إن في تاريخنا العراقي  القديم والمعاصر  مظاهر سلبية ومنكوسة جاءت الينا  مع المحتلين والغزاة والمهاجرين و الوافدين ؛ ومن هذه المظاهر : ظاهرة ذم واحتقار اهل الارياف والفلاحة من المواطنين العراقيين . 

ومن العجب ان يعير العراقي الاصيل ب مناقبه الحضارية وفضائله الاخلاقية ؛ فهل يوجد اشرف من العمل واستعمار الارض وزراعتها بما لذ وطاب من الاطعمة والاكل من كد اليد وعرق الجبين  ؟!

فقد ذكر في دراسة علمية حديثة نشرتها مجلة ساينتفيك ريبورتز Scientific Reports -إحدى دوريات نيتشر في شهر يناير عام 2022 أنه قد توصل باحثون في جامعة روتجرز الأمريكية بقيادة الباحثة إليز لوجير -عالمة الآثار البيئية وزميلة ما بعد الدكتوراه في مؤسسة العلوم الوطنية في كلية الآداب والعلوم في جامعة روتجرز - نيو برونزويك- إلى اكتشاف مهم في التأريخ البشري للزراعة؛ وهو اكتشاف أول دليل قاطع على وجود نوع من حبوب الدخن يسمى Broomcorn millet في العراق القديم، مما يمثل تحديًا لفهم الممارسات الزراعية المبكرة للإنسانية.

الزراعة في بلاد الرافدين

مما نعلمه أن بلاد الرافدين هي المنطقة التي يجري فيها نهري دجلة والفرات وتقع في العراق وأجزاء من سوريا وتركيا، كما تعد من أولى المراكز الحضارية في العالم؛ إذ إن أشهر حضاراتها هي حضارة سومر وآكد وبابل و آشور وكلدان وجميعهم نشأوا على أرض العراق.

ولقد كان للزراعة مكانة هامة في الحياة الاقتصادية لبلاد الرافدين، كما هيأت الأرض الخصبة والمياه الوفيرة خاصة -في المنطقة الوسطى والجنوبية من البلاد- قيام تلك الحضارات، حيث سمّى العرب العراق بأرض السواد؛ لكثرة زرعها، وتقول المصادر التاريخية أن العراقيين الأوائل اكتشفوا الزراعة ومارسوها منذ العصر الحجري الحديث، كما يشهد التأريخ أن البابليين أقاموا السدود وبنوا الخزانات ومصارف المياه وقاموا بشق القنوات التي استخدمت في الري، وكوسيلة للنقل والمواصلات؛ وذلك من أجل التخفيف من وطأة الفيضانات، بالإضافة إلى أن القنوات قد كانت تحمل الماء إلى أطراف الحقول والمراعي.

ومن أهم المحاصيل الزراعية التي عرفها البابليون الحبوب كالذرة والقمح والشعير، والتمور والفواكه المختلفة والخضروات والسمسم والزيتون، كما زرعت الحبوب والمحاصيل المختلفة في مساحات صغيرة حول المدن، بالإضافة إلى زراعتها على أراضي واسعة تابعة للمعبد أو للقصر الملكي وتتولى جمعيات زراعية إدارتها والإشراف عليها... . (1)

فالشغل وبذل الجهد لاستصلاح الارض واعالة النفس والاهل والاقارب  ؛  خلق من الأخلاق الفاضلة ، وسجية من السجايا الكريمة ، تدل على سلامة القلب ، وطهارة النفس ، ونقاء السريرة ، كما أنها تدل على قيمة من أعظم القيم  العراقية الحضارية الا وهي العمل فمن لا يعمل لا شرف له كما قيل  ، أما عدم  العمل والكسل والاستجداء والسرقة والغدر والفتك بالأبرياء والغزو كما يفعل الاعراب واجلاف الصحراء والتنكر لأهل الجميل والمعروف ؛  فإنه خلق خبيث  يدل على خسة النفس ولؤم الطبع ، فالأول من الأخلاق  الراقية الملائكية ، والثاني من الأخلاق الهابطة الشيطانية ، وشتان ما بين الخلقين0

وقد توارث الاعراب ومن لف لفهم من الهمج  والرعاع هذه النزعة الجاهلية بل وقد تأثر بها اهل العراق الاصلاء ايضا فيما بعد ؛ وهذه النزعة الشاذة عن الفطرة الانسانية السليمة تكشف عن العرقية والعنصرية ايضا , مع العلم ان الاسلام لاسيما بنسخته العراقية الحضارية أكد على ان سباب المسلم فسوق ، وتعييره موجب للعقوبة التعزيرية ؛ والتعيير بالأنساب والاقوام والاعمال والاشغال : فسوق وانحراف  وجاهلية ...  اذ نهاهم الاسلام عن ذلك وجعل مقياس الفخر التقوى وكرائم الأعمال ومكارم الاخلاق . 

ولكن من عادات الغزاة والمحتلين الافتخار على الاقوام والامم المغلوبة وتعييرها ونبزها بأسوء الالقاب  ؛ وكما قال المثل الجنوبي العراقي : (( حجي الغالب على المغلوب يرهه )) ؛ فقد كان الاعراب الغزاة يعتقدون ان اراضي العراق الخصبة اراضيهم والفلاحين فيها بمنزلة الخدم لديهم  ؛ الا ان طبع العراقي يأبى الانصياع والخضوع وطالما اتعب طبعه الطغاة والحكام .

