وغرق فرعون
الحمد لله كاسر الأكاسرة، ومهلك الفراعنة، ومبيد الجبابرة.
الحمد لله اللطيف بأنبيائه، الرحيم بعباده وأوليائه. نحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، محمد بن عبد الله خير رسل الله، وأحب خلق الله إلى الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد : فيا أيها المؤمنون ، ((اتقوا حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)).
واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد r، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله:
*وغرق فرعون، وغرقت معه أصول الكفر والشرك والإلحاد؛ في بحور الإيمان والتوحيد.
*وغرق فرعون: وغرقت معه مبادئ التعالي والتكبر والتجبر ﴿إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤﴾[القصص:4]
*غرق مدعي الألوهية ﴿ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ ٢٤﴾[النازعات:24]﴿ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي ﴾[القصص:38]
*غرق المتلبس بعباءة الناصح الأمين، المتعمم بأسلوب الإهانة والتخوين، حين قال عن موسى عليه السلام ﴿ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ ٢٦﴾[غافر:26]
*غرق ذاك المعجب برأيه العفن، المتفاني في إلزام الناس به ﴿ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ٢٩﴾[غافر:29]
*غرق الذي أسس مبدأ الإقصاء للمخالف ولو بالقتل!! ﴿وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ ﴾[غافر:26]
غرق الذي أعماه الهوى حتى أصبح نوذجا للسخرية من الثوابت والتشكيك فيها ﴿قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٢٣﴾[الشعراء:23]
*غرق الذي ظن أن الاستخفاف بالعقول يؤتي ثماره مع كل أحد وفي كل زمان ومكان ﴿فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ ﴾[الزُّخرُف:54]
*غرق الذي لا يستحي أن يوقف قوافل الحق باستعداء المجرمين والمتزلفين ضد كل مخالف له ولمبادئه ﴿فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ ٱئۡتُواْ صَفّٗاۚ وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ ٦٤﴾[طه:64]
لقد غرق: لكن أنطقه الله قبل موته بالحقيقة، وأظهر ما كان يخفيه الطاغية عمن حوله ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسۡتَيۡقَنَتۡهَآ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمٗا وَعُلُوّٗاۚ﴾[النمل:14]
هناك فقط علم الحقير بحقارته، والدنيء بدناءته، والضعيف بضعفه وعجزه، فحاول التمسك بخيوط العنكبوت ﴿ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٩٠﴾[يونس:90]
قال الشيخ السعدي رحمه الله: " جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم، لأن إيمانهم صار إيمانا مشاهدا، كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب".
وفي المقابل : نجا حبيبنا موسى عليه السلام، وظهر العلو للتوحيد والإيمان ، وبانت فضيلة الصبر والتواضع واتباع الحق.
حبيبنا موسى عليه السلام، الذي كان سببا في تخفيف فرض الصلاة علينا من خمسين صلاة إلى خمس صلوات! وهو القائل: إن أمتك لا تطيق ذلك. حتى قال الله تعالى: (خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي, فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى بن عمران فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استحييت من ربي)).
نعم، والله إنا لأحق بموسى منهم، ولقد شكر موسى ربه على النجاة من ذاكم الطاغية، فصام ذاك اليوم العاشر من المحرم.
عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: " قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجّى اللَّه فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. " . أخرجه البخاري (2004) ، ومسلم (1130)
وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه قال: "كان يوم عاشوراء يوماً تعظّمه اليهود، وتتخذه عيداً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "صوموه أنتم" .
وعن عبد اللَّه بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس رضي اللَّه عنهما وسئل عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: " ما علمت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهراً إلا هذا الشهر - يعني رمضان-.
وفي لفظ: " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء..".
أخرجه البخاري (ح2006) ، ومسلم (1132)
وعن أبي قتادة رضي اللَّه عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صيام يوم عاشوراء، أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي قبله" . أخرجه مسلم (1162)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع ملته ونصر سنته إلى يوم الدين
أما بعد:
فهذه إجابة مختصرة عن شبهات يتناقلها الناس هذه الأيام حول صيام عاشوراء، مفادها التشكيك في هذه السُّنة، والتقليل من أهميتها، وتثبيط الناس عن الفوز بفضيلتها.
