ومن اصدق ما قاله فينسنت فان غوخ عن الحنان : (( لطالما دفعت بي حاجتي الى الحنان، لالتماسه عند أشخاص كانوا يحاولون تدميري )) .
الحنان هو صفة إنسانيّة تنبع من الوعي الكامل والعالي بالمفاهيم الإنسانيّة ، وتُعتبر من صفات الرُقيّ الإنسانيّ والحضاري ، وتلعب دوراً كبيراً في تعاضد العلاقات بين الأفراد والأشخاص وخاصّةً أولئك الذين تجمعهم علاقات اجتماعيّة متقاربة كالأسرة، والأزواج، والأصدقاء ... ؛ فهذه الصفة الجميلة – الحنان – تقوي العلاقات بين الناس ، وتحفظ العلاقات الأُسرية من النمطية والتباعد الذي جلبته الحداثة بين أفراد الأُسرة الواحدة ؛ و تجعل صاحبها مُنطلقاً نحو الحياة ، وسهلاً في التعامل مع الآخرين ... ؛ وتورث الايثار لمن يتمتع بها ، فهو يُفضل الآخرين على نفسه احيانا ، ويشغل باله لأجل راحتهم ... ؛ و تحفظ العلاقة الطيبة بين الزوجين ؛ فغالباً ما تحتاج المرأة لأن يحنو عليها زوجها ، وفي المقابل يحتاج الرجل لوجود هذه الصفة في زوجته ؛ من خلال تهوين وطأة الحياة وظروفها القاسية عليه ، والوقوف إلى جانبه في السراء والضراء , و يساعد التعامل بها مع المراهقين على تجاوزهم للكثير من الأزمات النفسية التي يواجهونها، خلال مراحلهم العمرية الممتدة من عمر اثني عشر عاماً إلى ثمانية عشر عاماً ... ؛ و تعزز مفهوم الأُخوّة الإنسانية ، ولا سيما في المِهن التي تتطلب التحلي بها كالمُشرفين على رعاية المُسنين والمرضى و الممرضات والمربّيات والمعلمات ... الخ ، أو مَنْ يتعاملون بحكم وظائفهم مع ذوي الاحتياجات الخاصة ... ؛ وغالباً ما يرتبط الحنان بالأم فنقول إنّها جنةٌ من العطف والحنان، لكن هذا لا يمنع أنّها صفة يتمتّع بها الكثير من البشر من الذكور والإناث على حدٍ سواء ... ؛ اذ ذهب بعض العلماء الى ان الطفل يحتاج الى الحنان منذ اللحظة الاولى لولادته ؛ حيث يكون الطفل بأمس الحاجة للحنان ولضمة أمه وقبلاتها الدافئة ؛ بل أكثر من ذلك فقد صرح بعض العلماء : انه بمجرد أن يولد الطفل يجب أن تحدثه أمه بكلمات رقيقة وعاطفية في إذنه ؛ لأنه الآن في عالم غريب ويحتاج للأمان وهو قادر على أن يشعر بحنان أمه وغالبا تراه بصمت عن البكاء إن ضمته والدته لصدرها بكل حب وحنان ... ؛ كما أن الطفل يحصل على جرعات الحب أثناء الرضاعة ؛ حيث أن الأبحاث النفسية ذكرت أن الأم التي ترضع طفلها من ثديها بكل حب وحنان ؛ تكون معدلات الفائدة من حليبها للطفل مرتفعة جداً , و يساعد الحليب الممزوج بالحنان في رفع القدرات الذهنية للطفل ... ؛ وللحنان فوائد جمة ولفقدان الحنان نتائج وخيمة فحنان الأم يساعد بشكل مباشر في تطوير القدرات الذهنية لدى الطفل ويجعل منه طفلاً أكثر ذكاءاً ، كما أن الطفل المتمتع بالحنان هو طفل ناجح في دراسته وعلى أقل تقدير ستكون دراسته جيدة إن لم نقل ممتازة، والطفل المحاط بالحنان هو الأقل ارتكابا للأخطاء والأكثر اعترافاً بالذنوب لأنه مدرك أن هناك قلباً حنون سيستوعبه ولن يغضب في وجهه، والحالة النفسية للطفل الذي يعيش بكنف حنان الأمومة هي حالة مستقرة وهادئة ونادراً ما تلاحظ العصبية على هذا الطفل ، كما أنه أكثر ثقة بنفسه والأكثر قدرة على إقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين ؛ وحنان الأم يغلق ثغرات كثيرة من الممكن أن تتشكل في شخصية الطفل وسلوكه ؛ بل أكثر من ذلك إن رزق الطفل بأم حنون فمن المؤكد أن حياته ستكون سليمة والعكس صحيح ؛ نعم كل إنسان كبيراً كان أم صغيرا يحتاج للحب والحنان ليتابع حياته على أكمل وجه ؛ و لكن الحنان الاهم – ان جاز التعبير - الذي يحتاجه كل إنسان هو حنان الأم , ولاسيما الطفل فهو الأكثر حاجة لحنان أمه لأنه في طور البناء لكيانه ولشخصيته ومستقبله كما اسلفنا ... .
