يُحرم الكثير من الناس من حرية التعبير في أغلب دول العالم الثالث، ما يجعل دول العالم المتقدم تفاخر بما لديها من حرية وما تتمتع به شعوبها من إطلاق العنان للتفكير الإبداعي والنقد البناء.

بين هذا وذاك، طرح بعض الباحثين مؤخراً وجهة نظر مفادها أننا لا نملك أساساً مطلقية وحرية التفكير بالفعل، بل إن هناك من يجعلنا نفكر بالطريقة التي يريدها هو لا نحن! قد تبدو هذه الفكرة سخيفة للوهلة الأولى، ولكن هناك الكثير من الأدلة التي تثبتها.

الإعلام دائماً هو الموجه الحقيقي للشعوب، يوجه تفكيرها كيفما شاء، فيصور الحق باطلاً ويصور الباطل حقاً كيفما أراد. يظن أغلب الناس أن هذا الكلام ينطبق فقط على عوام الناس، والحقيقة أن المفكرين أيضاً يخضعون لسطوة الإعلام.

سأكتفي بدليلين اثنين -رغم وجود الكثير من الأدلة- لإثبات صحة ما سبق. الأول: موقف شعوب العالم من القضية السورية. فرغم تعاطف أغلب  شعوب العالم مع الشعب السوري إلا أنه لا يتفاعل معه إلا حينما يريده الإعلام أن يتفاعل، بكل بساطة تضع الشاشات العالمية صورة لطفل جريح فيبكي العالم على حال السوريين! تضع صورة امرأة أوربية ذهبت ضحية تفجير، فيصرخ العالم اطردوا السوريين! تضع صورة طفل سوري جائع، فيطالب العالم: أطعموا السوريين! وحين يسكت الإعلام .. يسكت العالم! والحقيقة أن ذلك الإعلام لم يقل يوماً أن القتل سيتوقف بعد أن تجاوز عدد الضحايا النصف مليون، ولم يقل يوماً متى سيتوقف، أو ما هي الأجندة التالية، لأن الحقيقة ستوقض العرب والمسلمين وهذا ما لا يريده الإعلام!

الدليل الثاني على توجيه التفكير وأثره البعيد على العرب والمسلمين هو ما يحدث للأمريكيين من أصول أفريقية هذه الأيام، والذي هو مجرد امتداد لتاريخ طويل من الإضطهاد في بلد "الحرية". لعشرات السنين صوّر الإعلام الأمريكي الرجل الأسود كمجرم قاتل، ولذا رغم أن أحد هؤلاء أصبح رئيس الولايات المتحدة إلا أن النظرة لهم بقيت كما هي بسبب الإعلام. رغم أن الأرقام تقول أن جرائم البيض أكثر وأشد بشاعة من جرائم السود إلا أن أثر التشويه الإعلامي لا يزال قوياً ليس في أميركا فقط، بل إن الإعلام الأمريكي -خصوصاً هوليوود- غير نظرة العالم بأسره نحو ذوي البشرة السوداء!

في خضم احتجاجات الأميركان ذوي الأصول الأفريقية هذه الأيام ضد الشرطة بدعوى الأعتداء المتكرر، قامت منظمة اجتماعية في أميركا بإجراء دراسة أرادت من خلالها معرفة إن كانت النظرة السلبية للسود لا تزال حاضرة فعلياً بين عموم الناس أم لا. بحثت هذه المنظمة عن أبعد الناس عن احتمالية التأثر بمثل هذه النظرة، فوجدت أن العاملين في مجال التعليم يعتبرون أكثر الناس تحصيناً ضد النظرة العرقية أو الدينية أو الطبقية وما إلى ذلك. أوهمت هذه المنظمة مجموعة من العاملين في مجال التعليم بأنها تريد دراسة سلوك الأطفال من أجل الوصول المبكر للأطفال السيئين سلوكياً والمحتمل ميلهم إلى العنف مستقبلاً. عمدت هذه المنظمة إلى اختيار المدارس التي تحوي عدداً متوازنا من ١- الفتية البيض ٢- الفتيات البيض ٣- الفتية السود ٤- الفتيات السود، وطلبت المنظمة من المربين مراقبة هذه المجموعات الأربع التي كانت تمارس نشاطها المدرسي بشكل طبيعي ولم تشعر بوجود أحد ولم تعزل عن بعضها البعض إنما كان التقسيم ورقياً فقط من قبل العاملين على الدراسة. كانت النتيجة كارثية! بما أن المراقَبين فعلياً هم العاملين في مجال التربية، فقد كانت النتيجة أنهم أمضوا أغلب وقتهم يراقبون "الفتيان السود" فقط! وهذا يعني أنهم مؤمنون مسبقاً بأن هؤلاء هم المجرمين المحتملين مستقبلاً.

هذه الكارثة الإجتماعية لم تحدث بلا مسببات، بل إن هناك إعلاماً وجّه تفكير المجتمع بهذه الطريقة. قد يقول قائل ما علاقتنا بهذا الموضوع؟

إعلام اليوم يمارس على العرب والمسلمين لعبة أكثر قذارة وأشد بشاعة من اللعبة اللتي لعبها الإعلام الأميركي ضد السود، بل وللإسف جزء من هذا الإعلام محسوب علينا، وبعض هؤلاء الإعلاميين من بني جلدتنا. الإعلام المرئي والمسموع والمقروء في السنوات الأخيرة يربط وبشكل يومي الإرهاب والدموية والوحشية بالمسلمين والعرب!

كثير  من العرب والمسلمين لا يأبه لهذا الأمر ولكنه خطير جداً وسيكون له مآلاته التي لا تبدو المأساة السورية إلا أحد مقدماتها.