وماذا يحدث اذا اجتمعت في الشخص الواحد الصفتان؟؟ وهل يمكن ان ينقلب المثقف من (قائد) في مجال الوعي والمعرفة الى (مقامر) أو (سمسار) أو حتى (قوّاد) في ميدان السياسة!؟
***********************
بشكل عام وأساسي فإن (السياسي) حريص على نيل رضا واعجاب اكبر عدد من الناس لذا تجده حريص على قول وفعل ما يعجبهم حتى لو تعارض ذلك مع قناعاته الداخلية العميقة!!، فهو قبل ان يتكلم يستجلي ويتحرى موقف ورأي الاغلبية(؟؟!!) ثم يخرج ليحمل راية هذا الموقف والرأي الشعبي العام، فيقول ما يتوافق مع هوى الأغلبية الشعبية وما يدغدغ عواطفهم الوطنية والدينية والشعبية والمالية....الخ ، والسبب أنه، في الحقيقة، من حيث يشعر أو لا يشعر، أسير لطموحه السياسي الشخصي، الظاهر او الخفي... وهذا الطموح لا يمكن تحقيقه الا بكسب رضا السلطان المسيطر في النظم الديكتاتورية، او بكسب رضا الجمهور في النظم الديموقراطية!، اما (المثقف) فهو لا يهتم بنيل اعجاب الناس والاغلبية والجمهور، ولا يحرص على رضاهم كثيرًا بالرغم من عطفه عليهم وتفهمه سبب ضعفهم وسبب جهلهم، البسيط او المركّب، انما همه هو قول (ما يعتقد أنه حق وحقيقة وما يعبر عن قناعته الذاتية العميقة وعن ضميره وعقله ورؤيته)، حتى لو خالفت قناعاته ورؤيته رأي وعواطف سكان الأرض كلهم!، حكامًا ومحكومين، نخبًا وجماهير شعبية!.

فهذا هو الفرق العميق والدقيق والاساسي بين المثقف السياسي، احدهما، السياسي، يدور مع اعجاب ورضا، الحاكم او الجمهور حيث دار، وعينه على المنصب والمركز والسلطة، فهو مشغول بتحصيل (السلطة) أو المحافظة عليها!، بينما الآخر (المثقف) يدور مع ما يعتقد انه (حق وحقيقة) حتى لو خالف الحاكم أو الجمهور ولا يبالي!، وعينه على الحق والحقيقة وواجبه كمثقف في نشر (الوعي)و (المعرفة) بين الناس!، فمعرفة الحق والحقيقة والعدل والجمال وتعريف الناس بها وتعميمها هو شغله الشاغل!.

