بعض الشعوب والبلدان تحتاج إلى نظام ملكي بالضرورة لتحقيق الوحدة والاستقرار (بريطانيا، أسبانيا، ليبيا، المغرب، السعودية) والتي إذا تخلت عن هذا النمط من نظام الحكم المناسب لها إما أن تقع أتون الفوضى أو التقسيم أو في قبضة الحكم العسكري، وبعض الشعوب والبلدان يمكن يتحقق استقرارها بنظام جمهوري إما (رئاسي) أو (برلماني) أو (مختلط).... لكن بشكل عام فإن الغالب في البلدان العربية أنها تحتاج إلى أنظمة ملكية (عائلة مالكة أو حاكمة) أو حتى لحكم عسكري ولو ببزة مدنية لضمان الوحدة والاستقرار فيها، وفي العالم العربي عمومًا اقامة أنظمة ديموقراطية في الدول ذات النظم الجمهورية - خصوصًا الرئاسية منها - أصعب بكثير جدًا من اقامتها في الدول الملكية، فلن استغرب كثيرًا إذا خطت المملكة السعودية خطوتها الأولى نحو الديموقراطية البرلمانية كما فعلت الكويت منذ عقود، خصوصًا في ظل هذا التوجه (الليبرالي) (غير العلماني) الذي يمثله (ولي العهد) (الشاب) في مواجهة التيار الأصولي (المحافظ) التقليدي الاجتراري الذي يجتر التراث منذ قرون ولا يملك مشروعًا للنهوض بالأمة!..... وإذا فعلت السعودية ذلك - بلا شك - ستكون نقلة سياسية تاريخية كبيرة في اتجاه بناء الديموقراطية بهدوء وعلى طريقة ضخ جرعات مدروسة بعناية، وعلى مراحل زمنية، من الليبرالية والديموقراطية في قوانين وسياسات وسلوك الدولة - في ظل ثوابت الأمة السعودية - وفي ظل الاستقرار العميق المتمثل في المؤسسة والعائلة المالكة !!.. فإذا حدث هذا على يد الأمير الجديد (ولي العهد) فلا شك أن هذا سيكون خطوة واعية وارادية إلى الأمام خصوصًا بعد أن ذقنا مرارة الثورات الهوجاء بدعوى تحقيق الديموقراطية والتي كانت نتيجتها الفوضى والصراعات الجنونية (ليبيا ومصر وتونس واليمن) بل الرجوع للوراء (القهقري) في مجال الحريات الليبرالية والديموقراطية حتى باتت النخب المصرية تتمنى لو ظلت في عهد مبارك!!!!
لقد أثبتت التجربة لنا في العالم العربي أن أي تجربة ديموقراطية مطلقة تنتهي إلى الفوضى ليس بسبب طبيعة شعوبنا فقط بل وبشكل رئيسي بسبب أن النخب السياسية العربية لم تبلغ سن الرشد السياسي بعد!، فهي لازالت تتخبط في (المراهقة السياسية) ولم تتمكن من تجاوزها منذ عهد الاستقلال!! ... لذا ، إذا أردنا اقامة نُظم ديموقراطية برلمانية لا تتسبب في الفوضى في بلداننا العربية، فلا مفر من وجود راعٍ سامٍ للدولة يحمي وحدتها واستقرارها ويمنع تحوّل التجربة الديموقراطية لفوضى!، وهذا الراعي السامي إما أن يكون المؤسسة العسكرية (الجيش) كما في مصر والجزائر ، أو يكون المؤسسة الملكية والعائلية التي تمثل رأس الدولة الدائم الحافظ للوحدة والاستقرار كما في المغرب والأردن والكويت وأيضًا المملكة البحرينية لولا أنها تقع تحت ضغط التهديد الإيراني وذيوله داخل المملكة ممن يسعون إلى التغيير الجذري والاطاحة بالنظام الملكي!!... أو أن تتم الديموقراطية في ظل صيغة المحاصصة بين مكونات المجتمع الوطني كما في جمهوريتي لبنان والعراق وكما يحاول البعض استنساخها في ليبيا!!، ولا شك أن أفضل راعٍ بالنسبة لمجتمعاتنا العربية هو وجود (عائلة ملكية) تترأس الدولة ولا تحكم بل تترك الحكم للبرلمان المنتخب من الشعب بحيث لا يتدخل الملك (الراعي السامي للدولة) في السياسة إلا إذا أدخل البرلمان الحاكم البلد في أزمة سياسية أو معيشية خانقة بسبب تحوّل التنافس السياسي بين الحكومة والمعارضة إلى صراع سياسي مفتوح يهدد وحدة واستقرار البلاد ومصالح العباد وحركة الاقتصاد، هنا يتدخل الملك - لا ليستلم الحكم بنفسه - بل ليقوم - وفق نص دستوري - بحل هذا البرلمان الفاشل ويُعيد الأمر للشعب (الناخبين) ليختاروا مجلس أمة (برلمان) آخر جديد، بعد فترة هدوء عام للمراجعة واستعادة الاستقرار لا تزيد عن ستة أشهر، فهذا النظام بهذه المواصفات هو الانسب للعرب - وخصوصًا دول مثل ليبيا والسعودية والمغرب - وهو الخطوة الأولى نحو الديموقراطية الرشيدة... هذا من جهة ومن جهة لا شك أن قيام المحاصصة على أساس المكونات العرقية أو الدينية والطائفية أو حتى القبلية والعائلية - وإن كان يحقق الاستقرار بسبب التوافق الطائفي- لكنه استقرار يقوم على حقل ألغام لا يمكن التعويل عليه والاطمئنان إليه على المدى الطويل كمشروع لدولة ديموقراطية عميقة و... مستقرة!!، بعكس المحاصصة التي تقوم على أساس (جهوي مناطقي محلي جغرافي) فقط ودون النظر إلى الاعتبارات العرقية والطائفية فهي أفضل بكثير من الصورة الأولى بل هي اقرب للنظم الفيدرالية واللامركزية المطبقة في العالم الديموقراطي.