وكان الفلاحون  يمثلون السواد الاعظم من الشعب العراقي  في القرن الهجري الاول , و كانوا موضع احتقار الغزاة العرب والاعراب ؛و لاسيما في عهدي الخلافة الراشدة والاموية , ولعل المقولة التالية للمؤرخ والمفكر ابن خلدون  عن الفلاحة , تسلط الضوء على هذه الحقيقة المرة : (( انها معاش المستضعفين ويختص بها اهل المذلة )) (2) , وقد بلغ احتقار المنكوسين ومن لف لفهم للفلاحين العراقيين ووصفهم بالجهل والتخلف وخشونة الطبع ؛ أن ألف  كتبة  الخط المنكوس العديد من القصص الخيالية والحكايات المزيفة  التي تهدف الى ذم الفلاحين العراقيين والصاق كل نقص ورذيلة بهم , وقد تفوه المنكوسون بشتى عبارات الشتائم والقذف والفحش بحق هؤلاء الفلاحين الشرفاء الذين يأكلون من عرق جبينهم ويطعمون ابناء جلدتهم ؛ وطالما تعرضوا للنهب والسلب ومصادرة الاراضي والجهود من قبل السلطات الجائرة المنكوسة , والغزو من قبل الاعراب  - في القرون الثلاثة المنصرمة الاخيرة - الذين كانوا يعيشون على هامش القرى وفي الاطراف البعيدة ويكونون مجتمعا خاصا بهم يتسم بالترحال وعدم الاستقرار وعدم الخضوع للسلطات الا في حالات معينة  .

وبعد الاحتلال العثماني صارت كلمة "عربي" مرادفة للانحطاط ؛ و شاعت عبارة : ( عرب جول ) بينهم وبين عبيدهم وبقاياهم ومماليكم وجواريهم وغلمانهم ؛للدلالة  السلبية على العرب الاصلاء وسكان البلد القدامى من العراقيين  ؛ قلت مرارا وتكرارا ان عرب العراق يختلفون اختلافا جذريا عن عرب واعراب باقي البلدان ...  ؛ وقد اتسمت نظرة الأتراك للقبائل العربية والعشائر العراقية  بالريبة والاحتقار، فدرج موظفو الإدارة العثمانية على ذمهم  وشتمهم . 

وكانت قبائل وعشائر العراق للعثمانيين بالمرصاد ؛و كان عصيان العشائر العراقية  مشكلة  عويصة  لا حل لها ، فهي بطبيعتها القتالية  والبدوية  تتنقل من مكان الى آخر، ولا تصبر على الضيم بحكم تقاليدها ، إضافة لكره هذه العشائر العراقية الابية  للتسلط الأجنبي ؛ لذلك اتبع العثمانيون سياسات عديدة ومتنوعة وخصوصا مع قبائل الجنوب العراقي التي تختلف معها في المذهب لفرض الهيمنة التركية عليها، ومن جملة هذه الأساليب والسياسات :

أولا: فرض ضرائب مالية ثقيلة على العشائر : 

كانت العشائر العراقية تمتلك ثروة مالية ضخمة تتمثل بقطعان كبيرة من المواشي والجمال والخيول بالنسبة للقبائل البدوية ، بينما كانت الأراضي الزراعية تنتج مقادير هائلة من الحبوب كالحنطة والشعير وغيرها من المنتجات الزراعية بسبب سعة الأراضي وخصوبتها ووفرة المياه وسهولة السقي في الجنوب العراقي ، ففتحت هذه الثروات الطبيعية بعوائدها المالية الضخمة شهية الولاة العثمانيين السراق الفاسدين ، فأخذوا يسعون جاهدين لملئ جيوبهم منها من جهة ، ودفع ما تبقى الى مركز الخلافة العثمانية في اسطنبول ، حيث كان بقاء الوالي كحاكم على العراق مرتبطا بمقدار ما يدفع من أموال الى مركز الخلافة ، وبتعبير مختصر: البقاء لمن يدفع أكثر .

ومن الطبيعي أن تأمين هذه الأموال الكثيرة لا يتحقق إلا بفرض ضرائب مجحفة على الأفراد والعشائر العراقية ، وقد تنوعت هذه الضرائب  الباطلة والمجحفة في مسمياتها ، ففرضت ضريبة على الإنتاج الزراعي ، وكانت هذه الضريبة على الورق وفي القانون هي العشر ، بينما كان الولاة العثمانيون المجرمون  يستوفون خمس الإنتاج ، وتتعدى ذلك أحيانا الى تقاسم الحكومة الاجنبية الغاشمة  المزارعين العراقيين إنتاجهم مناصفة ، وربما أخذت ثلثي الإنتاج أحيانا.

ولم يكتف العثمانيون المحتلون  بهذا النهب المنظم للثروة العراقية ، فكانوا يلجئون أحيانا أخرى لإحصاء الأشجار ووسائل الري وفلاحي المنطقة لتقدير تلك الضريبة ، أو يتم التقدير على أساس المساومة على مبالغ مقطوعة. 

