الصداقة الحقيقية
(1)
يَعْتَمِدُ العَقْلُ الإِنْسَانِيُّ فِي تَمْيِيزِهِ بَيْنَ الأَشْيَاءِ عَلَى المُقَارَنَةِ فِيمَا بَيْنَهَا، فَكُلَّمَا كَانَتِ الأَشْيَاءُ أَكْثَرَ تَقَابُلًا وَتَضَادًّا كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ تَمَايُزًا وَوُضُوحًا، وَلِذَا قِيلَ : (مَعْرِفَةُ الأَشْيَاءِ بِأَضْدَادِهَا). فَطَبِيعَةُ المَعْرِفَةِ تُحَتِّمُ عَلَى العَقْلِ القِيَامَ بِهَذِهِ المُقَابَلَةِ لِرَسْمِ الحُدُودِ الفَاصِلَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، فَحَتَّى تَعْرِفَ النُّورَ لاَبُدَّ أَنْ تَعْرِفَ الظَّلَامَ، وَلَا يُمْكِنُ اقْتِرَاحُ وَسِيلَةٍ أُخْرَى; لِأَنَّ النُّورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّلَامَ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النُّورُ هُوَ غَيْرَ الظَّلَامِ، وَفِي هَذِهِ الحَالَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ بِالمُطْلَقِ، وَإِمَّا مُبَايِنًا لَهُ فِي بَعْضِ الوُجُوهِ ،و هَكَذَا يَحْصُرُ العَقْلُ الاحتمالات المُمْكِنَةَ، وَالإِنْسَانُ عِنْدَمَا يُفَكِّرُ فِي الأَشْيَاءِ يُفَكِّرُ ضِمْنَ هَذِهِ المَسَارَاتِ المُحَدَّدَةِ ... ؛ ولاكتمال صورة الصداقة المزيفة في اذهاننا لابد لنا من بيان أهمية الصداقة الحقيقية في حياتنا ومعرفة معناها ومفهومها ؛ ومن ثم العروج الى بيان علامات الصديق الحقيقي ؛ كي يتضح الموضوع بصورة جلية لا لبس فيها ... .
اهمية الصداقة وضرورتها في حياتنا
(2)
الإنسان كائن اجتماعي، وهو في سعي دائم لتكوين صداقات وانشاء علاقات ، حتى لو كانت افتراضية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي او البريد ... الخ ، وقد يعتقد الشخص أن لديه صداقات حقيقية ، ويسعد بارتفاع عدد متابعيه ومعجبيه ، و لكن الصداقة الحقيقية هي أقرب إلى المستحيل في وقتنا الراهن ، بل إن العرب ببلاغتهم جعلوا الصديق الوفي أحد المستحيلات ، فدائماً نسمع مقولة : «هذا من رابع المستحيلات» ؛ والمستحيلات الثلاثة هي : الغول والعنقاء والخِل الوفي ... ؛ إذن الخِل الوفي هو بمثابة المستحيل ، ولو أنعم الله على الإنسان بصديق واحد أو اثنين او ثلاثة أوفياء فإن ذلك بمثابة هبة من الله ، خصوصاً في زمننا الذي طغت فيه المادة والانانية ، ولم يعد الناس يلتزمون بوعودهم وقيمهم السامية ... ؛ وكما اسلفنا : الانسان لا يستطيع أن يحيا بمفرده ، وهو بحاجة إلى أصدقاء ، لأن ذلك يشبع حاجته إلى الانتماء والأهمية ، بل والشعور بالسعادة والطمأنينة والعطاء أيضاً ، وكلنا بحاجة لبعضنا البعض ، لكن هناك فئة ــ أصبحت الغالبية العظمى ــ لا تعرف أحداً إلا وقت أن تحتاج إليه فقط ، فإذا انقضت الحاجة لم تعد هناك حاجة لهذه المعرفة وذلك التواصل الاجتماعي , ولا يمكن أن تبذل أي نوع من العطاء ، ولو بالنصيحة ، وإن قدمت النصيحة فهي ليست صادقة ، بل لأهداف خفية ، قد تتضمن مصلحة ذلك الصديق المزيف ولو على المدى البعيد ... .
ففي الماضي كنا نعتقد أنه من المهم أن يكون لدينا الكثير من الأصدقاء وبغض النظر عن نوعيتهم , ولأننا نكون بأمس الحاجة لوجود الصديق في حياتنا , تغيب عن بصيرتنا أمور مهمة يجب أن تتواجد في ذلك الصديق ... وقد اشتبه البعض منا عندما تصور ان فلان صديقه واذا به يكتشف معدنه الحقيقي وهذه حالة طبيعية فالصديق المزيف كالعملة المزيفة لا تكتشفه إلا عند التعامل معه ؛ و الأصدقاء المزيفون هم مثل الظلال ، إنهم يتبعونك في الشمس، لكنهم يتركونك في الظلام ... وكما قال الشاعر :
عــلمــتُ بــتــجـريـبـي أمـوراً جَهِـلتُهـا ... وقـد تُـجْهَـل الأشـيـاءُ قـبـل التـجارِبِ .
