بسم الله نبتدئ وبعد؛ فإن كان هناك ثمناً لصمت البعض عن ذكر الحقائق، فقد رخص بأعيننا ثمن سكوتهم، وآن الأوان أن نشير إليهم ولو من بعيد، فالأقنعةُ تساقطت، والوجوهُ شاهت.
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أخرجة الألباني بسندٍ حسن، حيث قال :(من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها)، لا تقومُ لبلدٍ قائمة دون قيام الأمن بها، وتشريع الأحكام والقوانين لمحاسبة الطغاة والجناة الخارجين عليها، ومن هذا المنطلق أردنا التحدث عمّن يُسمى " بالعدو الخفي "، ذلك العدو الذي ارتفع صوته فوق أصواتنا، وامتلأ ذِكرُهُ داخل أذهاننا، ذلك العدو الذي تَوشح بلباس الصديق وما هو بصديق، من قرأ التاريخ عَلِم أنّ ألدّ الأعداءِ ضرراً مَن جاءَ مُنقلباً بعد صداقته عدواً، وطعنة الصديق ليست كطعنة العدو، فكيف بأعداءٍ يتجولون بيننا، ويتحدثون بلغتنا، ويأكلون من أخيارنا، ويغترفون من أموالنا، فقد قال الشاعر القديم في وصفهم :
كالسيل بالليل لا يدري به أحدٌ
من أين جاء ولا من أين يأتيه
وسأذكر حواراً أُجريّ بيني وبين أحد الأصدقاء التُجّار الوافدين :
سألني صديقي بصوتٍٍ هادئٍ فقال : هل كلّ مُغتربٍ في هذا البلد عدوٌّ لكم، ويكيد بكم؟
فأجبته : لا، والأصل في وجودهم مباح وعبادة، وغُربةٌ وكسب قوتٍ وضرب مَعيش، ولكن لا يمنع هذا أن يكون بعضاً منهم يتكسب الأرباح، ويمشي في الأسواق، ويكيد لهذا البلد بالكُره ولو بالقلب.
فقال مُتبرماً : وما رأيك في أهل بلدك؟
فأجبته مبتسماً : قومٌ عاشوا بآمان، وذاقوا لذة العيش والوقار، وفِتْنَتُهم في دينهم ونسائهم، فإن سَلِموا فقد سلِم المجتمع من الضياع، وسلِم الأمن من الفكاك.
فقال متعجباً : وما رأيك في التكفيرين من أهل بلدك؟
فأجبته قائلاً : ينطبق عليهم قول الشاعر القديم :
لا يلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدوَّ الغنم
فهؤلاء قومٌ حفظوا أفكار غيرهم، وسلّموا عقولهم لقاداتهم، وانتهى الأمر بهم أن فجّروا أنفسهم عند مسجد النبي صلى الله عليه، فلا هم من أهل البلد، ولا هم من أهل الدين.
وبهذا الحوار البسيط ينجلي الغموض عن وجهةِ نظرنا بالصديق العدو، والقريب المُنقَلب، وكأن التاريخَ يعود، وأَرَى بيننا بعضاً من الصفات الجاهلية، فتذكرت خيانة أبي رغال الجاهلي، والذي قال عنه جريرٌ وهو يهجو الفرزدق:
إذا جاء الفرزدق فارجموه
كما ترمون أبي رغال
فقد كان حُجاج بيت الله الحرام يرمون قبره بالحجارة كما كانوا يرمون الشيطان نفسه؛ ذلك أنّ أبي رغال قد خان العربَ قاطبةً في نيةِ هدم الكعبة قبل الإسلام، وقَبِل التعاون مع الأحباش الذين يقودهم أبرهة الأشرم، وقد كان دليلاً للفيلة، فأصابه ما أصاب الغزاة، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى :{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ(4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ(5)}، وهذه نهاية كلّ خائنٍ أعان الغزاة على مآلِهِم، فذهب بخيانته إلى المزبلة، وأصبح مضربَ مثلٍ في الخيانة، وخلّد الله سبحانه وتعالى قصتهم بالقرآن، ورُجِمَ قبره كما تُرجم الكلاب، فأعاذنا الله من سوء الحال والمُنقلب.
ونعود إلى ما يهمنا ونقول : إنّ المملكة العربية السعودية بقادتها وشعبها واعون لِـمّا هُم فيه من حربٍ على أمن هذا البلد وحدوده وهو أمرٌ ظاهرٌ للعلن، بينما الحرب الخفية ما يُدار بالداخل من فتنٍ أفسدت ولم تُصلح، كالعصبية القبلية، والحرب الطائفية، وزرع الجواسيس، وتبوء العدو الصديق للمراكز الحساسة، والحرب الإلكترونية هي أشد وأمَرّ وأطول نفسٍ بينهما، والواعي بما يدور من حوله هو العارف بالمصدر الذي ينبثق منه هذا الضلال، ولا يُستفزُ ولا يُستدرج إلى هذا المستنقع، والمجتمع يكتظ بالجنودِ المجهولين الواعين من أهل البلد ومن بعض الوافدين المُخلصين بعقيدتهم وحبهم، فحفظ الله أمن هذا البلد، وأقام لهم البطانة الصالحة، وأعانهم على تصويب الحق والعدل بالرأي والفعل.
والخلاصة : لا يتبادر في ذهني سوى قول المتنبي :
وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنَالُكَ نَفْعُهُ
وَمِنَ الصّداقَةِ ما يَضُرّ وَيُؤلِمُ.