وكانت خطورة هذه الضرائب تكمن في كونها اعتباطية تخضع لمزاج وهوى المخمنين الفاسدين ، فقد كانت الدولة العثمانية ترسل شخصين أو ثلاثة لتخمين مقدار الحاصل الزراعي المنتج من هذه الأرض أو تلك  , وعرف ذلك (بالخرص) ، ثم توضع المنطقة الزراعية في عهدة شيخ عشيرة يلتزم بدفع مبالغ مالية بمقدار المال المخمن مقابل تعيينه شيخا للعشيرة وعرف ذلك بمبدأ الالتزام ، ومن الطبيعي أن ظلما فاحشا كان يقع على الفلاحين ، فربما لا يفي الحاصل المنتج مع المقدار الحاصل المخمن مما يضطر الفلاح الى شراء محاصيل من مناطق أخرى للخروج عما بعهدته من الالتزام ، وبالتالي يعمل طوال السنة في الأرض ليخرج بعدها مطلوبا للحكومة العثمانية الجائرة، وقد بلغ التزام منطقة الهندية جنوب كربلاء مثلا عام ١٨٨٤م : (١٧٨٠٠ ليرة) ، ولم يشبع هذا المبلغ الكبير نهم الولاة العثمانيين الفاسدين ، فعهد التزام المنطقة في السنة التالية الى شيخ زبيد على مبلغ قدره :  (١٠٥٠٠٠ ليرة). (3) 

وإضافة الى الضريبة الزراعية كانت الدولة العثمانية تتقاضى من القبائل ضرائب  مجحفة أخرى منها : ضريبة البيتية حيث تستوفي بموجبها خمسون قرشا ذهبيا سنويا عن كل بيت أو كوخ تسكنه عائلة واحدة ، ويتضاعف المبلغ حين تشغل البيت أكثر من عائلتين ، كما تستوفي ضريبة على المواشي مقدارها نصف مجيدي في السنة عن كل رأس من الجمال والخيل والبقر والجاموس ، واثنا عشر قرشا عن كل رأس من الغنم والماعز والحمير. (4) 

ويذكر العزاوي في كتابه العراق بين احتلالين- ( ج٧ ص٢٠٤ ) - : أن واردات البصرة وحدها كانت تبلغ سنويا ٤٨ حملا من النقود ، ثم بلغت بعد سنوات ٧٠ حملا ، ثم تجاوزت هذا المقدار في السنوات اللاحقة ، وقد كان لفرض هذه الضرائب المالية الثقيلة على العشائر العراقية عدة أهداف :

  • ملئ جيوب الولاة العثمانيين الفاسدين وموظفي دولتهم المرتزقة ، وضمان بقاء الوالي في السلطة بقدر سخاء يده مع السلطان العثماني ونفاسة ما يقدمه للسلطان من هدايا .
  • إضعاف العشائر اقتصاديا ؛ لشغلها عن مقاومة الاحتلال العثماني بالكدح سعيا وراء لقمة العيش .
  • محاولة دفع العشائر خارج حدود العراق الى البلدان المجاورة للتخلص من العنصر الشيعي في جنوب العراق واحداث التغييرات الديموغرافية لصالح مذهب الدولة العثمانية ولعل هذا السبب الرئيسي الذي دفع العثمانيون الى التنازل عن الاحواز العراقية الشيعية لإيران .

٤- اتخاذ استيفاء الضريبة المجحفة والظالمة  وسيلة وذريعة لضرب القبائل وتدميرها عسكريا ، لقتل أبنائها وتحطيم إمكانياتها البشرية والاقتصادية ؛  لئلا تشكل خطرا على السلطة العثمانية في العراق ، ومن شواهد ذلك ما ذكره العزاوي في كتابه العراق بين احتلالين – ( ج٥ ص١٦٤) – اذ  قال: (( في سنة ١١١٦هـ_١٧٠٤م غزا الوزير (الوالي العثماني على بغداد)  عشائر بني لام ؛ لأنها لم تذعن بالطاعة ، ولا أدت التكاليف المطلوبة ، وهي من أقوى العشائر شكيمة وتقع حجر عثرة في الطريق بين بغداد والبصرة ، ومن أيام سليمان القانوني الى اليوم لم تذعن للولاة (ويقصد أنها لم تذعن للاحتلال العثماني منذ دخول العثمانيين الأتراك الى العراق) ، ولما قصدهم الوزير لم يجد لهم أثرا حيث التجئوا الى جبال اللر الإيرانية ، فتتبع الوزير أثرهم الى هناك ، فأوقع بهم وقعة قتل منهم الكثير ونهب أموالهم)) .

وقال في ( ج٦ ص١١٢)  في حوادث سنة ١٢٠٨هـ_١٧٩٣م:  (( لم يؤد محسن المحمد شيخ الخزاعل الميري (الضريبة) ولا المعينات التي عليه، فأرسل الوزير (الوالي) عليه أحمد الكهية (قائد الجيش التركي أو الموظف الأكبر في الحكومة العثمانية في بغداد) فتحرك بقوة كافية من بغداد وتوجه نحو الحسكة (الديوانية حاليا)، وأقام التدابير اللازمة لحصار العشيرة، فاضطروا الى المصالحة ودفع مبالغ الرسوم، وأخذ الكهية منهم رهائن وعاد الى بغداد)) .

