في قريةٍ من قرى الجنوب، في ليلةٍ شديدة البرد حالكة الظلمة، جلس محمود مع والدته يتشاركان رغيف خبزٍ مع تماراتٍ ويتبادلان الحديث عن يومهما الحافل بالتعب والإرهاق ولكن تكسوه لذة السعي لكسب اللقمة الطيبة بالحلال...

وبينما الصمت يخيم على المكان وهما يستعدان لأخذ قسطٍ من الراحة حتى يتزودوا ليوم الغد، إذ بصوتٍ خفيف يصحبه بكاءٌ متقطع أمام بيتهما ..

هرول محمود مسرعاً نحو الباب وأمه من ورائه، إذ ببنتين صغيرتين ترتجفان من شدة البرد والخوف والدمع منهمر على وجنتيهما الشاحبتين.

أدخلهما محمود بهدوء وقد ملأت الدهشة ناظريه:

ملابس بالية قد اسودت من شدة الوسخ، شعرٌ متيبسٌ يبدو أن الماء لم يلمسه منذ أشهرٍ وجسمٌ نحيلٌ متهالكٌ ..!

-"اطمئنا، أنتما هنا بأمان."

نظرت إليه البنية الكبرى وقالت وهي تشهق:

"بعدما توفيت أمنا، ومن قبلها أبونا، طردنا أخوالنا من بيتنا وقالوا لنا (أن اذهبوا إلى أعمامكم، لا مكان لكن بيننا!)، وها نحن منذ أيام ونلف القرية نفترش الأرض ونلتحف السماء ، لم نجد مأوًى يحمينا ولا طعاماً يغذينا ولا يداً حانيةً تزيل عنا هذا الأسى الذي سكن فينا .. حتى جيئ بنا إلى بيتكم وقيل لنا أنكم اقرباؤنا .. أرجوك آمنا عندكم .. لن نكون ثقلاً عليكم أبداً.. أختي صغيرة ولن تستطيع تحمل كل هذا الشقاء!"

كانت تتحدث وهي تمسك أختها من معصمها بشدة وتلصقها إليها بشدة كأنها تخف أن تضيع منها ..!

نظرت الأم إلى ابنها الذي لم يستطع أن يمسك نفسه عن البكاء وهي التي لم تعهده يوماً هكذا وهو المتجلد الصلب رغم كل الذي كابده على صغر سنه، ثم قالت:

"أي بني .. أنت تعلم حالنا، إن أكلنا يوماً، صمنا على الطعام أياماً، والطعام بالكاد يكفيني ويكفيك. منذ توفي أبوك وأنت رضيع ونحن على هذه الحال .. لا تزد العِبء علي يا ولدي، نحن الذين يقال عنهم "موتى على قيد الحياة" ولولا جميل الصبر وصدق الوعد لتكدرت حياتنا بأكملها. كيف لنا أن نعولهما، ثم انها مسؤلية كبرى لا نقدر عليها ..!"

-" يكفي يا أمي أرجوك ! كيف لي أن أتركهما ؟!! أ إلى الشرع ؟ كيف لي أن أتركهما وهما على هذه الحالة؟ كيف لي أن أتركهما وهما قريبتينا ؟

أمي أو ليس "طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة" .. أولم يوصي نبينا صلى الله عليه وسلم باليتيم وبشر بأنه وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وقد اشار بإصبعيه ؟!!

يا أمي ، إن طعمنا طعمن معنا، وإن جعنا صبرن معنا ..!"

لم تجد الأم كلاماً تعترض به على كلام ابنها قرة عينها .. ثم قالت:

"أعانني الله وإياك على رعايتهن."

نظر محمود إلى البنتين نظرةً يكسوها الحنان:

" نسينا أن نسألكن عن أسمائكن!"

هنا إبتسمت الصغرى التي رغم الحالة المتردية التي كانت عليها كانت تشع أملاً :

"أنا مريم، وهذه آمنة أختي."

أطعمت الأم مريم وآمنة وأزالت ما عليهن من وسخ ودَرَن.

وباتا ليلةً هادئة وهانئة ..

كان الصباح مختلفاً هذه المرة ، بيت يأوي البنتين في وسط أسرةٍ حانية .. ليس المال أو الترف هو مبتغاهما بل هو الحب .. نعم جنةٌ هذه الدنيا بالحب وإن قلت اللقمة وذاق الحال .. الحب والرحمة والإهتمام هو ما يحتاجه المرء ناهيك عن طفلٍ صغير .. أن تجد من يسأل عنك ويتفقد امرك ويحميك من قسوة المجتمع وظلمه .. أن تجد من ينتشلك من ركام اليأس .. من يقول لك أنا بجانبك فلا تحزن ! هذه جنة الدنيا لو تعلمون !

_________

يتبع ..