‎أوشك أن انتهي من قراءة ستين كتاب في عامين معظمها أعيد قراءتها على فترات متباعدة لا يعني هذا أنني لم يسبق لي القراءة من قبل مثل هذا العدد ، ما نقرأه في مرحلة عمرية معينة ينتهي إلى كونه ذاكرة مؤقتة لكل مرحلة ما تنتهي بمرور الوقت بحاجتك الملحة للتغيير ،  لا أعرف لماذا تعيدني القراءة لكتبي المفضلة للبقاء معي ، لدفء داخلي و سعادة خفية ، ربما لأنني أخاف أن أنسى شعوري بها أخاف أن تحتل كتب أخرى مكانها ، أخاف أن تأخذني القراءة لغيرها بعيداً عنها ،و ربما لأنني أتذكر كيف كانت تلازمني منذ وقت ، تحملتني ، تحملت كل ما مررتُ  به ، تحملت طيشي و بكائي على صفحاتها و تركها لأيام وحدها مهملة ، و ربما لامتناني العميق لها لكم رافقتني و بقيت معي و بقيت معها أحدثها كلما شعرت أنني اسقط بعمق في صمتي ، وحدها الأشياء التي لا نشعر بها تهطل بغزارة حين تجف ذاكرتنا.

‎لم تكن القراءة في طفولتي تعني لي الشيء ذاته الذي اشعر به الآن حيث نشأت في بيت جدي ، الرجل الذي جاهد كثيراً ليكون والدي في حين كان والدي يهتم كثيراً بتدبير شؤون المنزل ظنًا منه بأن الأيام كفيلة بتربيتنا ، لقد علمني جدي أمور كثيرة ، علمني كيف اضحك في الوقت التي تتسع فيه الحياة للحظة خارج الصورة و كيف ابكي كلما هزمني ضعفي و استولى عليّ خوفي ، علمني أن الحياة قد تكون بتأمل السماء أو أغنية ما تعلو فيها صوت دقات قلبك، لم تكن آنذاك الحياة هي التي أرجوها لكنني بقيت كثيراً معي وحيدة في طفولتي أتأملني من بعيد و اتوسط الصور العائلية بهدوء يكاد لا يُرى ، علمني جدي لعبة الكيرم و الضومنه و كيف أحدد  أهدافي  و أتخلى بالصبر و لا ابكي مهما هزمني الشخص الغريب الذي يسميه جدي صديقه محمد و أن لا أظهر ضعفي حتى و إن كانت مجرد لعبة ، و حين بلغت العاشرة من عمري علمني جدي القراءة ، كان كثيراً ما يقرأ لي من العبرات والنظرات المنفلوطي و كنت أجلس مبهورة بما يقرأه لي رغم أنني لم أكن لافهمه ، لم تكن قراءة جدي جيدة كان كثيراً ما يقفز عن الأسطر أراه يرفع الكتاب في وجهه يدقق في كل كلمة يتعرق ، ثم يرجع راْسه للخلف و فجاة يقفز عن السطر .

‎جدي الصديق الذي لازمته منذ طفولتي لازمته بقدمين و ضحكة عذبة لم تتلاشى حتى بعد أن أصبح لديه قدم واحدة ، كنت أُلازمه في غرفته،عالمنا أنا و هو، كثيراً ما تخليتُ عن طفولتي للبقاء معه اخاف أن يبقى صديقاً للسقف و أن يفقد قدرته على تحملي رافقته في جلوسه مع أصدقاءه الغرباء العاديون كانوا يتحدثون في أمور كثيرة و كلما نظر لي الشخص الغريب اتشبث بيد جدي و اغمض عيني أخافهم كثيراً و انتظر ريثما يحين دور جدي  فاتشبث به أكثر و كأنني أقول لهم أن هذا الرجل يخصني وحدي و أنني لا أراكم .


في المساء أبقى برفقة جدي  لساعات طويلة نستمع للست أم كلثوم و عبد الحليم  كنت أنصت فقط بأمر منه و أتضجر مع كل مرة تعيد فيها الست "هات عينيك تسرح في دنيتهم عنيا ، هات ايديك ترتاح للمستهم ايديا " ، بمرور الوقت كنت أنا التي تحرص على هذا الكوبليه و تبتسم كما لو أنها تملك الدنيا من أجل أغنية ما ، كنت اطيل التأمل في وجه جدي على رغم ابتسامته إلا أن حزنه يسكن في تفاصيل عمره ،   اخبرني جدي بالكثير من الأمور عن الموت ما تكفي لأن تسكن في مخيلة طفلة تخاف أن تنام وحيدة في غرفة مظلمة، في البدء كان يدفعني الفضول لأن اقرأ الكثير من الوحدة و اللاشيء ، لم أكن أحب مشاركة اخوتي اللعب كنت أراني أكبر من ألعب معهم رغم أنني كنت أوسطهم عمراً  .