وقال في الجزء المذكور ص١٣٨ في حوادث سنة ١٢١٤هـ_١٧٩٩م: (( وتمرد الدليم عن أداء الميري فاقتضى تأديبهم ، فسار الكهية نحوهم وعلم الدليم بالأمر، ففروا وذهب معقبا طريقهم الى أن وصل الى جبة ، وهناك عثر على أغنامهم ومواشيهم وتبلغ نحو عشرين ألف رأس غنم فانتهبها وعاد بغنيمة باردة الى الفلوجة ))

وفي الجزء المذكور ص١٦٩ في حوادث سنة ١٢٢٠هـ_١٨٠٥م: (( تمنع شيخ بني لام عرار العبد العال عن أداء الميري ( الضريبة ) ، فاقتضى استفاؤها ، فمضى جيش الوالي التركي للوقيعة ببني لام ، فتفرقوا في الأنحاء ، فأغار على بعض الأعراب منهم فغنم منهم اثنا عشر ألف رأس غنم ، ثم أغار على عشائر المقاصيص (المكاصيص) فنهب منهم اثنا عشر ألف رأس غنم وأرسلها عن طريق جصان الى بغداد ، ثم أغار الكهية على المعدان في الهور واغتنم مقدارا من الأغنام المواشي ، ثم هاجم ربيعة فأخذ منهم أموالا وأخذ بعض شيوخهم رهائن)) ؛  وهذه القصص  والجرائم والجرائر فيض من غيض فقد نهب الأتراك المجرمون ومرتزقتهم الفاسدون  ثروات وخيرات  العراقيين بهذا الشكل  طيلة أربعة قرون عجاف من حكمهم الاسود الغاشم . 

ثانيا: تحطيم المكانة الروحية لشيوخ العشائر : 

يعتبر شيخ العشيرة الركن الأهم فيها ، لأن أفرادها يردون ويصدرون عن أمره ، ويمثل الشيخ والى يومنا هذا مرجعية اجتماعية للعشيرة في حل الخلافات وفض النزاعات ، وتوجيه سلوك العشيرة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وقتذاك ...، وكان لشيوخ العشائر العربية والعراقية ومنذ  التاريخ القديم و العصور الجاهلية سلطة كبيرة على أفرادها ، فإذا غضب الشيخ غضبت له كل العشيرة لا يسألونه فيم غضب ؛ فكرامة الشيخ من كرامة عشيرته وكرامة العشيرة من كرامة زعيمها .

وقد انتهج العثمانيون المحتلون سياسة خبيثة مزجت السم بالعسل تجاه شيوخ العشائر نظرا لحساسية دورهم الاجتماعي، ومكانتهم الروحية والمعنوية في نفوس أبناء قبائلهم، فسعوا الى إضعاف تلك المكانة الروحية التي يتمتع بها الشيوخ في نفوس أتباعهم، ومن الأساليب التي انتهجها العثمانيون لتحطيم مكانة شيوخ القبائل :

  • التدخل في تعيين شيخ العشيرة : 

كانت للعرب ومنذ العصر الجاهلي معايير وقيم أخلاقية واجتماعية خاصة يتم على ضوئها إناطة زعامة العشيرة بهذا أو ذاك من أبنائها وكذلك اهل العراق الذين يعدون اباء العرب وجماجم قبائلهم ، فلم تكن زعامة العشيرة تنال اعتباطا من قبل هذا الشخص أو ذاك بل لصفات ومؤهلات يحملها الشخص ، ومن أهم هذه القيم : الشجاعة والحكمة والفصاحة والكرم والحلم وغير ذلك من القيم الأخلاقية التي كان على أساسها يتولى الأشخاص مشيخة العشيرة أو زعامة القبيلة او رئاسة البيت والعائلة .

وقد سعت السلطات العثمانية الى تدمير القيم والتقاليد العشائرية المتبعة عند العرب فدأبت على تعيين الشيوخ الأكثر خدمة لمخططاتها، وهذه السياسة وإن كانت قديمة انتهجها الولاة الأمويون ثم سار عليها غيرهم من السياسيين، إلا أن العثمانيين أغرقوا في هذه السياسة حتى صارت مشيخة العشيرة تباع في المزاد العلني ، فعلى سبيل المثال: (( جرت في سنة ١٢٧٧هـ  أيام ولاية توفيق باشا على العراق مزايدة علنية علی مشيخة المنتفق بين الشيخ منصور والشيخ بندر ، فأسندت الی الأخير ببدل سنوي قدره : (٤٩٠٠)  کيس ، والكيس : (٥٠٠) قرش.)) - (المصدر السابق:٧/١٣٢) - .

فإذا وصل الأمر الى شراء المشيخة من الباشا العثماني ، فأي قيمة روحية أو معنوية بقيت للشيخ ؟!  وكان من نتائج هذه السياسة التخريبية :