ومَــنْ ظَــنّ أمْــواه الخــضــارم عَــذْبَــةً ... قــضــى بــخـلاف الظـنّ عـنـدَ المـشـارِبِ .
؛ ولكن مع مرور الوقت , وبفضل التجارب الحياتية والشخصية والصدمات النفسية التي تعرضنا لها بسبب علاقاتنا العامة والاجتماعية الكثيرة والتي من خلالها عرفنا المزيف من الحقيقي وميزنا بين الغث والسمين ... لذلك صرنا ندرك أن الكثير من أصدقائنا ليسوا أصدقائنا حقًا ؛ عندما يزداد وعينا وتكثر تجاربنا ويقوى حدسنا ؛ أصبح كل ما يهمنا ونبحث عنه الآن هو وجود صديق واحد حقيقي يقف بجانبنا وقت الضيق ... ؛ فمن الحمق ان تطلق مسمى الصداقة على كل عابر يمر في حياتك او على كل شخص تجمعك به مناسبة او حادثة ... ولابد لنا من التمييز بين المعارف والاصحاب والزملاء والرفاق والاصدقاء والاقرباء ... .
لذلك عدت الصداقة الحقيقية شيء غالي الثمن ، بل هي من أسمى العلاقات الإنسانية على الاطلاق ، فقد تنشأ بين الأصدقاء علاقة قوية أشبه بعلاقة الأخ بأخيه بل وأشد قوة ، في وقوفهم إلى جانب بعضهم بعضا، وخوفهم على بعض , والكثير من الأمور والعواطف التي تجعل منها علاقة قوية، فالكثير من الأشياء والأمور والاحاسيس لا تستطيع البوح بها لأخيك ، لكنك تستطيع قولها لصديق مخلص، حتى تستطيع إخباره بأهم الأمور التي تشغلك وتزعجك حتى عن نفسك : لذلك قال بنيامين فرانكلين : «الصديق هو من تخبره عن أخطائك قبل أن تعترف بها لنفسك» فتنشأ بين الأصدقاء علاقة وطيدة تكللها الثقة والمودة ... ؛ لذا يلعب الصديق الحقيقي دوراً مهماً وأساسيّاً في حياة الإنسان ، وفي كثيرٍ من الأحيان يكون الصديق أقرب إلينا من أفراد عائلتنا حتّى ، فالصداقة هي أسمى العلاقات وأنبلها وهي أرقى العلاقات في الحياة ؛ والصداقة تعد من أنبل العلاقات الإنسانية وأرقاها وأسماها - كما اسلفنا - في حالة أن تكون مبنية على الحب والمودة والتفاني وكذلك الإخلاص والإيثار والصدق والصراحة ... ؛ لذلك نرى حياة الأصدقاء الاوفياء تمتلئ بالذكريات الجميلة والمواقف المشرفة التي لا تنسى والتي تبقي عالقة وموجودة في الوجدان إلى الأبد ، ومن هنا ادرك العقلاء بأن صديق واحد حقيقي خير للإنسان من ألف صديق مزيف ، وعليه ابحث عن الصديق المخلص والخل الوفي بين قائمة أصدقائك ومعارفك وعندما تعثر عليه ألغ البقية من حياتك ولا تجعل لهم في ودك نصيب وفي قلبك مكانة ... ؛ فالصداقة الحقيقية ليست بعدد السنوات ولا بكثرة الوعود والكلمات بل بعدد المواقف والالتزامات ... ؛ لذلك قد تلاحظ ان الأشخاص المزيفين يقيمون علاقات صداقة كثيرة جدا ؛ في حين لا يكون للحقيقيين إلا القليل من الأشخاص الموثوق بهم ، لأن الحقيقيين لا يحتاجون لأرقام ، بل لعدد قليل من الأحباء الملتزمين ؛ فالأشخاص الحقيقيون راضون عن هويتهم ولا يحتاجون إلى مزيد من الاهتمام لإثبات صفاتهم الطيبة - كما قال (بيكسلز) - .