وكما قلنا انفا : كل انسان يبحث عن الحنان ومخطئ من يعتقد ان الطفل وحده من يبحث عن الحنان , فالمراهق يبحث عن الحنان , والبالغ يبحث عنه , و كذلك العجوز والمريض والوحيد ... الخ ؛ و عليه لا يمكن الاستغناء عن الحنان أبدا ؛ فما قيمة رغيف الخبز الذي يقدم بلا حنان , وما الجميل والمثير في الجنس عندما يمارس بلا حنان , وما اهمية الكلام العاطفي الخالي من الحنان الصادق ...؟ ؛ وكما قال أونوريه دي بلزاك : ((إذا كان الجمال هو الذي يثير الحب، فإن الحنان هو الذي يصونه )) فالحب والحنان لا ينفصلان فأساس الحب هو الحنان والاهتمام فالحب الخالي من الحنان والرقة والعطف لا معنى له ولا يستمر أبداً ... .
و يُعرّف الحنان في اللغة العربية : بأنّه الشعور الرقيق والإحساس بالعطف والرحمة، أمّا في الاصطلاح فهو الشعور بالعطف تجاه الآخرين والحرص عليهم من أيّ أذى، ويُتَرجم هذا الشعور عبر العديد من السلوكيات التي تجعلنا نُميّز الشخص الحنون من غيره وأهمها : الحرص على حاجيات الآخرين كالمأكل ، والنوم براحة ، وحفظ الأغراض الشخصية من الضرر ؛ و السؤال الدائم عن الأصدقاء ، والأهل ، والأطفال ، فهو يهتم دائماً بمن حوله ؛ و عدم انتظار الطرف الآخر ليسأل عنه أو يرد جميل عطفِه ؛ فهو شخصٌ لا حدود لعاطفته الرائعة ، ولا يَقرن شعوره بأفعال الآخرين ؛ ويعيش حالة التسامح والمحبة، حيث يترفع عن أخطاء الآخرين، ولا ينتظر منهم تقديم الأسف، كما يشفق عليهم من أفعالهم الخاطئة ، ويسارع لمواساتهم، متناسياً أفعالهم وأقوالهم المُسيئة بحقه ... (1) ؛ و الشخص الحنين يمتلك القلوب , وحضوره يكون قويا وايجابيا ويأسر النفوس بمحبته ؛ حيث تشعر بالسلام بالقرب منه او عند حضوره ...؛ فهو عبارة عن كتلة من العاطفة الجياشة بل مولدة للطاقة الايجابية المتبادلة بين الطرفين ؛ لذا قال الكاتب أحمد خالد توفيق : (( الأرجح أن الشخص الحنون لا يفرق بين إعطاء الحنان وتلقيه ... هذه ظاهرة عجيبة )) .
ومن خلال ما تقدم عرفنا ان الحنان من السمات الانسانية الاصيلة ومن مكارم الاخلاق النبيلة ؛ الا ان بعض المرضى والمشوهين يعتبرون اللطف ضعف ويفسرون العطف بالخوف من الاخر , ويعزون الحنان الى ضعف الشخصية ...!!
وفى الغالب ان هذا الخلق الذميم موجود عند بعض الرجال الذين يعتبرون أن اظهار عواطفهم والتعبير عما في داخلهم يعد من الضعف ؛ وقد يقلل من شأنهم الاجتماعي .