  • وصول شخصيات فاقدة للكفاءة الى سدة مشيخة العشيرة فأدى ذلك الى ضعف دور العشيرة السياسي والاجتماعي ؛ الا ان العشائر قد تنتفض ضد هذا الشيخ او ذاك , ولعل الشيوخ الذين نصبهم المجرم الهجين صدام في عقد التسعينات من القرن المنصرم من اوضح الامثلة المعاصرة ؛ حتى صاروا مادة للسخرية والتندر والاستهزاء من قبل العراقيين وابناء العشائر واطلقوا عليهم لقب : ( شيوخ التسعين ) . 
  • تباري بعض الشيوخ الطامحين في الزعامات لإرضاء ولاة المحتل الأجنبي التركي، مما أفقدهم الروح الوطنية، حيث فضل بعض الشيوخ مصالحه الشخصية على مصلحة أبناء عشيرة وأبناء وطنه، خصوصا في الحالات التي كان يضع شيخ العشيرة عشيرته تحت تصرف المحتل العثماني لضرب ثورة عشائرية أو قمع حركة تحررية ، كما حصل في الثورة المشتركة للخزاعل  وشمر و زبيد زمن سعيد باشا بن سليمان الكبير عام ١٢٣١هـ_١٨١٦م ، فقد جاء هذا الوالي الى الحكم بجهود  حمود الثامر السعدون وعشائر المنتفق بعد معركة غليوين قرب سوق الشيوخ ومقتل الوالي عبد الله حيث تسلم سعيد ولاية بغداد -  (انظر: مطالع السعود: عثمان بن سند البصري:٢٧٨ وما بعدها) - ، وكان ينتظر الفرصة لشفاء غليله من الخزاعل حيث أنهم لم يذعنوا بالطاعة للعثمانيين منذ زمن علي باشا ١٢٢٢هـ  ؛  قال العزاوي في العراق بين احتلالين (٦ /٢٢٦) : (( إن الخزاعل لم يبد منهم ما يبرر القيام بالمخاصمة، وإنما مر بهم جاسم الشاوي أخو شيخ العبيد عبد الله الشاوي فلم ير توجها من شيخ الخزاعل سلمان المحسن ولا حفاوة فأضمر له الغيض، وفي هذه الأثناء ورد كتاب من شيخ من الخزاعل منافس للشيخ سلمان يفيد بأن سلمان عاث بالأمن فسادا ، فكانت هذه نعم الوسيلة لتبريد غلة الوالي سعيد باشا (وفي ص٢٢٧ من المصدر المذكور) : (( وحينئذ طلب الوزير (سعيد باشا) من حمود الثامر شيخ المنتفق للسفر على الخزاعل ، فجهز جيشا عظيما ووصل الى أنحاء السماوة ، وطلب الوزير من كل العشائر المعاكسة للخزاعل وشمر للمشاركة في الحملة فجاءته عشائر الظفير والعبيد والرولة من عنزة ، وتقابل الفريقان في لملوم (قرب الديوانية) واشتعلت نيران الحرب ، فكانت الغلبة من جهة مناصري الوزير، وفي هذه الوقعة قتل بنيه بن قرينص شيخ شمر، وقتل من الخزاعل خلق كثير )) ، أقول : بل عملت إحدى القبائل كمرتزقة دائميين لدى الولاة العثمانيين، لا نود ذكر اسمها كرامة لأبنائها المعاصرين، ولكنه خطأ الأجداد وللأسف، وذلك ليس بعيب، فقد وقفت قريش بقضها وقضيضها ضد النبي  محمد ومن بعده الامام علي  وشنت عليه الحرب بعد الحرب فما بالك بغيرهما ؟!

٣_إثارة الشحناء والبغضاء بين الأشخاص الطامحين بزعامة العشيرة، فقد كانت سياسة الحكومة مصروفة (متجهة) الى تمكين النزاع بين أمراء العشائر، ولم تترك أحدهم بلا ضد أو رقيب- (العراق بين احتلالين:٧ /١٤٥)- .

وقد أدت هذه السياسة المنكوسة الخبيثة الى نتائج كارثية، حيث دخلت الأجنحة المتصارعة على الزعامة في العشائر في حروب ونزاعات لا حد لها ، وانقسم أبناء العشيرة الواحدة بطبيعة الحال على أنفسهم فمزق ذلك وحدة العشائر، وسفك بعضهم دماء بعض، وكانت الحكومة العثمانية تتدخل في حسم النزاع لصالح مرشحها فترسل الجيوش لضرب الأجنحة المعارضة، كما حدث عام ١٢٨٠هـ_١٨٦٣م  ؛ حيث تم تعيين فهد السعدون رئيسا على المنتفق فثارت ثائرة ناصر السعدون وانقسم  (المنتفقيون) على أنفسهم، وكانت عشائر المنتفق من أكبر التحالفات العشائرية جنوب العراق فسادت الفوضى، واستمد فهد  العون من الجيش العثماني فجاءت كتائب مدفعية من العمارة وقصفت المعارضين فقتل من قتل وهرب من هرب ، ثم أرسل الوالي العثماني حملة أخرى في السفن عن طريق الفرات ، فهاجمها المعارضون لتعيين الشيخ فهد وقتل قائد الحملة التركي ، فعزمت الحكومة على تأديب المعارضين فأرسلت حافظ بك مع قوة كبيرة، ضربت المعارضين ضربة قوية قاسية تشتت منها شملهم ، وحمل ناصر باشا الى بغداد وأجري له راتب شهري خاص ؛ أما ما يعبر عنه باللهجة العراقية (ولد الخايبة) من القتلى في هذه المعمعة فقد مضوا ضحية لسياسات المحتل التركي الخبيث.

٢_تعيين الشيخ موظفا لدى الدولة : 

قامت الدولة العثمانية في بدايات احتلالها للأراضي العربية بتنظيم قسم من العشائر خاصة الكبيرة منها تحت تنظيم خاص ، أطلق عليه اسم إمارة العشيرة، وسمي من تولى الإمارة فيها أمير العشيرة، وقد وجهت إمارات العشائر الى بعض الشيوخ مقابل خضوعهم للدولة ، ومشاركتهم بعشائرهم في الحملات العسكرية التي يقودها الباشوات العثمانيون على القبائل الأخرى، وأدوات لقمع الثورات التي تشتعل هنا أو هناك. (5)  

ثم تطور هذا الأسلوب حتى وصل الى تقليد شيخ العشيرة الوظائف المدنية، فعين الشيخ قائم مقاما، ومتصرفا (محافظ) ، كما حدث ذلك لشيوخ عشائر المنتفق من آل السعدون الذين طالما خدموا المحتل التركي ، ففي سنة١٢٨٠هـ وفي ظل ولاية محمد نامق باشا ، ألغيت المشيخة ونصب منصور السعدون الذي کان من أعضاء المجلس الكبير ببغداد، قائم مقاما في سوق الشيوخ ، لكن عشائر المنتفق ثارت ضد هذا القرار بزعامة ناصر أخو منصور، فسادت الفوضى من الحلة الی البصرة، مما اضطر نامق باشا الی التراجع عن قراره، وتعيين فهد السعدون شيخا للمنتفق - (العراق بين احتلالين:٧/١٤٥) - .

