش بين بقية اللغات العربية”... ؛ و لقد كان الشرقي مصيبا ودقيقا في تشبيه ( الحسچة )  بلغة قريش، التي كما قال عنها الفارابي : “كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانة عند النطق” ؛  و( الحسچة ) كذلك هي أحسن الكلام وأفصحه وأبلغه وأصفاه، ولا يجيدها الا من كان فطنا مملوح الذوق لا ينطق كلاما ((ماسخا “فاهيا”))  ؛  والبعض  يصر على ان كل كلام يحمل أكثر من معنى هو ( حسچة ) ؛ وعليه تصبح  مطلق (الابوذية )  (  حسچة )  وكذلك الموال والالغاز، وهذا للأسف – كما قال البعض -  قصر نظر في الفهم والتفسير ؛  و الصحيح  كما قال البعض : هو ان الشعر او الكلام لا يدخل في خانة ( الحسچة ) الا اذا كان بليغا ؛  فالرد البليغ ( حسچة )  وكذلك النكتة والمثل .

وهنالك موقف حدث مرة للشاعر  كامل العامري مع رجل صاحب ( حسجة ) من اهل الديوانية - و التي يتصف اكثر أهلها ( بالحسچة ) -  ؛  ان هذا الرجل القروي كان يسكن قرب قنطرة بناها مهندسون من الاتحاد السوفيتي السابق، وكان حين يسأله احد ، ومن بينهم العامري ، عن من بنى تلك القنطرة ، يجيب : “بناها السوبيت” ويقصد السوفيت ... ؛ و صادف ان كان عند العامري ضيوف فأراد ان يضحكهم على الرجل فقصد القنطرة هو ومن معه... ؛  وهناك سأل العامري الرجل : “عمي منو بنا هاي الگنطرة ؟”... ؛  انتبه الرجل بفطنته الى ما كان يهدف اليه العامري، فأجابه : “بناها حلگك الأعوج”... ؛ و لقد أُفحم العامري برده ، وبدلا من ان يضحك أصدقاؤه على الرجل ضحكوا عليه ... .

و يتعاطى (الأبوذية ) أهالي المدن والقرى الجنوبية  والفراتية  - الوسطى – العراقية ، ويتبعهم أهالي  الاحواز  العرب وهم ابناء العراق  القديم ... . 

وفي هذه المقالة الموجزة سنتناول بالشرح والتوضيح والتعليق ابيات من الشعر الشعبي العراقي ( الابوذيه ) لرمز من رموز الشعر الشعبي العراقي  ؛ الا وهو الشاعر الجنوبي الاصيل عريان السيد خلف ؛ اذ قال : 

