حديث منتصف الليل عن كربلاء

 

بقلم اسعد عبدالله عبدعلي

أتعبه السير في الصحراء, فعليه أن يصل الى غايته, بعد رفع الحظر عن التنقل من قبل سلطة الخليفة, بعد معركة كربلاء, حيث ازداد السخط على الخليفة الأموي وعلى عماله في العراق, لما فعلوا من فضائع لا تنتمي لتاريخ العرب, كان الشاب أبو جندل منذ يومين من دون طعام أو شراب هائماً في الصحراء, وها هو منتصف الليل والعطش يكاد يقطع أوصاله, فلم يجد في طريقه قافلة أو خيمة يتحصل منها شربة الماء.

أبو جندل بثيابه الرثة, يفكر كثيرا بما حصل في الأشهر الأخيرة من أحداث جسيمة, يحك شعره من تحت عمامته البيضاء فهو بعيد عن الماء منذ أيام, تأوه ومسك سيفه وتحسر, سيفه الذي اشتراه من سوق البصرة, والتي تشتهر بأفضل أنواع السيوف, يفكر ( أنها ليلة أخرى حالكة السواد, فمنذ خمسة أشهر وليالي العراق قد تغير طبعها, كأنها فقدت قمرها, لم يكن نور النجوم والكواكب بهذا الشكل, ألان الأنوار خافتة جدا, كم كنت أتمنى أن أكون معه, لم أصل في الوقت المناسب, هكذا أنا دائما افشل في كسب الفرص, لولا أبي وأمي كنت لحقت به, لكنهم سجنوني أسبوع في, الى أن فككت قيدي وهربت, آه يا ربي رحل من كنت أتمنى رؤيته).

من بعيد أبصر نارا, فصرخ غير مصدق:

يا الله, خيمة قريبة, الحمد والشكر لك يا رب.

أسرع نحو الخيمة, فالعطش يكاد يقتله, وجد عجوز بعمامة حمراء ولحية بيضاء طويلة, جالس قرب النار, وصل أليه أبو جندل وقال:

السلام عليكم, يا عم أسعفني بشربة ماء, سأموت عطشاً.

تفاجأ العجوز من ظهور الشاب في هذا الليل, خصوصا أن الأوضاع السياسية مضطربة منذ أشهر, لكن أسرع لجلب الماء وناوله, امسك الشاب القربة كحبل إنقاذ, وفتح وجوده لينسكب الماء عليه, ليعيده للحياة ولتزهر الأحلام من جديد, جلس قرب النار, فسأله العجوز:

بني من أين قدمت في هذا الليل, الا تعرف أن الأوضاع خطرة منذ مقتل الخوارج في كربلاء؟

تعجب أبو جندل من كلام العجوز ووصفه للثائرين بالخوارج, فأدرك أن الخبر لم يصل للعجوز على حقيقته, فقال له:

أما عن سؤالك عن مقدمي فانا من الكوفة, وعن الأوضاع أدرك خطورتها ولولا الظرف لما أتيت الى الموصل, إما عن خوارج كربلاء فلا اتفق معك, فالخارجي ما يكون باطلا في دعواه, إما الثائرين في كربلاء فهم أصحاب حق, ولا تغرك أبواق السلطة فهي دوما أداة تجمل أفعال الحكام.

غضب العجوز من كلام الشاب, فهو يجعله بموقف الجاهل الذي يصدق كل ما يقال, فقرر أن يلجم هذا الشاب المغرور, فقال:

يا أيها الشاب اسمع من عجوز خبر الحياة, أن الذي يخرج على الخليفة يكون خارج عن الدين, هكذا علمنا ديننا, وهؤلاء خرجوا على الخليفة الشرعي, فأي حق لهم؟

وقف الشاب مبتسماً, ورمق السماء بنظرة عميقة, يفكر في رد مقالة العجوز, التفت للعجوز وقال:

ومن أين كسب الخليفة الشرعية, المعروف أن كبار الأمة رفضت مبايعته, ولم يبايعه الا خائف أو طامع, فاخذ السلطة بالقهر وليس بالاستحقاق, فأي شرعية تتحدث عنها, أما كلام منابر السلطة فلا تمثل حجة على ذي عقل, لأنها منابر تجمل جهة مشكوك بها, ولا تنطق الا حسب ما تكلف به.

ضجر العجوز من كلام الشاب, فهو يخالف هواه, لكن وجد من الأفضل أن يطلب البينة على كلام الشاب ليسكته, فقال له:

وكيف تثبت أحقية جماعة كربلاء, وما هي أدلة شرعية خروجهم؟

فرح العجوز بنفسه فكأنه جعل الشاب في زاوية حرجة, تجعله يستسلم لعقيدة العجوز السياسية, لكن الشاب لم يمهله طويلا فتكلم كطير يغرد:

عندما يكون رأس السلطة تحت سطوة جماعة ظالمة, وتكون سيرتها مع الأمة ظالمة, كما ضجت به الأمصار من فضائح يفعلها ولاتهم وبأمر منهم, وسرايا الخليفة التي تهاجم أطراف البلدان تنهب وتقتل, تحت عنوان إرهاب من لا يدخل في ملك يزيد,  فيكون السكوت عليه جبن, والحاكم يزيد عرف بظلمه وفساده وانحرافه, والأمة ساكتة, وعندها تحرك الثائرين حفظا لكرامة الأمة, ولاسترجاع الحق وإعادة الروح لأمة تحتضر, فهل تسمي الأمر بالمعروف وحفظ كرامة الأمة كفر وخطيئة, أم انك ترغب أن تحافظ الأمة على جبنها وخضوعها للحاكم.

سكت العجوز أمام منطق الشاب الصارم في الحق, وتذكر كيف أرغمه والي الموصل قبل سنتين على تزويج ابنته لمتهتك أموي, مع انه رفض التزويج أولا, لكن هدده بالحبس فاستجاب العجوز مكرها, عرف انه من عداد الخانعين للظلم, وتحسس ضآلة نفسه وهو يدافع عن من ظلمه, وأحس بالعار والخزي بعد أن تذكر لعناته ضد الثائرين بعد صلاة الجمعة مع جمع المصلين, دمعت عيناه, وبكى.

ركب الشاب فرسه وهم بالمغادرة, فاستوقفه العجوز ودموعه تنهمر على لحيته, وقال للشاب:

هل من توبة؟

نعم , انصر الحق, واخذل الباطل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسعد عبدالله عبدعلي

كاتب وأعلامي عراقي