لكن الولاة العثمانيين لم يستسلموا لهذه الثورة ضد هذا الإجراء فعين ناصر باشا السعدون مرة أخرى محافظا للواء المنتفق (الناصرية)، ثم أصبح تعيين الشيوخ في الوظائف الحكومية أمرا مألوفا بالتدريج وكلهم من ابناء الطائفة السنية الكريمة بل ومن الغرباء والدخلاء واغلبهم ليسوا عراقيين اصلاء .

وبنظرة عابرة يتضح أن الهدف من تعيين شيوخ العشائر في الوظائف الحكومية كان يتلخص بما يلي :

أ_ إبعاد شيخ العشيرة عن هموم أبناء عشيرته ومشاكلهم وما يعانونه من الفاقة والفقر، وذلك عن طريق إتخامه بالمال ، فخصصت لهؤلاء رواتب كبيرة وسجلت بأسمائهم أراض واسعة لتزداد ثروتهم ، وكلما تضخمت ثروة شيخ العشيرة ضعفت مكانته في قلوب إتباعه ، بل كره أبناء العشائر هؤلاء الشيوخ المعينين من السلطة التركية المحتلة ؛ لاسيما الشيوخ من ابناء الطائفة السنية . (6) 

قال جون فريدريك في كتاب  قبيلة شمر العربية/  ص٩٦: (( حكم محمد بن فارس الجربا ١٢ ألف عائلة بصفته الرئيس الأعلى لشمر من قبل الحكومة ، وصرح رحالة أوربي أن فرق العبدة والأسلم والعليان وزوبع أيدت الشيخ محمد ، لكن في أواخر ١٨٣٧ أصبحت فرق متعددة مستاءة من الشيخ الذي تسنده الحكومة )) ؛  وقال الدكتور عبد الجليل الطاهر في كتاب  العشائر العراقية /  ص٦٩ عن طبيعة العلاقة بين عشائر المنتفق ومشايخهم من آل السعدون:  (( إن سكان تلك المنطقة من أبناء العشائر كرهوا الحكم العثماني، نقموا على كل من ناصره وخدمه ، فكيف الحال بآل السعدون الذين كانوا يمثلون الحكم العثماني المتفسخ، الذي أطلق أيديهم في التصرف بشؤون الناس وإدارة أمورهم حسب أهوائهم الشخصية )) .

ب_ ضمان ولاء الشيخ للسلطة العثمانية الجائرة وربط مصائرهم بمصيرها ، إيغالا في تدمير وطنية شيوخ العشائر المعينين من قبل السلطة العثمانية.

ج _استخدام هؤلاء الشيوخ المرتزقة من ابناء السنة  للترويج لسياسة التتريك التي انتهجتها السلطة العثمانية في العراق ،  وسياسة التتريك تعني : تحويل المجتمعات في مناطق جغرافية من ثقافتها الأصلية بما تشتمل عليه من عادات وتقاليد ولغة وثقافة الى الثقافة التركية بطريقة قسرية، فالعربي العراقي يجب أن يترك عاداته وتقاليده ولغته وثقافته الموروثة عن آبائه وأجداده، لصالح العادات والتقاليد واللغة والثقافة التركية، وبتعبير أيسر: أن يتحول العربي الى تركي في كل شؤون حياته من الملبس والمأكل والمشرب واللغة والعادات الاجتماعية والأخلاقية...، وهي ضربة خطيرة توجهها بعض القوى الغاشمة والمنكوسة  للمجتمع العراقي .  

إن عادات وتقاليد أي مجتمع من المجتمعات تشكل هويته الثقافية في إطارها العام، فلا يمكن تمييز المجتمعات وفرزها عن غيرها إلا من خلال عاداتها وتقاليدها، وحينئذ تشكل هذه العادات والتقاليد سياجا يحفظ للمجتمع هويته الثقافية الخاصة به، وقد واجهت سياسة التتريك مقاومة عنيفة من أبناء الشعب العراقي، فأي عربي يرضى أن يتخلى  عن الديوان، والقهوة، والدلة، والكوفية، والعقال ولسانه العربي... ليستبدلها بأزياء تركية ولسان اعجمي ؟!

إلا أن السلطات العثمانية أقنعت بعض رؤساء العشائر على تنبي هذه الثقافة الجديدة بدعوى التحضر والتطور كما صنع الغربيون عند احتلالهم للبلدان الإسلامية تماما، وقد أوجدت هذه السياسة مشاكل خطيرة في جسد القبائل العراقية وصلت الى الاقتتال والتذابح بين أبناء العشيرة والواحدة، بل بين أبناء الأسرة والواحدة، فقد تبني على سبيل المثال : الشيخ فرحان بن صفوك الجربا شيخ مشايخ شمر الثقافة العثمانية فدرس في المدارس العثمانية وتعلم اللغة التركية وتذوق العادات والملابس التركية وباختصار بدا متلائما مع الثقافة التركية، فعينه الوالي التركي نجيب باشا شيخا لشمر بدلا من أبيه صفوك - (قبيلة شمر العربية: ص٩٥)- ؛ في حين كان أخوه عبد الكريم متمسكا للعادات والتقاليد البدوية مبغضا للسلطة العثمانية المحتلة فانقسمت القبيلة على نفسها بعضهم يؤيد هذا وبعضهم يؤيد ذاك، واضطرب الأمن في الجزيرة الفراتية لعدة سنوات - (المصدر السابق:١٣٣، وانظر: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث: لونكريك ص٣٧١) - ؛  ويشبه ذلك ما جرى في المنتفق حيث اتبع الشيخ فالح السعدون السياسة العثمانية ، بينما كان الشيخ سعدون المدافع القوي عن الفكرة القائلة بوجوب الاحتفاظ بالقواعد والمبادئ العشائرية القديمة ، وقد هذا التنافر في قبول التتريك ورفضه الى فرار سعدون الى الشيخ مبارك شيخ الكويت لمعاداته للعثمانيين ، وتحول سعدون فيما بعد الى قاطع طريق ، وأثار حروبا كثيرة أشهرها حربه مع آل رشيد أمراء حائل في تل اللحم قرب الناصرية . (7)  

