دائما ما تراودنا الأسئلة المكونة من مزيج من الفضول و الشك البشري و الإيمان بالله و بدينه الحق !

فالسؤال الأهم هو دائما ما وضع قبله أداه الاستفهام "لماذا" , فلماذا نصلي و لماذا نركع و نسجد , و هل يستفيد خالق هذا الكون الشاسع و السماوات و الأرض شيء حين نسجد له , مثل هذه الأسئلة تضع الحد الفاصل بين تطبيق الدين فقط و تطبيقة عن فهم و اقتناع و إيمان حقيقي بقلب مطمئن .

القرآن بطبيعته مليئ بالكنوز الدفينة التي لا تظهر إلا مع التدبر و التكرار الكثير , ونحن بلا شك مأمورون بتدبر القرآن و قرائته و العيش معه و به , و كثيرا ما أتوقف أمام  سورة الفاتحة فهي حالة خاصة و فريدة من نوعها , فهي السورة الوحيدة التي فرض الله علينا أن نكررها سبعة عشر مرة يوميا و إلا نكون من المذنبين !  

إذا لابد من وجود شيء فريد في هذه السورة يجعلها بهذه الأهمية , و لكي نتعرف على هذا الشيء دعنا نتأملها مرة أخرى , توقف عن القراءة الان و راجع سورة الفاتحة في ذهنك و حاول أن تخرج بالفكرة العامة للسورة ,اسأل نفسك  ماذا تريد هذه السورة ؟؟ ثم أكمل القراءة .

قبل أن نعرف ذلك المكون الفريد في السورة دعني اخبرك بشئ تعلمه سلفا , لكن ربما نسيته مع صخب الحياة, هذه الحياة عبارة عن قرارات , كل شيء تفعله نابع من قرار و كل قرار تأخذه بداية من صنف الاكل الذي ستأكله مرورا بلون سيارتك و نوع الحاسوب و الهاتف الذي ستقتنيه حتى اختيار شريك حياتك و طريقة تربيتك لأبنائك, كلها اختيارات و دائما لك أنت القرار , شخصيا كنت أعاني لفترة طويلة في اتخاذ بعض القرارات المصيرية و التي كنت أجهل الصواب من الخطأ فيها , قابلتني مشكلة ما و لم اكن أعرف ما يجب علي فعله لحلها و هل الحلول المتوفرة أمامي جيدة أم ستؤدي الى نتائج سيئة في النهاية, فدائما ما توجد غريزة الشك الإنسانية التي تمنعنا من اتخاذ بعض القرارات !

و في حالة انغلاق الابواب هذه دائما ما نسعى الى الله فهو الوحيد الذي لا يغلق بابه أبدا أمام عباده , ففي سجدةٍ ما قررت أن أدعو الله ليرشدني الى القرار الصحيح , فدعوت الله بصيغِ كثيرة , "يارب ساعدني اخد القرار الصح" "اللهم سدد خطاي" "اللهم اعني على الحق" لكن لسبب ما لم أشعر بالراحة ناحية هذه الصيغ , لكني لم أكترث كثيرا للصيغة فالله مطلعٌ على القلوب و يعلم ما أريد دائما بدون صياغة ادبية للدعاء !

و في الركعة التي تليها , و أنا اقرأ سورة الفاتحة قفزت في عقلي و ترددت هذه الجملة "اهدنا الصراط المستقيم" ... و هذا هو جوهر السورة باختصار , لكن دعنا نحللها من البداية ..

تبدأ السورة ب <<الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ>> الحمد له و الشكر  على نعمه الكثيرة التي لم و لن نحصيها عددا و التي بسببها نحن هنا الان و نختار من بين العديد من الاختيارات.

ثم <<الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ>> الثناء على الله و وصفه بأسمان من اسمائه الحسنى , الرحمن و الرحيم , كأننا نطلب من الله أن يعاملنا بهذان الاسمان و أن يرحمنا و يعفوا عن ذلاتنا و يثبتنا على طريق الحق.

بعدها <<مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ>> في إشارة لأنه عالم الغيب و عالم ما كان و ما سيكون , و بالتأكيد , هو يعلم القرار  و الاختيار الصحيح الذي لابد لنا من اتخاذه في شتى المواقف الحياتية.

<<إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ>> أنت الوحيد يا الله الذي يعلم الاختيار الصحيح لذا ليس امامنا غيرك لنستعين به في رحلة الحياة الشاقة المليئة بالاختيارات , أنت فقط من تعلم القرار الصحيح.

ثم <<اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ>>  وهنا الدعاء الأعظم , الدعاء الذي  لابد لنا أن نكرره و نكرره طالما حيينا , طالما توافرت الاختيارات و القرارات , ندعوا الله أن يوفقنا للاختيار السليم , أن يعيننا عليه و يوصلنا إليه و يضعنا على الصراط المستقيم.

<<صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ>>  اهدنا الى الطريق مثل هؤلاء الناس الذي أعنتهم و ستعينهم على القرارات السليمة .

<<غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ>> و لا تجعلنا يارب مثل هاؤلاء الذين ضلوا الطريق و اتخذوا القرارات الخاطئة التي أودت بهم الى أسفل سافليين. 

هكذا فهمت ! لقد اتضح الأمر , نحن لا نكرر الفاتحة لأنها جزء من روتين يومنا بل لأنها الدعاء الذي يضعنا على الصراط المستقيم , يرشدنا الى قرار السليم , و مادامت القرارات قائمة و في يدنا فلابد أن تكون الفاتحة دائما على السنتنا و في قلوبنا .. 

و مما يثير العقل أيضا في هذه السورة العظيمة , أنها بصيغة الجماعة , اهدنا الصراط , و ليست اهدني الصراط , حتى و إن كنت تصلي وحدك او في جماعة , او حتى تقرأها على عزيز لك فقدته , تدعوا لك و لكل المسلمين , وهذا يفسر أيضا لما نقرأ الفاتحة على الأموات , لأننا نحاسب على اختياراتنا و قراراتنا , فندعوا الله ان يلهمنا القرار السليم و يعامل الأموات منا باسميه الرحمن و الرحيم .

و أيضا في الزواج !  فنقرأ الفاتحة في بداية الاتفاق على أي زواج كي يوفقنا الله تعالى لنصل للأختيار الصحيح و يهدينا الى الصراط المستقييم و الاختيار السليم. 

دائما تجدها... في صلاتك 17 مرة يوميا , في الزواج و في الموت .. الأمر كله يتعلق بالقرارات و نتائجها !

ففي المرة القادمة عزيزي القارئ  حين تحتار و تتردد في اتخاذ قرار , توقف للحظة , و أقرأ الفاتحة , أقرأها بوعي و بقلب عطش للحق و الاستقامة , ثم ثق في اختيار الله لك و توكل عليه ...