كنت اقرأ ما أجده في متناول يدي و كان جدي لا ينهاني عن قراءة الشعر كما يفعل والدي ، كان يُعينني بقدر المستطاع و يسألني على الدوام عن ما كنت اقرأ يحب أن أقص عليه ما اقرأ رغم كثرة أخطائي و تعثري في القراءة ، لكنه في الغالب لا يستطيع أن يجيب عن كل أسئلتي التي تتعلق بما لا افهمه مما اقرأه ، لم تكن لدي غرفة خاصة و كلما رغبت في القراءة أجلس تحت النافذة في غرفة جدي أو في الشرفة التي تحذرنا أمي من الأقتراب منها خشية أن نسقط، تعلمت آنذاك أن اقرأ وحدي ، أرفع صوتي بالقراءة تارة ليلاً كي لا أخاف من الظلام  و اخفضها تارة اخرى لكي لا تسمعني أمي ، كنت أشعر بالوحدة و إذا ما قرأت أصبح كثيرة عليّ ، كثيرة على أن أصلنيّ بمعنى واضح لما اقرأ ، و غالباً ما أضع خط تحت الكلمات التي يصعب عليّ فهمها و ما أن انتهي من قراءة الصفحة أعيد قراءتها على مهل ، ابحث عن معنى الكلمة وسط الكلام أركبها في جمل متعددة و غالباً أفشل في فهمها ، أقول في الصباح سيسهل عليّ فهمها إذا ما سألت عن معنى لها ، أتجاهلها لصفحة اخرى حتى إذا ما انتهيت من القراءة أجمع الكلمات التي تحتها خط و أكتبها في دفتري و اضعها في حقيبتي المدرسية لرغبة مني بسؤال معلمتي عنها ولكنني انتهي كعادتي للسكوت ، أو ربما لخوفي من أن تصرخ في وجهي كما تفعل مع البقية ، كنت أكبر في العمر وتكبر كلماتي معي كلما قرأت من مكتبة جدي الصغيرة و التي لم تكن مكتبة فقط أربعة كتب في حالة رثة ملقاة فوق جهاز التلفاز لكنها كانت تعني لي الكثير ، أكبر و تكبر رغبتي في قراءة كتاب ما يعلمني معنى للكلمات التي تحتها خط ، معظم كلماتي كانت مما قراته في سن العاشرة و حتى الثانية عشر من كتب جدي من شعر نزار و عبرات المنفلوطي و ألف ليله و ليله ، حين بلغت الخامسة عشر أهداني خالد مجموعة جديدة من الكتب حملها في حقيبة سوداء جاء بها من الأردن شعرت حينها بالفرح ، بالمسؤولية التي يمكن أن يتحملها عبء قارئ ما إذا ما تخلى عن كتبه المهداة و أهملها وحيدة على رف ما ، اصبح لدى عشرات الكتب ما قرأته انتهى للفوضى تمزقت أوراقه و أصبحت معظمها بلا غلاف و ربما كنت امزق أغلفة الكتب التي اقرأها عمداً ظناً مني بأنها ستبقى في ذاكرة ، كم اكره حماقاتي و أبغض معظم أحلامي ،  أذكر أيضاً أنني توقفت عن جمع الكلمات التي تحتها خط و أصبحت اقرأ لأتخلص من شعوري بالوحدة أو ربما لأشعر بالانتماء لشيء ما ، كنت أبقى في مكتبة المدرسة فترة الاستراحة في البداية كنت أتأمل عناوين الكتب التي في الرف الأعلى ، و كانت مساعدة المكتبة في كل مرة تخبرني بأنها لا تناسبني اجلس على الطاولة في يدي قصة ملونة لطفلة و اكتفي .

لقد جعلتني القراءة بلا أصدقاء وحيدة اتعلثم كلما حدثني أحدهم

كلما سألتني معلمة الصف هل تشعرين بالسوء حيال شخص ما ؟

معلمتي التي أقنعت والدتي بأنني احتاج لمعالجة نفسية إذا ما استمريت على بقائي هكذا بدون أصدقاء و بصحبة كتاب.

 كانت أمي تخبر الجميع بأنني اقرأ و أن القراءة ليست إلا عادة سيئة تعلمتها من جدي ، و أنني أخاف الناس كثيراً منذ طفولتي و أخاف من أن تسقط الشمس فوق رأس أمي كلما رافقتني في الصباح للمدرسة ، أمي تحاول جاهدة لسنوات عدة أن تصحبني معها في المحاضرات الدينية و التجمعات النسائية، والعائلية ظناً منها أنني سأصبح أفضل و أنني سأتخلص من عزلتي ، لم تكن حاجتي للكلام آنذاك كافية لجعلي أتصرف وفقاً لما تريده أمي ، كنت أصرف نصيبي من الحضور  نحو وجوه الأطفال ، للحلوى ، للتلوين و التفكير فيما وراء نافذة الغرفة التي أجلس بها رغماً عنيّ ،  الطفولة كل ما كنت أريدها يوماً أن تعود، أن أعود لما كنته للحياة التي أحب و الحياة التي تخليتُ عنها و ما ظننتني يوماً سأكبر لهذا الحد  .

‎في طفولتي قرأت ستة كتب كانت بمثابة عالم لي و في الخامسة عشر قرأت الكثير ما لا يمكنني حصره في عدد معظم ما قراته كانت روايات بوليسية و روايات الجيب و مجلات ثقافية و معرفية ، كنت اقرأ بشغف طفلة تفتح في كل كتاب نافذة للعالم ثم تعود لتحدق في سقف شعورها بالوحدة و ضعف صوتها ، الآن اشعر كمن وجد اخيراً ما كان يبحث عنه ، ما كان يرجوه منذ وقت ، ما يجعلني سعيدة كلما قرأت كتاب يتحدث عني ، للتحدث معي، للتحدث عنه في كل مناسبة ما ، لصديق ما أو عابر سبيل ، اشعر بالامتنان لكل مراحل عمري لكل كتاب علمني يوماً أن أكون صديقتي المقربة ، لطفولتي التي أريدها أَن تعود كلها ليّ ، للحياة التي دفعتني للقراءة كلما شعرت بسوء ما يملأني بها ،  الآن أنا اقرا بطريقة مختلفة و اتساءل كم يلزمني من عمري لأكمل كل ما رغبتُ  يوماً في قراءته،كل ما تركته مهمل لوقت ما ؟