دنيه تحلفت بيه وانا الها

ورادت كون اطخ الها وانا الها

وحكَـ سادة بني هاشم وانا الها

مكَولن آخ لو تنطبك بيه

اعلنت الدنيا بحرب شعواء لا هوادة فيها – ((دنيه تحلفت بيه ))  ؛ ضد شاعرنا ومن هو على شاكلته بل وعلى الكثير منا ؛ ففي اللهجة العراقية : (( تحلفت بيه )) أي توعدتني بالشر والاذى ؛ الا ان شاعرنا توعد الدنيا هو الاخر بالمقابلة والمبارزة والتحدي ؛ اذ قال : ((وانا الها )) أي انا لها بالمرصاد ولا اهتم لتهديدها و وعيدها ومصائبها وصعابها ... ؛ فهو يعلن تحديه ومقاومته لها ؛ ويوضح لنا ان مراد الدنيا من هذه الحرب الشعواء  وهذه المعركة حامية الوطيس ؛ ان يخضع لها ويطأطأ رأسه الشامخ لها ((  ورادت كون اطخ الها وانا الها   )) ... ؛ الا انه يؤكد وقوفه في ساحة معركة الحياة متحديا لها مرة اخرى ورافضا لطلبها وضاربا اوامرها وضغوطها عرض الجدار ... ؛ ثم يقسم الشاعر بحق الاشراف من بني هاشم ((وحكَـ سادة بني هاشم وانا الها )) بأنه سيمضي قدماً في تحدي الحياة ومقاومتها وعدم الرضوخ لها ؛ ويختتم الشاعر هذه الابيات الشعرية بزبدة القول ومسك الختام ؛ قائلا : ((  مكَولن آخ لو تنطبك بيه )) فقد اقسم بأشراف بني هاشم بأنه لا يقول ( اخ ) او يتأوه من وقع سيوف وخناجر الدهر الغادر ؛ حتى لو اطبقت الدنيا عليه وضمته الارض بين طبقاتها ... . نعم في هذه الحياة كلنا نخوض من حيث نشعر او لا نشعر حربا مستمرة وصراعات متواصلة ؛  يخوضها الجميع ؛  منذ خلق الإنسان ، وباقية ما بقيت البشرية ، و في هذه الحرب القاسية بعضنا يخسر فيها نفسه واهله واخلاقه ومبادئه ويسقط في وحل الهزيمة خاسئا منكسرا ذليلا منبطحا ... ؛ بينما يقف البعض متحديا  وشامخا وصابرا وشجاعا في ساحات الوغى الحياتية ؛ وعلى الرغم من كل التحديات والضغوط والصعاب لا يبدل مواقفه ولا يغير اخلاقه ولا ينسلخ عن هويته وعقيدته بل يفضل الموت بشرف وكرامة على العيش بالذل والهوان والتملق والخسة ... .  

فلا ينبغي التخلي عن القيم والمبادئ والاخلاق بمجرد اعلان الحياة الحرب ضدك ؛ بل لابد لك من الصبر والتحدي والتمسك بمبادئك واهدافك بكل قوة وعزيمة  ... ؛ اذ تتمحور الحياة حول بذل الجهد الدؤوب للتغلب على التحديات والإغراءات ، حيث تواجهنا عقبات وإغراءات  جديدة في  كل يوم ، وعلينا دائماً أن نكون يقظين لتفادي هذه العقبات  والإغراءات  إذا كنَّا نرغب في عيش حياة كريمة وعزيزة وشريفة ... ؛ نعم قد لا تعينك الظروف و لا يساعدك من حولك  وتكثر اغراءات التنازلات امامك  و لكن … ؛ هنا يظهر التحدي و تظهر قوة إرادتك وعظمة اخلاقك وقيمك ومبادئك  ... . 

نعم  قد تخرجك الدنيا ؛  بسبب تمسكك بمبادئك ؛  من منطقة راحتك وأمانك  وسعادتك في الحياة، وتجعلك تواجه تهديدا حقيقيا يزعزع اركان حياتك ويفقدك الكثير من الامتيازات  ... ؛ لكن عليك أن تدرك أن هذا البلاء وهذه المشاكل قد تنتهي  بمجرد الصبر والتحدي ... ؛ وان لم تنته سيبقى إحساسك بالفخر والشرف والكرامة يخامر وجدانك ويسكن في سويداء قلبك ؛ وكما قال الشاعر عنترة بن شداد  : 

لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ ××× بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ

ماءُ الحَياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ ×××    وَجَهَنَّمٌ بِالعِزِّ أَطيَبُ مَنزِلِ

فكرامة الانسان وعزته وحرمته أهم من العيش المادي الرخيص والمليء بموبقات التملق والهوان والانكسار والذل ؛ اذ ان الموت بالعزة يمثل تاج الشرف وعنوان الكبرياء , وهذا ما ردده شاعرنا العراقي الكبير المتنبي : 

عِشْ عزيزاً أوْ مُتْ وَأنتَ كَرِيمٌ ××× بَينَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ

فإما أن تعيش عزيزًا ممتنعًا من الأعداء، أو تموت موت الكرام في الحرب؛ لأن القتل في الحرب يدل على شجاعة المقتول، والقتل خير من العيش في ذل .