المثقف محوره (المعرفة)، والسياسي محوره (السلطة)، وفي الغالب الأعم (السياسي) ينفر من (المثقفين) ولا يرتاح إليهم!!، وهكذا حال (المثقف) فهو ينفر من (السياسيين) ولا يرتاح إليهم!!، ولكن تبقى الاشكالية هنا في من يجتمع فيه الجانبان ، (المثقف) و(السياسي) معًا !!، فهو (مثقف انخرط في السياسة!)، ربما في البدء بدوافع تتعلق بإيمانه بضرورة (اصلاح فكر وثقافة واخلاق الناس كأساس للنهضة)، وربما سوّلت له نفسه المتعطشة للظهور والسلطان والعلو - من حيث يدري أو لا يدري - أن السياسة هي اقصر وخير طريق لتحقيق النهضة الحضارية والثقافية المطلوبة لمجتمعه، لذا هروّل إليها وعكف عليها(!!). فحال هذا (المثقف) المنخرط في اللعبة السياسية كحال (رجل الدين) (مولانا الشيخ) الذي ينخرط في السياسة واللعبة السياسية لأنه يعتقد أنها الطريق الأسرع للاصلاح الديني أو اجبار الناس على طاعة الله وتنفيذ أوامره!، وقد يكون في أعماقه، غرضه الحقيقي - من حيث يشعر أو لا يشعر - التحكم والحكم والسلطة كالوصول إلى كرسي دار الافتاء مثلًا أو كرسي الأوقاف أو حتى إمامًا في جامع (!!) ولكنه يحاول تغليف هذا الطموح الشخصي بدعاوى دينية كي يخدع ويخدر ضميره!، أو ربما تكون نفسه تخدع ضميره وتخدره من حيث لا يعلم هو نفسه، فالناس يتحكم فيهم (اللاشعور) من حيث لا يشعرون!!... والله وحده يعلم السر وأخفى، فحتى البشر لا يعلمون بما يجري في أعماقهم من رغبات ونزعات ونزوات وتفاعلات، بعيدًا عن نطاق شعورهم ووعيهم!، لكن الله هناك أقرب إليهم من حبل الوريد، يسمع ويرى!، ويراقب، ويعلم ما توسوس وتسوّل لهم به أنفسهم!!... وهذا ما قد يحدث للمثقف أيضًا حينما ينخرط في السياسة فهو يختلق لنفسه (مبررات) لهذا الانخراط العملي المحموم ليخفي تحتها عشقه وطموحه الشخصي المحموم (الشعوري أو اللاشعوري) للعلو والظهور والبروز والحصول على كرسي من كراسي السلطة العامة، حتى لو كان كرسي (وزير ثقافة) أو على الأقل (مدير متحف) أو (مكتبة عامة)!!، فكل الطرق تؤدي إلى (الكرسي) وكل الكراسي لها (فوائد)!!!. وهكذا بالنهاية سيصبح هذا (المثقف) المنخرط في اللعبة السياسية اسيرًا لطموحاته الشخصية والسياسية خصوصًا اذا ارتبط بشبكة علاقات سياسية او حزبية واجتماعية وربما اقتصادية ومالية شائكة تتعلق بتوزيع (المغانم السياسية) و(الكراسي الكبيرة والمتوسطة والصغيرة) في الدولة على (الموالاة)(!!) فليس من السهل - عندئذ - الخروج من هذه (الشبكة)!!، فعالم الساسة والسياسة في حقيقته كشبكة العنكبوت، من السهل الدخول اليه ولكن ليس من السهل الخروج منه!!.

وهكذا، مع تناقض منطق وطبيعة (المثقف) مع منطق وطبيعة (السياسي) في شخصيته فسينحاز، في الغالب الاعم، وبنسبة 99%، لصالح (السياسي) على حساب (المثقف) في شخصيته خصوصًا إذا جلس على (كرسي) وذاق حلاوة مزاياه!!، والأخطر هنا هو ان يضع ثقافته ومعرفته في خدمة طموحه السياسي والشخصي وخدمة من يرى فيهم عونًا له في الوصول إلى هذا (الكرسي) أو عونًا له في المحافظة عليه أطول وقت ممكن!!، تمامًا كما يضع (رجل الدين) معرفته الدينية في خدمة طموحه الشخصي أو السياسي أو خدمة من يخدمونه في الوصول للكرسي الذي يطمح إليه، ككرسي دار الافتاء مثلًا أو حتى قيّمًا على جامع!!، فالكرسي كرسي بغض النظر عن حجمه وشكله!، والكرسي يعني سلطة ومكانة اجتماعية وربما مزايا مالية!!، سواء كان هذا الكرسي (كرسي رئيس الدولة) أو (كرسي مدير مدرسة) !!، وبعض المثقفين، وكذلك رجال الدين، قد يضع ثقافته ومعرفته حتى في خدمة الطغاة المستبدين من اجل تحقيق طموحهم الشخصي والسياسي وربما حتى المالي!!، وهذا الأمر، حدث ليس مرة أو مرتين أو ثلاثة بل حدث كثيرًا ويحدث كل يوم!، فهو أمر مكرور تكرر عبر التاريخ والجغرافيا ألوف، ألوف المرات!!، فما من طاغية الا وحوله (جوقة) من المثقفين ورجال المال والأعمال، ورجال الدين، والمستنفعين والمستفيدين، فضلًا عن الشعراء والأدباء والفنانين وحتى .... (القوادين)!! .
*************
سليم نصر الرقعي
(*) تحضرني اسماء مثقفين ليبيين كبار، بأسمائهم، تابعت نشاطهم السياسي المعجون بالثقافي، والثقافي المعجون بالسياسي، قبل وبعد الثورة، انخرطوا في السياسة في صف الحكم او صف المعارضة، وكانت النتيجة الواضحة ان 99% منهم بات (المثقف) فيه ضحية للسياسي!