علامات الصديق الحقيقي
(3)
هنالك فروق عديدة بين الصداقة الحقيقية والمزيفة ؛ وسأذكر لكم بعضا منها ؛ كي يستطيع القارئ تمييز الطيّب من الخبيث، والحقيقي من الوهمي , والصادق من الكاذب :
- 1- يدعمك في كافة مواقفك : ف لسان حاله : ( انصر اخاك ظالما ومظلوما ) ؛ فالصديق الحقيقي يقف بجوارك دائماً في كل خطوة تخطوها في مشوار حياتك ويشجعك على الوصول إلى هدفك الذي تحلم به .
- 2- يحب الجانب السلبي من شخصيتك : فكلنا لنا جوانب " سلبية " في شخصياتنا ، والصديق الحقيقي هو من يحب تلك الجوانب ويقبلها ويتكيف ويتعامل معها ؛ اي يقبلك كما أنت على طبيعتك دون قيد أو شرط , فالكمال لله كما قيل قديما .
- 3- يسامحك على أي شيء : قد تحدث أحياناً مواقف أو أخطاء بين الصديقين ، مع الشخص المزيف تدفع ثمنها وتخسر العلاقة ربما للأبد ، لكن الصديق الحقيقي يعي جيداً ذلك الأمر بل ويسامح من قلبه، لأنه ببساطة يقدر فعلاً صداقتك ولا يتوقف عند أخطائك المؤقتة , وهو يعلم بأن الانسان قد يخطأ ؛ وكما قال الشاعر :
- اذا كنت في كل الامور معاتبا ** صديقك لم تلق الذي تعاتبه
- فعش واحدا أو صل اخاك فإنه ** مقارف ذنب تارة ومجانبه
- فلا داعي لكثرة العتاب والتقريع لإخواننا وأصدقائنا - حتى ولو خابت ظنوننا في بعضهم - بسبب بعض الاخطاء ؛ وإذا ظللنا نقرع ونشجب ونعاتب فسنفاجأ قريبا بأنه ليس حولنا أحد ؛ لأنه لا يوجد شخص على وجه هذه الأرض - لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل - سالما من العيوب والنقائص والاخطاء ، فكلُ بني آدم خطاء، وإذا أردت أخاً بلا عيب بقيت بلا أخ ، فعليك أن تتقبل صديقك على ما فيه من العيوب ، وأن تغفر لصاحبك ما دام قد أخطأ عن غير عمد , وتسامحه عن الهفوات ، وكما قال الشاعر انفا : إذا أردت أخاً بلا عيب فعش وحيدا أو عليك أن تصل أخاك – وتقبله كما هو - فهو يحسن مرة ويسيء أخرى .
- 4- يقف خلف ظهرك دائماً : فالصديق الحقيقي من يقف خلف ظهرك لحمايتك ؛ عندما يحدث لك مكروه ما او تتعرض لتهديد ، بل ويناضل من أجلك دون أن يكلّ أو يملّ ... ولا يهدف بهذا الخلق النبيل إلى تحقيق غرض معين او غاية ؛ اذ يقف الصديق الحقيقي بشكلٍ دائم معك ويُساندك في مختلف المواقف والمشاكل التي قد تمر بها.
- 5- يجعلك تكتشف اهتماماتك ويفرح لأجلك : الصديق الحقيقي هو من يساعدك في اكتشاف الجوانب الجديدة والجميلة والايجابية في شخصيتك وحياتك والتي لم تكتشفها أنت بنفسك ويشجعك على تنميتها وتطويرها ... ؛ و يشعر الصديق الوفي بسعادةٍ كبيرة عندما تتمكن من تحقيق المزيد من النجاحات والأرباح إن كان في حياتك الخاصة أو في حياتكَ العمليّة ، بينما يشعر الصديق السيئ بالغيرة الشديدة منكَ ومن كل النجاحات التي من الممكن أن تحققها، لهذا فهو دائماً ما يسعى إلى إحباط عزيمتكِ وتشجيعكَ على الاستسلام .
- 6- يعرف عنك هفواتك ويقبلها : لكل منا هفواته ونزواته ومزاجه الخاص وصفاته غريبة الأطوار في كثير من الأحيان ، مثلاً بعض الأشخاص غالباً ما يكونوا غاضبين في الصباح الباكر وينفجروا عندما يخاطبهم أحد ، و الصديق الحقيقي يعلم هذا ويتفهم ذلك ولا يتوقف عند هذا الأمر.
- 7 - يبقى على تواصل واتصال دائم : الصديق المزيف من يتواصل معك فقط عندما يرغب في معرفة شيء ما أو خدمة معينة ، وفور الانتهاء منها ، لا يعرفك ، بينما الصديق الوفي هو من يتواصل معك في أي وقت ومن أي مكان ، ويهتم بمعرفة أخبارك ومجريات حياتك ، وليس لقاء على غداء أو عشاء من أجل الثرثرة فقط ... وان عجز عن رؤيتك او تعذر التواصل معك بصورة مباشرة سأل الاخرون عنك ؛ للاطمئنان عليك .
