الظروف مُدخل يحدد مخرجات المجتمع. فبحسب الظروف تتشكل المعايير الثقافية. وبناءًا عليها تتشكل معايير ذاك المجتمع، أو ما يمكن أن يُسمى بأخلاقيات المجتمع. "تجنيد الأطفال" -كمثال- لابد أن يخضع للفحص حتى نصدر عليه حكمًا قيميًا.
فتحديد معايير الطفولة والرجولة وفقًا لهيئات حقوق الإنسان العالمية نشأ وتطور وفق سياق أوروبي. وهنا تكمن إشكالية بعض الأصوات العربية المستنكرة لتجنيد الأطفال والمُطالِبة بتركهم ليس خارج دائرة الصراع فحسب، بل أيضًا خارج دائرة التجنيد في اليمن. ملاحظتين على هذا الخطاب:
أولاً: إن تحديد العمر الفاصل بين مرحلتي الطفولة والرجولة أمرٌ اعتباطي بالضرورة.
ثانيًا: أننا في العالم العربي والإسلامي نملك موروثًا حدّ الرجولة بعلامات البلوغ (كالاحتلام) لا العمر. وهذا هو سن التكليف. فالجريمة هي أن يزجّ بمن هو دون سن البلوغ في معركة مسلحة، وهذا لا يشمل التجنيد مادام محدودًا في إطار إعداد العدّة.
إن في تاريخنا أمثلة كثيرة ممن يصنفون كأطفال بمعايير هيئات حقوق الإنسان، بل وحتى غلمان بمعايير الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم أجمعين- كأسامة بن زيد، ذو الـ١٨ ربيعًا عندما قاد جيشه لغزو الروم رغم وجود جحافل الصحابة، والقائد الفذّ في العصر الأموي، محمد بن القاسم الثقفي والذي كان ذو ١٧ ربيعًا عندما قاد جيشه لفتح بلاد السند. إننا هنا نتحدث عن "قادة" لجيوش لم يتعد عمرهم الـ18 سنة وقد فتحوا أصقاع العالم.
قد يُعترض على النقطة الثانية باعتراضين:
الأول: الكمال البيولوجي للإنسان لا يعني بالضرورة كمالاً نفسيًا أو عقليًا. وهذا الاعتراض أيضًا ينطبق على تحديد العمر بحدّ معين كـ١٨ سنة.
الثاني: زمن الصحابة مغاير لزمننا. هذا صحيح، وهو غير مقتصر على الزمان فقط، فللمكان أثرٌ كالزمان تمامًا. فمن يعيش في دولة-الأمة يختلف عن ذاك الذي يعيش في اليمن القَبَلي. وهذا يعود بنا لنقطة مُدخلات ظروف المجتمع والتي تصنع بدورها مُخرجاته.
فاليمن بلد غارق في دوّامة الحروب والصراعات منذ عقود، وشعبه قبلي ذو حكومة مركزية ضعيفة جدًا لا تضمن سلامة غالبية مواطنيها حتى تمتلك حق احتكار استخدام العنف. فعلى إثره أصبحت مسؤولية الأمن مُلقاةً على عاتق كل مواطن بأن يحمل السلاح ويدريب النشء على استعماله حتى أصبح جزئًا من تركيبة المجتمع اليمني. وهذا ليس بالأمر السلبي على الإطلاق. فلا علاقة بين معدلي الجريمة وانتشار السلاح كما هو موضح أدناه:
ويأتي اليمن خلف الولايات المتحدة كثاني أعلى بلد في معدل حيازة المدنيين للسلاح، وإذا ما قارّنا بين معدل جرائم القتل المتعمد في البلدين، نجد أنهما يملكان ذات المعدل المنخفض (٥/١٠٠,٠٠٠). فخلاصة القول أنه لا إشكال في انتشار السلاح للحفاظ على أمن الفرد، وأسرته، ومجتمعه؛ ولا استعمال من هم دون الـ18 سنة له مادام متسقًا مع معايير وموروث مجتمعاتنا العربية والإسلامية. ما يجب أن يُستنكر هو إقحام الأطفال (من هم دون سن البلوغ) في المواجهات المسلحة.
وأخيرًا، فإن النظرة "المثالية الإنسانية" لا تعير لهذه المتغيرات، وطبيعة المجتمع، وسياق الأحداث والتي أدت لـ"تجنيد الأطفال" اهتمامًا، بل بالنتيجة مجردةً من سياقها -خصوصًا عندما تتعارض مع هيئات حقوق الإنسان العالمية- وتبني حكمها وفقًا لذلك.
هذا الخطاب "الإنساني" فيه مصادرة فجّة لطبيعة تنوع البشر على ديانات، وسياقات تاريخية، وعادات وتقاليد، ولغات متمايزة، والتي بدورها تحدد هوية الأمة أو الجماعة. فعلى فرضهم أن "العالم اتفق" على كون الطفل من هو دون الـ١٨ سنة، ثم سنّ نظام يمنع تجنيد هذا الطفل، وهذا يعطيهم "الحق" في طمس هذا التنوع واستبداله بالنوع المهيمن دون مراعاة لهذا التمايز وضرورة توافق الأمة مع موروثها.
كان الأجدر أن تستند ردود الفعل تجاه التجنيد إلى فهم الدوافع الاجتماعية والسياسية التي أدّت إلى نشوء الصراع والعمل على حلها للحدّ من المزيد من الضحايا بدل الصياح بالكليشيهات الفارغة كـ"انتهاك براءة الطفولة."