الشبهة 1ـ إن قيل إن النبي ﷺ دخل المدينة في ربيع الأول فكيف وجد اليهود تصوم عاشورء؟
فالجواب أنه ليس في الأحاديث أنهم كانوا صائمين يوم دخوله، بل المراد بالحديث أنه لم يعلم بأنهم يصومونه إلا بعد قدومه.
وقول الراوي (فوجد اليهود…) الفاء للتعقيب مع التراخي، كقوله تعالى" ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة… " وهي لا تخضر في نفس الليلة!
الشبهة ٢ـ هل معنى (فصامه) بعد سؤال اليهود… أنه أخذ دينه منهم؟
الجواب أنه كان يصومه قبل الهجرة، ويكون معنى (فصامه) أي داوم على صيامه وثبت عليه.
الشبهة ٣ ـ إذا كان ﷺ قد صامه قبل الهجرة فلماذا سأل اليهود عنه؟
الجواب أن السؤال كان عن سبب صيامهم فقط، فلما أخبروه قال (نحن أحق بموسى منكم)
قال القرطبي: هي كلمة حق تقتضي تأنيسهم واستجلابهم.
الشبهة ٤ ـ هل صدقهم فيما قالوه عن موسى عليه السلام؟
الجواب .. يحتمل أنه قد أوحي إليه بصحة ذلك، أو أن بعض من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام قد أيدوا ذلك، أو أن الخبر بلغ عنده مبلغ التواتر لوجود العدد الكثير منهم الذي يحيل تواطؤهم على الكذب.
الشبهة ٥ ـ هل صيام الرسول ﷺ لعاشوراء وحده في حياته كلها يتعارض مع النهي عن موافقة اليهود؟
الجواب… لا نسلم بوجود الموافقة لكونه كان يصومه قبل الهجرة.
ثم إن الموافقة إذا وقعت في أصل شرعي فلا تدخل في المنهي عنه، كما يقال: إنهم يصلون ونحن نصلي ولا يسنلزم ذلك أن نخالفهم فلا نصلي.
ثم لعل ذلك قد كان في الفترة التي كان يحب فيها موافقتهم فيما لم ينه عنه.
الشبهة ٦ ـ تقرر الأحاديث أن اليهود كانوا يصومونه، واليوم لا أحد منهم يصوم؟
الجواب… أن فعل اليهود اليوم لا ينفي فعل أسلافهم.
فقد قال أسلافهم (عزير ابن الله) ،، قال النقاش: لم يبق أحد من اليهود يقولها اليوم.
قال ابن باز رحمه الله : فالعبرة بما كان زمن النبوة.
الشبهة ٧ ـ إذا كان اليهود يعتمدون التقويم الشمسي وفرضنا أن عاشوراء وافق تلك السنة العاشر من محرم في التقويم القمري ،، فيلزم من ذلك أن يتغير موعده في التقويم القمري كل سنة؟
الجواب... لا نسلم أنهم كانوا يعتمدون الشمسي ،، بل شرائع الله كلها على القمري… قال تعالى ( إن عدة الشهور عند الله… .) وقال (يسألونك عن الألة قل هي مواقيت للناس والحج ) وقد حج موسى وعيسى عليهما السلام حسب تلك المواقيت المعتمدة على الأهلة.
قال ابن حجر : وهذا الذي شاهدناه منهم. - أي اعتماد الأهلة-.
وربما غيرت ذلك بعضُ الأجيال منهم كما غيرت قريشٌ في مسألة النسيء.
الشبهة ٨ ـ لماذا لم يعزم ﷺ على مخالفتهم إلا في العام الأخير؟
الجواب… سبق أنه لا يصح القول بأن هناك موافقة لهم، فلعل ذلك كان منه رداً على من يتوهم هذه الشبهة وسداً لذريعة المشابهة خاصة بعد آكمال الدين وإتمام النعمة.
ألا فاحرصوا - عباد الله - على صيام هذا اليوم العظيم وأضيفوا إليه اليوم التاسع كما عزم على ذلك نبيكم r، أو اليوم الذي يليه مخالفة لليهود.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...