- 8- يحتفظ بأسرارك : بالطبع الصديق الوفي من يحتفظ بسرك وإن كان صغيراً ولا ينقله أو يثرثر به مهما حدث ، وهو الذي تتحدث إليه كما لو كنت تخاطب نفسك ، بينما المزيف هو الذي يتعامل مع الأسرار كأنها معلومات للابتزاز او عادية لذلك تراه لا يتحرج من تسريبها للآخرين.
- 9- تتعامل معه بكل حرية ونقاء وانسيابية : فالصديق الوفي لا يحتاج إلى أن تتأنق وترتدي أجمل الثياب وتضع أفضل العطور وتُهذب شعرك كي تقابله ؛ او تتكلف او تتصنع لأجله ، بل كل هذا يحدث مع الصديق الوهمي ، فالصديق الحقيقي هو من تتعامل معه بحرية وراحة وصدق و واقعية بلا رتوش مصطنعة .
- 10- يترك لك وقتاً لنفسك : فالصديق الحقيقي يترك لك مساحة ووقتاً لتجلس مع نفسك، ولا يلومك لقضاء وقت فراغك بمفردك من دونه ، بل يعرف تماماً أنك بحاجة إلى أن تخلو بنفسك في بعض الأوقات ؛ او يعلم بانشغالك بالشؤون العائلية والمهنية ؛ فهو سهل المؤونة عندما تحتاجه تجده وعندما تختفي عنه يعذرك لأنه يقدر الظروف ويحسن الظن بك .
- 11- تلجأ إليه عندما "تبكي" : ثمة فارق كبير بين الصديق الحقيقي والزائف ؛ فعندما تشعر بالوحدة أو البكاء أو ترغب في البوح و( الفضفضة) ؛ وقتها ستجد الشخصية المزيفة هي من تربت على كتفك وتواسيك للحظة ثم تحاول تغيير الموضوع الأساسي؛ او تهرب منك اصلا ولا تعيرك اي اهتمام ، أما الصديق الوفي فهو من يحتضنك ويضمك إلى صدره ويشعرك بأهمية ما تقول ويستمع إليك ويهتم لأمرك، وتجده دوماً سواء كنت سعيداً أو حزيناً بجانبك ؛ ولا يتركك الا وقد خفف عنك وطء المصيبة .
- 12- صريحا معك : فالصديق الحقيقي هو الشخص الذي لن يخشى أبدًا إخبارك بالحقيقة غير السارة عنك أو عن نفسه أو عن أي شيء اخر ؛ فالصراحة اساس الصداقة الحقيقية .
- 13- العلاقة الفكرية والعاطفية والروحية الوثيقة : غالبا ما يكون الصديق الحقيقي هو الذي يشبهك من حيث القيم والمعتقدات والافكار والرؤى ووجهات النظر حول الأشياء الأساسية التي تهمكم ... نظرًا لأن شخصيات الناس وقيمهم إذا كانت متشابهة ، فإنها تمنحهم إحساسًا بالانتماء ، مما يرضي الحاجة الإنسانية الأساسية للشعور بالارتباط والأمان ... بالإضافة الى تشابه الاخلاق والقيم الانسانية احيانا .
- 14- الاحترام : يحرص الصديق الوفي على احترامك وعلى التعامل معك بكل لطفٍ ومحبة وتقدير ، ومهما كان يشعر بالغضب أو الاستياء من غير الممكن أن يوجه لك أي كلمة جارحة ، بينما لا يتردّد الصديق السيئ من توجيه الكلمات الجارحة والقاسيّة بحقك في حال تغيير مزاجهُ ، أو في حال شعر بأي نوع من الغضب أو الاستياء.
* 15- يحترم خياراتك الفكرية والعقائدية :يحرص الصديق الوفي على احترامك ومحبتك مثلما أنت، أي أنّهُ لا يسعى ولا يُفكر بتغير أفكاركَ ومعتقداتك ، بل إنّهُ يحترمها لأنّها أفكار ومعتقدات تخص صديقه الرائع الذي لا يُريد أن يخسر وجودهُ في حياتهِ ، بينما يُحاول الصديق السيئ أن يُغير كل الأفكار والمعتقدات التي تخصكَ والتي لا تتناسب مع أفكارهِ ومعتقداتهِ ، ولا يكفُ كذلك عن توجيه الانتقادات القاسيّة لك ولمعتقداتكَ وأفكاركَ .