د_ تفتيت بنية العشيرة والقضاء على وحدة نسيجها الاجتماعي ، فالشيخ عندما ينال زعامة العشيرة برضا أبنائها ، يلتف حوله أبناء عشيرته ، ويقوي ذلك من وحدة نسيجها الاجتماعي، وأما إن كان الشيخ مجرد موظف عند دولة محتلة كالدولة العثمانية يأتمر بأوامرها ، فلا شك أن أبنائها يرفضون الائتمار بأوامره  ويبحثون بالتالي عن شخصية أخرى وتتعدد الاتجاهات في الشخص البديل مما يحول العشيرة الى شيع تتبع كل مجموعة منهم شخصا . 

ثالثا: سياسة إسكان العشائر : 

بالرغم من مدح العديد من الكتاب هذه السياسة التي اعتمدتها السلطات التركية في العراق، وإن عملية إسكان العشائر قد حولت أفرادها الى منتجين ملتصقين بالأرض بدل التنقل والترحل من مكان الى مكان ، وساهمت في استتاب الأمن بصورة أكبر، إلا أن العثمانيين لم يكن هدفهم من هذه السياسة إصلاح الأرض وتطوير القطاع الزراعي في البلاد ، بقدر ما كان يهمهم أن تكون هذه العشائر تحت قبضتها ، وفي متناول يدها ، فإن العشائر كان بإمكانها مهاجمة ثكنات الجيش التركي في أي مكان ثم تلوذ بالفرار الى مناطق الأهوار ذات الأحراش والمسالك المائية الصعبة حيث يتعذر على الجيش العثماني بعد ذاك ملاحقتهم ، أو يفرون هاربين الى الصحراء التي هم أعلم بطريقها ومواقع المياه فيها او الى الجبال الوعرة ؛ ولحل هذا المعضل جاءت فكرة توطين العشائر التي تفتق بها ذهن الوالي العثماني الشهير مدحت باشا الذي تولى الحكم في بغداد سنة ١٨٦٩م ، فقد جاء الى بغداد وفي جعبته ثلاث خطط لتحجيم العشائر وإضعاف دورها : العثمنة (سياسة التتريك) التي تحدثنا عنها فيما سبق ، وضرب العشائر المتمردة بقوة وشدة أكبر، وثالثها : إسكان العشائر، فقرر مسح الأراضي التي تتواجد فيها العشائر، ومن ثم بيع هذه الأراضي على الراغبين بشرائها ، وهذه الخطة تسهل على الدولة استحصال الضرائب أولا، وتمكنها من السيطرة على العشائر بصورة فعالة ثانيا، وتجنيد أبناءها في الحروب ثالثا. (8) 

لكن الحكم العثماني كان متفسخا، والفساد الإداري يملئ جدران دوائرها، مضافا الى فقر عامة المواطنين وعدم قدرتهم على شراء تلك الأراضي، وتحرجهم من التعامل مع الحكومة التي ظلمتهم سنوات طويلة، فسجلت تلك الأراضي في دوائر الطابو بأسماء شيوخ العشائر، وهكذا سلبت الأرض من أيدي الفلاحين الذين كانوا يعملون في أراضي أميرية ويدفعون ضريبة منها الى الحكومة ، و تحولت تلك الأراضي الى أملاك شخصية لشيوخ العشائر النافذين والذين قدموا خدمات للدولة العثمانية ، فأصبحت معظم أراضي جنوب العراق لآل السعدون الذين كانت تدعمهم الحكومة العثمانية ، لأنهم يتفقون معها في المذهب بالإضافة الى كونهم من المهاجرين حديثا الى العراق فهم ليسوا عراقيين ، حيث كانت السياسة العثمانية في العراق تقتضي تفضيل السنة  حتى وان كانوا غرباء واجانب ودخلاء على الشيعة ابناء البلد الاصلاء .(9)   

رابعا: ضرب العشائر بعضها ببعض :

وهي سياسة دأبت عليها كل الإدارات التركية المتعاقبة على العراق، والهدف منها جلي، وهو: إضعاف العشائر العراقية وإيقاع الفتنة والاقتتال  فيما بينها ، اذ  قال ستيفن لونكريك في كتابه أربعة قرون من تاريخ العراق ص٣٠٤ :  (( كان تشجيع الباشوات المستمر على الاختلاف بين كل قبيلة ، مضمون السياسة الرامية الى تشتيت شمل القبائل وتفكيكها ؛ فكانت السلطة العثمانية تعين في الخفاء القبائل المتناحرة، وتحرض الواحدة على الأخرى، والحروب العشائرية في تلك الحقبة الزمنية كانت كثيرة يعصب إحصاؤها )) 0(10) 

ويشير الكاتب حليم بركات في مقال :( الدين والطبقات الاجتماعية ) : ( الى انه من الثابت تاريخيا ان التيارات الثورية المتطرفة في التاريخ الاسلامي من قرامطة وخوارج وغيرهم ينتمون في اصولهم الطبقية الى فئات وطبقات , وطبقات الشعب الكادحة من العبيد والموالي والعمال والفلاحين وفقراء المجتمع وغيرهم وكانت الطبقات الاقطاعية الحاكمة لا تتحرج في ..) .

