إن كل ما كان من أصول الدين الاعتقادية او العملية إنما يكون أصل تشريعه من القران ولا يترك منه للسنة إلا ما كان من قبيل البيان والتفصيل. ومثال ذلك الصلاة وتحريم الربا والايمان وغيرها. فقد ورد تشريع كل ذلك في القرآن أساسا.
وعليه فإنه لا يترك للسنة من التشريع إلا ما كان بمنزلة الفروع والجزئيات، لا الأصول والكليات، فإذا وجدت في السنة ما هو كذلك ولم يكن بيانا تفصيليا فهو من باب التأكيد لا من باب التأسيس كأحاديث إيجاب الصلاة مثلا.
وأما ما تفردت به السنة بتشريعه تأسيسا فإنه لا يكون من الأصول والكليات وإنما من الفروع والجزئيات كأحاديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع.
إذن فالأصل في المقصود أصالة من الشريعة أن يكون منصوصا عليه من الكتاب وهذه هي المرتبة الاولى من التشريع. وإنما للسنة المرتبة الثانية ما لم تكن بيانا او تفصيلا لكلية قرآنية.
وأما ما سكتت عنه النصوص جميعا من الكتاب والسنة وأحيل على الاجتهاد فإنما هو من المرتبة التشريعية الثالثة، أي من حيث قصد الشارع اليها، وليس فقط من حيث هي مسألة اجتهادية.وهذا يعني أن إهمال الشارع أمرا بعدم النص عليه في الأصلين مع وجود المقتضي للتشريع لا يكون نسيانا ولا غفلة وانما تشريعا، أي أن الشارع قد قصد لإغفال ذلك قصدا ولذلك قال الأصوليون السكوت في معرض الحاجة بيان ولذلك يوكل هذه الامور للاجتهاد.
منزلة الفقه السياسي من هذه المراتب:
إن اختلاف الفقهاء الكبير في المسائل السياسية والدستورية إنما يدل على قلة النصوص في هذا المجال من التشريع وليست كأغلب ابواب التشريع الاسلامي ولنثبت ذلك نقول:
إن القران أجمع السابقون واللاحقون على خلوه من نصوص مخصوصة بالشأن السياسي ما عدا آيتي الشورى "وشاورهم في الأمر" و "وأمرهم شورى بينهم"
والآيتان مع ذلك ليستا نصا على الشورى بالمعنى السياسي مطلقا. وأعني بكلمة "نص" بالمعنى الاصولي للكلمة اي العبارة الدالة على معنى واحد لا يحتمل التأويل. وانما هي دالة عليه إجمالا وإطلاقا.
أما السنة فأغلب ما ورد فيها في الشأن السياسي هو من أحاديث الفتن التي لا يُبنى عليها عمل عند الأصوليين وإنما هي من باب الأخبار والإعجاز كحديث "تكون فيكم النبوة..." بل إن الفقهاء لم يجدوا نصا على وجوب تنصيب الإمام فلجؤوا في ذلك إلى الإجماع بالرغم ان الإجماع يفيد القطع.
إن فراغ النص الشرعي أو ما يسميه الأصوليون بالمسكوت عنه وهو يفيد أحد امرين:
١) إما أن يكون على مقتضى الإباحة والبراءة الاصلية.
٢) وإما إحالته على الاجتهاد الشرعي والفقه السياسي منه لأن الشأن السياسي لا يمكن أن يغيب عن المجتمع البشري المنظم وهو ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري والعمراني.
ولكن يظل أن من أهم معاني السكوت الشرعي هو عدم اعتبار المسكوت عنه أصل من الأصول الدينية او التعبدية. ولذلك لا تكون بالنسبة لجوهر الدين من حيث هو دين إلا وسيلة لا ركنا ولا غاية ووجوبها انما هو من الوجوب الوسيلي كما قال العلماء ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب. ولذلك فلا شك في ضرورة إقامة الدولة الاسلامية ولكن اغلب ذلك الفقه مبني على الاجتهاد فهو موكول الى الناس ليطوروا نظام الحكم حسب مقتضيات العصر على اساس كلي واحد هو حفظ مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية وذلك اساس الخلافة في أعلى مستوياتها وتتفاوت مراتبها في الاسلامية على حسب درجة الخدمة او عدمها.
من كتاب البيان الدعوي لفريد الانصاري رحمه الله باختصار غير مخل باذن الله.
وأضيف نقلا عن مفكر القرن العشرين سيد قطب رحمه الله وكذلك عن فقيه القرن العشرين مصطفى الزرقا وكلام للعلامة يوسف الدجوي:
يقول سيد في تفسيره لآية الشورى:
"أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي ; فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان , لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية . والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة , وليست نصوصاً حرفية , إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب , وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة . والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء . . وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية . فهذه العقيدة - في أصولها الاعتقادية البحتة , وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها - تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري , يهيىء لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ; ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال."
ويقول الزرقا رحمه الله في كتابه الحديث النبوي: "ولهذا الاجمال في نصوص القران الكريم مزية هامة إلى احكام المعاملات والحقوق المدنية والنظم السياسية والاجتماعية فإن هذا الاجمال على فهم النصوص المجملة وتطبيقها بصور مختلفة يحتملها النص كلها فيكون باتساعه قابلا لمجاراة المصالح الزمنية وتنزيل حكمه على مقتضياتها بصورة لا تخرج عن اسس الشريعة ومقاصدها.
فلا يحصر تطبيق الشريعة بصورة محددة معينة قد تصبح محرجة مع تطور الزمن واساليب الحياة وادارة الامور.
مثال ذلك: أنه ورد في القران النص على مبدأ الشورى السياسية والادارية بوجه عام دون تعيينها بوجه خاص فكانت شاملة لكل نظام حكومي يجتنب فيه الاستبداد ويتحقق فيه تشاور واحترام متبادل صحيح بين الحكام والي الرأي والعلم في الامة سواء اكان نظاما جمهوريا او ملكيا دستوريا او غير ذلك مما لا استئثار فيه لفرد او لفئة بحسب ما تمليه المصلحة العامة في ادارة الشؤون."
ويقول العلامة الجليل يوسف الدجوي: "إن الدين يطلب من المسلمين أن يبينوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما انتجت العقول البشرية وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم".