كلنا تقريباً نمارس الغيبة، وغالبيتنا يشعر بالحرج حين يفعل، وخاصة لو تم إمساكنا ونحن نغتاب. لكن ليست الغيبة كلها سوء، بل في الواقع  يمكن أن تكون أداة نافعة للحفاظ على المعايير الاجتماعية، وفرض احترامها على الناس. ربما يبدو الأمر وكأنني أحاول إيجاد مبرر منطقي للرغبة التي تنتابنا أحياناً لمجرد نشر حكاية مثيرة سمعنا بها، ولكن أشار بحث مؤخراً أن للغيبة جانب إيجابي.

أولاً، تعريف الغيبة محايد إلى حد ما، فقد أشار روبن دنبار، وهو عالم أنثروبولوجي ومتخصص في علم النفس التطوري في جامعة أكسفورد، وهو قد كتب بشكل موسع عن الغيبة، أشار دنبار إلى أن كلمة "غيبة Gossip" تعني في الأصل "الدردشة" مع شخص مقرب، أو بمعنى آخر، شخص تربطنا به صلة وثيقة. وبالمصطلحات حديثة، عرف تيموثي هاليت – الأستاذ المساعد في قسم علم الاجتماع في جامعة إنديانا- الغيبة بأنها: "الكلام غير المسموح به بهدف إطلاق حكم تقييمي على أشخاص غائبين".

الغيبة ظاهرة عالمية وتخدم بعض الحاجات المجتمعية ولهذا كانت موضوعاً للنقاش بين الأكاديمين في الماضي، وقد قامت دراسة تمت مؤخراً في جامعة بيركلي في كالفورنيا بالنظر عن كثب للفوائد الاجتماعية والنفسية للغيبة.

وقال روب ويلر، وهو أستاذ مساعد في علم الاجتماع في بيركلي، والمؤلف المشارك للدراسة: (النظرة المعتادة للغيبة هي أنها عادة سيئة، والإكثار من الغيبة سيء) وأضاف: (لكنها تؤدي وظيفة مهمة).

وقد نُشرت الدراسة بعنوان (فضائل الغيبة) في عدد شهر مايو 2012 من مجلة (الشخصية وعلم النفس الاجتماعي)، ووجدت الدراسة أن الغيبة يمكن أن تلعب دوراً في حماية الناس من التعرض للاستغلال، وذلك من خلال تمرير معلومات حول السلوك السيء لتحذيرهم. ويقول ماثيو فاينبيرغ، طالب ما بعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد والمؤلف المشارك للدراسة في شرح هذه النقطة: (إذا أخبرت الناس أن هذا الشخص هو أحمق أناني، فسيتعلم الناس تجنب الوقوع ضحية لاستغلال هذا الأحمق) وأضاف البروفيسور ويلر: (نحتاج في بعض الأحيان لتبادل المعلومات عن أشخاص معينين –وغير حاضرين للنقاش- مع طرف ثالث، لنستفيد من تجارب الآخرين). وبطبيعة الحال فإن الافتراض هنا أن الناس دائماً يقولون الحقيقة، ولا يقومون بنشر أكاذيب أو حكايات تخص أشخاصاً آخرين وسيؤذيهم لو انتشرت هذه الحكايات الخاصة، ويقول البروفيسور ويلر أنه على الرغم من وجود النوع الأخير والسلبي من الغيبة، فإنه من المفيد النظر إلى الدور القيم الذي تلعبه أنواع أخرى من الغيبة في المجتمع.

وأظهرت إحدى التجارب في دراسة البروفيسور ويلر أن مجرد الخوف من الغيبة يمكن أن يدفع الناس ليكونوا أكثر لطفاً. كان عدد المشاركين في الدراسة 300 شخصاً من أعضاء موقع كريغسليست –وهو عبارة عن شبكة مركزية للمجتمعات المحلية عبر الإنترنت، تعرض إعلانات مجانية عن فرص عمل وبيع خدمات وغيرها- وقاموا بلعب لعبة الثقة الاقتصادية باستخدام تذاكر سحب، والتي سيتم إدخالها لسحب 50 دولاراً، وكان المشاركون يعرفون أنه يمكن أن يكونوا مراقبين وأن يتم اغتيابهم لو أنهم لم يلعبوا بشكل عادل، وهذا حفز كل المشاركين تقريباً على أن يكونوا أكثر سخاء.

وقال الدكتور فاينبيرغ: (نحن لا نقول الغيبة كلها فضيلة، لكنها تخدم هدفاً من وجهة نظر الجماعة). لأن الناس يشعرون بحاجة ماسة لأن يغتابوا شخصاً –لأن يقولوا للناس عن السلوك السيء لشخص ما من وراء ظهره- عندما يشهدونه يقوم بسلوك ظالم.

وفي بعض التجارب في الدراسة نفسها تم قياس كرم اللاعبين تجاه بعضهم من خلال حساب عدد الدولارات أو النقاط التي يشاركونها مع الآخرين، في التجربة الأولى تم وضع جهاز رصد دقات القلب على 51 من المشاركين فيما كانوا يتابعون نتائج لعبة تجري بين لاعبين آخرين، وكان واضحاً أن أحد اللاعبين كان ينتهك قواعد اللعبة لجمع أكبر عدد من النقاط، فارتفع معدل دقات القلب عند المشاركين الذين كانوا يتابعون اللعبة وشهدوا الغش الذي قام به أحد اللاعبين، فيما استغل بعضهم الفرصة لتمرير (غيبة) لتحذير لاعبة جديدة بأن خصمها –من قام بالغش- في اللعبة لن يلعب بشكل شريف. ولوحظ انخفاض في معدل دقات قلوب المشاركين المراقبين حالما أتيحت لهم الفرصة بالوشاية بمن قام بالغش في اللعب.

