سيرة ذاتية لصحفي أصاب قلبه نصال الشخصية العربية وسحناتها وشيمها وشمائلها وأخذت بمجامع قلبه حتى قال أنه يرى فيهاشخصية إبراهيم عليه السلام!
قاده افتتانه بشخصية العرب وما يحملون من هدوء نفسي عميق وأمن معنوي وكرم جمّ -ويكأن الواحد منهم يملك مخازن الدنيا فائضة فيجيبه حين يكرم ضيفه وهو في الأصل بالكاد يجد قوت يومه- وعلاقة العرب بالجار والضيف وفوق هذا كله كيف يعيشون الحياة وينظرونإليها إلى البحث عمّا كون وصاغ هذه الشخصية؟
كان ليوبولد فايس يهودي الديانة، جدّة حاخام، تلقى تعليميًا دينيا في صغره ودرس العبرية؛ لكنه وجد عند العرب ما لم يألفه في الحياةالأوربية
فبدأت مغامراته الروحيه والفكرية والترحالية عبر بلاد مختلفة وصحاري متعددة، كانت مغامرات ملحمية زاخرة بالمناقشات الفكرية والتأملاتالاجتماعية والتحليلات الشعورية والنفسية وبراعة التصاوير الجمالية. كان يصف الصحراء بكلمات اشبه ما تكون بتعويذة سحرية أخّاذة.
بدأ أول اتصال له بالعرب حينما دعاه خاله الطبيب النفسي -وكان أحد تلاميذ فرويد- إلى القدوم إليه في القدس، فقد كان من أوائل مناستوطنوا القدس أثناء الانتداب البريطاني؛ لكنه كان يتخذ موقف أخلاقي معاكس للصهيونية، وفي ذات الوقت لم يكن محبًا للعرب، دفعتهالعزلة والوحدة إلى دعوة ابن أخته للاستئناس به.
في طريقهم إلى القدس عبر صحراء سيناء كان يجلس أمام ليوبولد بدويّ من الحجاز ابتاع لنفسه فطيرة ولما همّ بالجلوس وقعت عينه علىالأجنبيّ خلفه، بادر البدوي بقسم فطيرته نصفين ومدّها للأجنبي، ولما رأى الدهشة بادية على قسمات الأجنبي، قال: تفضل وأردف بكلام لميفهمه ليبوبولد.
تدخل رجل عربي بطربوش وملابس أجنبية مترجمًا: يقول لك: أنت على سفر وهو على سفر وطريقكما واحد."
يقول ليبولد بعد تعاقب السنون على هذه الحادثة: حين أفكر الآن في ذلك الحدث الصغير يتبين لي أن كل الحب الذي أحببته للشخصيةالعربية قد تأثرت تأثرًا كبير بتلك اللفته الكريمة من البدوي الذي شعر بالصداقة تجاه مسافر معه بالصدفة رغم حواجز اختلاف الأجناسواقتسم الخبز معه؛ ما اشعرني بأنفاس الإنسانية الحرة الخالية من أي عاهات نفسية بشرية.
بعد نزول البدوي انضم إلى قافلة من البدو الذين كانوا بانتظاره، بدى لِليوبولد منظر الجمال والرجال البدو آسر وكأن الزمن توقف برههليلتقط صورة فاتنه من هذا المشهد ليطبعها في وجدانه. أشرقت منذ لحظتها في ذهنه فكرة أن من يحيون في الصحراء يستجيبون للحياةويستشعيرونها ويتجاوبون معها بطريقة مغايرة تمامًا عن أي بشر يحيون في مناطق أخرى، ومن هنا بدأت المغامرات الملحمية!
صار بعد ذلك مراسل صحفي لصحيفة فرانكفورتر تسايتونج في الشرق الأوسط، أخذ يكتب تأملاته عن الناس في الشرق بطريقة مختلفةعما عهده المخيال الأوربي عن الشرق المستوحى من ألف ليلة وليلة، وجال في رحلات عديدة من القدس إلى سوريا والعراق ومصر وإيرانوصحراء النفوذ ولقاءه بالملك عبدالعزيز وابنه الملك فيصل -رحمهم الله- وتوطّد العلاقة بينهما بعد ذلك.
وجد ليوبولد السر الصائغ لهذه الشخصية والحياة في جوهر وروح الدين الإسلامي. لم يكن الإسلام يفصل ما بين الروح والجسد ولا يؤسسوجدان المسلمين على الخطيئة الأولى ولم يعزل الدين في حيّز الروحانيات و لم يحصر عناية الله تعالى بشعب مختار واحد ولا يعبأ بغيرهممن الشعوب.
وفي نقاش فكري جال بينه وبين أحد الإيرانين عن جوهر الإسلام وعظمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسلوك المسلمين ، قال الإيرانيبعد ما رأى حرارة وجدانه تتدفق في رؤيته للإسلام: أنت مسلم لكنك لا تعلم ذلك من نفسك حتى الآن. وقعت هذه الكلمة منه موقعًا عظيمًا.
وفي احدى الأيام في قطار في برلين تفرّس وجوه الأوربيين العابسة في ملابسهم الفارهه وحياتهم المترفة، حار فكره في سر التعاسة المعتليةعلى الوجوه. عاد إلى منزله ووجد تفسير القرآن مفتوح على سورة التكاثر، قرأ التفسير وفكّ لغز هذه التعاسة، ومن هنا أدرك أن القرآن لايمكن أن يكون من حكمة رجل عربي، وأنه لا شك من ربّ الأرباب.
هذه سيرة صحفي تلبسته تعاويذ العرب والصحراء وكشفت له عوالم فكرية وعقلية وجمالية حتى قادته لمعنى الحياة وفتحت له آفاق من العملالفكري الهائل.
نقش هذه العوالم بطريقة وصفية وسردية تنفث الروح والجمال على كل ساكن وكل حدث لينبض بالمعنى الذي عثر عليه.