نعم الحنان إحساس راقي قد يخلو منه قلب شخص ميت لا يعرف للحب طريق ولا للرحمة تعريف ؛ لأن الحنان في القلب هو المحرك الأساسي لأفعال الفرد الاجتماعية والانسانية ؛ فالقلب الخالي من الحنان كالبحر بلا مياه ؛ فما أجمل أن يتحلى الرجل بالحنان مثلما تتحلى الروضة بالورود ... ؛ فعلا عجيب امر بعض الرجال الذين لا يبذلون الحنان الا في مخادع النساء والعاهرات بينما تراهم في غاية القسوة والصلافة والحقارة عندما يتعاملون مع الاخرين ؛ وبسبب هؤلاء الاجلاف القساة والمرضى الانانيين صرنا نأنس بالحيوانات الاليفة اكثر من أنسنا ببني البشر ؛ بل ان بعض الحيوانات تبادلنا الحب والاهتمام والوفاء بينما يخذلنا معظم بنو البشر ...!!
ولا يغرنك من يمثل دور الحنين او من يرسم على مظهره الخارجي الرقة ؛ فالكثير منا يصطنع دور الحنان والعطف ... ؛ ولكنه في حقيقة الامر خالي الوفاض من مكارم الاخلاق وما هو الا سوى ممثل يجيد اداء الادوار العاطفية والانسانية والاخلاقية ؛ وصدق من قال : ان قلب المؤمن دليله ؛ لأن الحنان لا يمكن أن نراه بأعيننا ؛ لكن نتحسسه بقلوبنا وتترجمه لنا أحاسيسنا .
ويا للأسف فقد كنا في الطفولة والمراهقة نمنح الحنان لكل من هب ودب من الناس ؛ دون ان نعي حقيقة هذه العاطفة النبيلة ؛ وبعد ان تعرفنا عليها وشعرنا بها وعشنا مشاعرها ؛ و بمرور الايام وتقدم السن ؛ صار من الصعب علينا بذل الحنان للآخرين او قبوله منهم ؛ اصبحنا اشحاء حتى بعواطفنا تجاه الاخرين .. .
وفي الختام كلنا يعرف : ان الحياة في بلادنا قاسية جدا ؛ بسبب كثرة الحروب والصراعات , واستمرار مسلسل الازمات والانتكاسات , وتوالي المحن والمشاكل والصعوبات ... ؛ حيث نرى اطفالا يعملون , وكبارا يتسولون , ونساء متعبات , ومرضى منهكين , ومرافق عامة بائسة , وبنى تحتية مهدمة , واشخاص بائسين , وافراد كأنهم حيارى سكارى من شدة مرارة الزمن وقسوة الدهر , وشباب عاطل عن العمل ومشاكل اجتماعية جمة واضطرابات سياسية عويصة ومؤامرات دولية ضدنا مستمرة ومتواصلة ... ؛ كل هذه الظروف المأساوية تحتم علينا بذل المزيد من الحنان للكثير من المواطنين ؛ ولاسيما الارامل والثكالى والايتام والاطفال وكبار السن والمرضى والمنكوبين والمساكين والبائسين والمراهقين ... الخ ؛ إن الناس في بلادنا بحاجة ماسة الى السلام والحب والسكون والحنان والهدوء والصدق والوفاء والاخلاص والالتزام والنظافة واحترام النظام والقانون ... .
ان بذل الحنان للغير يعطي للآخرين شعورا بالرضا والفرح ؛ وفي ذات الوقت يشعر الشخص الحنين بالطمأنينة والراحة والسكينة والسعادة عندما يمنح حنانه و وداده للناس ؛ لذا حاول عزيزي ان تكون رقيقا حنينا انسانيا في تعاملك مع بني البشر ... ؛ واعلم بأن حاجتنا للحنان ملحة كما هي حاجتنا للأكل والجنس والانتماء والهوية والهواية ؛ وقد تدفعنا الظروف القاسية احيانا لالتماس الحنان من اعداءنا وحسادنا كما قال فينسنت فان غوخ في مقولته .
...................................................................
- مفهوم الحنان / فاطمة مشعلة / بتصرف .