Image title


حين صرّحت أمام أختي بالمتعة التي أجدها في غسيل الصحون، وثّقت تصريحي في مقطع فيديو لتستخدمه ضدّي إذا تراكمت الأواني على المجلى وعلى طاولة الطعام وصار المطبخ مكانًا معاديًا والبقاء فيه أشبه بقضاء محكومية مع الأشغال الشاقة وكل واحدة منّا تجاهد لقضاء نصف محكوميتها وإن حالفها الحظ تجاهد لتبرئة نفسها... مع أننا اعتدنا أن سهراتنا المرتجلة بلا تخطيط تكون في المطبخ غالبًا حين نتصادف فنتحلق حول الطاولة وتتراكم الحكايات التي نتبادلها وتتوالد كما تتوالد الصحون في المجلى أيام المناسبات.
أتذكر أنّي قرأت في موقع ساقية مقالة عن النساء والأدب وعرضوا فيها رأي فرجينيا وولف في كتابها (غرفة للمرء لوحده) حين تحدثت عن النساء اللائي قُدّر لهن أن يكنّ شاعرات وقُدّر للعالم أن لا يعرف قصائدهن التي شتتها الركض اليومي خلف الأعمال البسيطة والمتناسلة من بعضها، الركض من أجل تلبية طلبات الأُسرة وإنجاز العمل المنزلي المستمر بلا ساعات محددة وبلا مهام متفق عليها وبلا بداية واضحة أو نهاية مرتقبة وبالطبع بلا أجر مادي... الرابط بين المقال المنشور في ساقية وبين بدء حديثي هو العنوان الذي يقول: (الكتابة ضد غسيل الصحون) إذ حضر الغسيل باعتباره توصيفًا مختزلًا للعمل اليومي المنزلي اللانهائي... غسيل الصحون جزء دال على الكل...
والصحون بالصحون تُذكر، ففي يوميات جورج أورويل البائسة عن حياته بين باريس ولندن كتب عن عمله في المطاعم غاسلًا للصحون. وكان قد عمل قبلها أعمالًا متفرقة لكنه خصّ غسيل الصحون بقوله (يوم بؤسي) فغسيل أواني طاولة الطعام في الفندق يعني بحسب تحديده ثلاث عشرة ساعة من العمل المتصل، العمل الذي يقول عنه "عمل بلا آفاق، مرهق جدًا، وفي الوقت نفسه نراه خاليًا من أي أثر لخبرة أو مهارة أو اهتمام"
وبعيدًا عن المقال الذي يقف فيه الغسيل نقيضًا للكتابة، وعن يوميات أورويل التي ينأى فيها الغسيل عن المهارة... أقف مع شيء من حميمية تفاصيل سناء خوري التي كتبت مقالًا عن جارتها الساكنة في البيت المقابل، الجارة التي تترك شبابيكها مفتوحة للتلصص، وتقضي أيامها في الجلي والتنظيف بمهارة وانتظام، ومع هذا لا تنسى النبتة في شباكها من السقاية، لا تنسى أن ثمة حياة تتوازى مع حياتها المليئة بالمهام، تُزهر النبتة وتنظف الصحون وتلمع رفوف الخزانة وتقول سناء الواقفة تغلي قهوتها في مقابل الجارة التي تغسل صحونها: "أشعر أنّنا توأمان في الروح. نعيش في عالمَيْن مختلفَيْن، ولكنّنا نلتقي على حافّتيهما، في المربّع ذاته: امرأتان مطحونتان لمجرّد «الانوجاد» في هذه المدينة، ولمجرّد الاضطرار على تحمّل الحياة عموماً، الحياة كما هي، كما يضطر الناس جميعهم على تحمّلها حين يحارون أمام سؤال «هل كبرنا حقّاً، أم أنّنا لا نزال صغارًا"

أخيرًا... عودًا للبدء، لتصريحي الموثق في هاتف أختي درءًا للإنكار ومحاولات التراجع، أقول بلا ندم ولا تردد: نعم أستمتع بغسل الصحون، وأحب الوقوف أمام المجلى الذي عادةً ما يكون ملاصقًا للنافذة ومقابلًا للباب، وحين أقف أمامه فإني أُدير ظهري للباب ولكل البيت الساكن خلفي وأستمتع بالسكنى داخل نفسي في مواجهة الماء المنساب والنافذة المعتمة وروحي التي تتفتح شبابيكها شباكًا شباكًا وتُضيء دهاليزها شيئًا فشيئًا كلما ازددت انهماكًا فيما بين يدّي، أستغرق في ملمس الصابون الناعم وفي الضغط على هشاشة الاسفنج، أُدير كفي بانتظام داخل الصحون وحول أطرافها... بقدر ما تتوالد الصحون بعناد أمام فزع ربّات البيوت بقدر ما تتوالد الأفكار في رأسي فلا أكون ربّة بيت فحسب، بل ربّة نفسي وربّة عقلي وربّة السكون الذي يتناص مع انهمار الماء فيتشكل من خلالهما سيلًا من الأفكار التي عادةً ماتكون هي عناوين كتاباتي بما فيها هذه الكتابة...