وقد تجلى دور الغيبة كوسيلة لضمان عدم استغلال الأفراد للجماعة في دراسة أجراها أكاديميين هولنديين في جامعة أمستردام، الأولى هي بيانكا بيريزما، الأستاذة المشاركة في علم نفس العمل وعلم النفس التنظيمي، وغيربن فان كليف، وهو أستاذ في علم النفس الاجتماعي، فقد قاما بإخبار مجموعة من الناس بأنه تم اختيارهم عشوائياً لتوزيع 100 تذكرة يانصيب مع جائزة نقدية، ويمكن للمشاركين إما توزيع التذاكر بسخاء على آخرين أو يمكنهم بأنانية الاحتفاظ بالعديد من التذاكر لأنفسهم، تم إعلام المشاركين في النصف الأول من التجربة أن اختيارهم لأي من الخيارين سيكون خاصاً بهم ولن يعلم به أحد، وتم إعلام المشاركين في النصف الثاني من التجربة أن خيارهم ستتم إذاعته على بقية المجموعة.

بالإضافة لذلك، في بعض الأحيان تم إبلاغ المشاركين بأن من المرجح أن يغتابهم بقية أعضاء المجموعة ويعلقون على سلوكهم، وفي أحيان أخرى تم إبلاغ المشاركين بأنه في الغالب لن يتحدث أحد عن سلوكهم. ولطبيعتهم البشرية قام كل المشاركين بالتصرف بأنانية إلى حد ما، وأبقوا لأنفسهم من التذاكر أكثر مما قدموا للآخرين. ولكن وجد البروفيسوران أنه عندما علم المشاركين أن سلوكهم سيكون عاماً وسيعلن لبقية المجموعة، وكانت احتمالية أن يتم اغتيابهم بسبب سلوكهم عالية، أصبحوا أقل أنانية بشكل واضح. وقد نشرت دراستهما في عدد 12مايو 2011 من مجلة علم النفس الاجتماعي وعلم الشخصية، تحت عنوان (كيف يمكن لشجرة العنب أن تبقيك في سلوك جيد: الغيبة تزيد عطاء الفرد للجماعة).

وليس من المستغرب أن كثيراً من الناس يرون أن الغيبة لا تخدم أي غرض إيجابي. تقول بيث ويسنبرقر، وهي شريكة مؤسسة في مجموعة هاندل، وهي شركة تدريب تنفيذية، أن أول ما تفعله عندما تقدم استشارة لإحدى الشركات هو أنها تمنع الغيبة، وتكمل: (الغيبة هي نوع من التلاعب يقوم به الجبناء، مثلاً لو أن إحدى المرؤوسات اكتشفت أن رئيسها يأخذ التقدير الكامل عن العمل الذي تقوم به هي، فما المرجح أن تفعله؟ ستذهب لزملائها وتخبرهم أن رئيسها أحمق، عظيم! الآن أصبح يتفق معها أربعة أشخاص يرون أن رئيسها أحمق، لكنها مع ذلك لا تزال تشعر بالضيق، ولهذا نصيحتنا لها أنه يجب أن تكون بينها وبين رئيسها مواجهة صريحة حول ما يضايقها)

ولكن هناك فريق يخالفها ولا يرون أن الحل في حظر الغيبة، يقول البروفيسور هاليت: (نحن لا ندعو إلى سياسة منع الغيبة، فالمهم هو أن تعرف كيف تعمل الغيبة، فيمكنك عندئذ إدارتها والسيطرة عليها)، فقد قام هو شركاؤه بتصوير فيديو لدراسة سياسة العمل التي تتم في مدرسة ابتدائية في منطقة حضرية، ولم يكن الهدف في البداية هو دراسة الغيبة، لكن الباحثين الأكاديميين رأوا أن الغيبة تلعب دوراً هاماً بين الطاقم الوظيفي في المدرسة، وما كان مثيراً للاهتمام بالنسبة للبروفيسور هاليت هو كيف تختلف الغيبة التي تتم في الاجتماعات الرسمية عن الغيبة التي تكون في أماكن وأوضاع غير رسمية، كلاهما كانتا عادة غيبة سلبية، لكن الغيبة في اجتماعات العمل تميل لأن تكون أكثر مواربة وتفصيلاً.

وتشمل الغيبة في اجتماعات العمل: السخرية والنقد المبطن، مثل قول أحدهم: (عندما كان المدير السابق هنا، كانت الأمور تتم بسلاسة) ويشير البروفيسور هاليت أن القول السابق يملح إلى أن الأمور لا تتم بشكل سلس الآن. وأضاف أن معرفة هذا عن الغيبة التي تتم في اجتماعات العمل الرسمية تتيح للمدير معالجة المشاكل التي تظهر بشكل مبطن في الاجتماعات، فإذا ألقى أحدهم بملاحظة ساخرة، يمكن أن يقتنص المدير الفرصة ويسأل الموظف عما يقصد؟ ويقول البروفيسور ويلر أن المحك هو معرفة الفرق بين الغيبة المفيدة والغيبة الضارة أو التي تكون بلا سبب.

لهذا يبدو منطقياً بالنسبة لي أن الغيبة يمكن أن تخدم هدفاً لإبقاء الناس في أحسن سلوك لهم، كما تعزز بعض المعايير المجتمعية الهامة، لكني أعتقد أيضاً أننا يجب أن نكون حذرين ولا نمنح لأنفسنا العذر لأن نغتاب متى شئنا، فالقليل من الغيبة له أثر كبير.

الكاتبة: ألينا تاغند، وهذه ترجمتي.

المصدر: http://www.nytimes.com/2012/06/16/your-money/studies-find-gossip-isnt-just-loose-talk.html