وأخيرًا
إنني كصاحب رأي عربي يؤمن بالديموقراطية الليبرالية (في ظل العدالة الاجتماعية ودولة الكفالة والرعاية الاجتماعية) أرجو أن يكون مسار ولي العهد الحالي (محمد بن سلمان) في هذا الاتجاه النهضوي الرشيد، أي نحو الانتقال بالمملكة إلى (نظام ملكي برلماني دستوري) وبما يشبه المملكة المغربية كخطوة أولى راشدة وصحيحة في اتجاه النهوض ببلداننا العربية حضاريًا وسياسيًا، بحيث تتنافس النخب السياسية على الحكم والإدارة، ومن يفوز منها بأغلبية مقاعد مجلس الأمة (البرلمان) هو من يحكم البلد ويديرها في ظل الدستور وثوابت الأمة وفي ظل رقابة ورعاية الملك للوحدة والاستقرار والتجربة الديموقراطية، وفي ظل ثوابت السياسة الوطنية (الداخلية والخارجية) للدولة التي ينبغي تدوينها في (ميثاق وطني مكتوب) يجب على كل القوى الالتزام به كنهج وطني عام للدولة الوطنية سواء كانت هذه القوى والنخب السياسية في خندق الحكم أو خندق المعارضة... فهكذا - وبهذه الموزنات والضوابط - يمكن - خطوة بخطوة - البدء ببناء ديموقراطية برلمانية راشدة لا تلحق ضررًا بالوحدة والاستقرار والاقتصاد الوطني، ولا تنزلق للفوضى كما حدث بعد ربيع الشوارع العربية، فقد تعلمنا أن النخب العربية السياسية المتنافسة إذا تُركت على هواها بدون (كبير) و(رأس للدولة) وبدون وجود (راعٍ سامٍ وحامٍ للدولة) تنزلق في حمى وطيس معاركها الحزبية الضيقة بالبلد نحو الفوضى أو الشلل العام كما رأينا في مصر وليبيا وتونس واليمن بعد ثورات الربيع العربي الهوجاء التي كما كشفت لنا عن افلاس الاسلاميين كشفت لنا كذلك عن افلاس بقية النخب السياسية العربية وعدم قدرتها على إدارة أية تجربة ديموقراطية بطريقة حكيمة رشيدة متزنة مما تسبب في الفوضى وتقسيم البلاد واضاعة مصالح العباد وتخريب ثورات الربيع العربي وتحويلها إلى خريف مخيف!... وهو ما جعلنا ننحاز إلى (المشروع الملكي البرلماني الدستوري) - بالمواصفات التي ذكرناها - كأساس صحيح لتوطين وتمكين الديموقراطية في العالم العربي في ظل استقرار عميق تحرسه المؤسسة الملكية.... وكما يقول المثل الشهير (رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة).. خطوة واحدة مدروسة وفي الاتجاه الصحيح.. وهذا هو الطريق!
******************
سليم نصر الرقعي
مدون ليبي من برقة
(*) أتذكر عام 2004 تقريبًا كانت قناة (المستقلة) تستضيف مجموعة من المعارضين السعوديين المقيمين في لندن، وكنت أنا في مداخلة بالهاتف في ذلك البرنامج وكان الموضوع عن أفق الديموقراطية في العالم العربي، وتحدثت عن تجربة ليبيا وكيف أننا بانقلاب القذافي خسرنا استكمال مشوار تجربتنا الديموقراطية البرلمانية في ظل الملكية الدستورية أيام الملك إدريس رحمه الله، وحذرت الأخوة السعوديين من انزلاقهم للحلول الجذرية الثورية المدمرة ومن الأوهام الكبيرة ونصحتهم بأن الخيار الصحيح والمشروع الصحيح هو المشروع السياسي الاصلاحي بحيث يتم الدفع بالتي هي أحسن - مع عدم المساس بمكانة العائلة المالكة - في اتجاه الحكم الملكي البرلماني الدستوري، فهذا هو المشروع الوطني الواقعي الذكي والأأمن لبلادهم حتى لو استغرق ذلك عقودًا وأجيالًا، ولكن يبدو أنهم لم يعجبهم رأيي يومها، وأرجو مع معايشتهم للفوضى والرجوع القهقرى الذي حل بدول الربيع العربي بعد تلك الثورات الشعبوية الهوجاء أن يكونوا الآن أكثر نضجًا وحكمةً، فالسياسة من جهة هي فن الممكن، ومن جهة هي تحقيق المصالح والاهداف دون تكثير المفاسد والخسائر، وعلى رأسها أمن ووحدة واستقرار الأمة والبلاد! ، فنحن الافراد عمرنا قصير ومحدود سننتهي ونموت بينما جسم الأمة باقٍ حيًا كما تموت خلايا اجسامنا كل يوم وتتجدد من أجل بقاء الجسم، فعلى الافراد أن يفكروا ببعد نظر وأفق واسع في سلامة وصحة هذا الجسم على المدى البعيد!، أما ((المُنْبَتَّ)) المتشدد المصر على أن يقطع الطريق الطويل على ظهر دابته بسرعة بدون مراحل ((فلاَ أرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أبْقَى))(!!؟؟)