ولا غرابة بعد ذلك أن يأتي اتباع المحتل الانكليزي وذيوله  وبقايا العثمنة  ويسيروا على نفس النهج النكيس ويقتفوا اثار الخط المنكوس فشبيه الشيء منجذب اليه ؛ اذ لم يتورع العملاء والمنكوسون الدخلاء في إطلاق مختلف الأسماء الذميمة والألقاب الباطلة على أهل العراق الاصلاء ,  لينفروا الناس عنهم , ويقصوهم عن قيادة العراق ويهمشوهم وينهبوا ثرواتهم وخيراتهم , ومن ثم يخفوا حقيقتهم الحضارية المجيدة واصالتهم وهويتهم العراقية  العتيدة ؛ فقد اطلق هؤلاء المنكوسون تسمية : (( الشرقية او الشرجية )) على الاغلبية العراقية , وقد برروا هذه التسمية بحجج تافهة – ( اوهى من بيت العنكبوت )- وكل الاكاذيب والاباطيل التي ساقوها وسوقوها على انها ابحاث علمية ودراسات تاريخية  كتبها كتبة مأجورون وموتورون ومنكوسون وعددهم لا يتجاوز اصابع اليد , والتي ادعى هؤلاء انها  تتبرر لهم اطلاق هذه التسمية التي لم تذكر قط في كتب التاريخ والتراث ولم تذكر حتى بالتراث الشفاهي الشعبي العراقي ابدا , او لجعلها تسمية رسمية وصفة ملازمة للأغلبية العراقية , فهذه التسمية جاءت مع الاحتلال الانكليزي واذنابه الغرباء واتحدى اي كاتب يأتي بدليل خلاف ذلك , فلم يطلق البصري ولا العماري او العمارتلي ولا الناصري ولا الواسطي ولا الكناني ولا الاسدي  ولا الكعبي ولا الدراجي ولا الساعدي ولا السوداني ولا الصابئي الجنوبي ... الخ ؛  لقب : (( الشرقي )) على انفسهم قط ولم يستعملوه فيما بينهم ؛ ولم يذكر هذه الاسم في الاثار او الكتابات التاريخية قبل مجيء الاحتلال الانكليزي الذي اطلق الكثير من التسميات المنكوسة على اهل العراق الاصلاء من قبيل اطلاق لقب : (( الشجرة الخبيثة )) على مدينة  الناصرية العظيمة مسقط رأس الشجرة الطيبة النبي ابراهيم . 

وهو نفس المسلك الذي كان عليه المنكوسون من العرب والاعراب - الذين هم اشد كفرا وكذبا ونفاقا -  تجاه اسلافنا العراقيين حيث أطلقوا عليهم لقب : (( النبط ))  .

ويحاول هؤلاء المنكوسون من خلال الاستمرار بهذه الدعايات الكاذبة والتسميات المنكوسة ؛ان يجعلوا منها حقيقة تاريخية او واقعا مسلما به , حتى من قبل اجيال الاغلبية العراقية المستهدفة بهذه السموم والالقاب ذات الدلالات السلبية . 

ولكن انى لهم بذلك فالحق يعلو ولا يعلى عليه , وحقيقة واحدة تبدد مئات الاكاذيب والافتراءات , فإن المجد  يبقى دائماً يتلألأ فوق رؤوس العراقيين لاسيما الجنوبيين منهم :

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ              فهي الشهادة لي بأني فاضل 

فمن علامات الدخيل الطعن بالأصيل ,  اذ أصبح من علامات العملاء والدخلاء المنكوسين  سبهم لأهل العراق الاصلاء  والتشهير بهم واختراع الألقاب الباطلة لهم, وفي الحقيقة ما ثلموا إلا مخططهم الخبيث  ولا سعوا إلا في هلاك اتباعهم ولا جدوا الا بكشف حقيقتهم المنكوسة وما يحيق المكر السيء لا باهله ؛ وان غدا لناظره لقريب  .

.....................................................................................................

  • 1-بلاد الرافدين عرفت الزراعة في فترة مبكرة من التاريخ / عبدالحكيم محمود . 
  • 2-المصدر ابن خلدون المقدمة ص 441 . 
  • 3-قبيلة شمر العربية ومكانتها وتاريخها السياسي/ جون فريدريك وليمسون/ ترجمة: مير بصري/ ص١٢٤ / بتصرف .
  • 4-الأوضاع القبلية في ولاية البصرة / د :خالد السعدون  / ص13 بتصرف .
  • 5-الدولة العثمانية في المجال العربي / : د فاضل بيات / ص 98 / بتصرف .
  • 6-العشائر العراقية / د: عبد الجليل الطاهر:٦9  / بتصرف . 
  • 7-العشائر العراقية: الطاهر/ ص77 ، وراجع : الإيجاز في تاريخ البصرة والأحساء ونجد والحجاز : عارف مرضي الفتح :٢/٢٧٢
  • 8-انظر: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث: لونكريك:٣٦٧ وص٣٧٢، قبيلة شمر العربية ص١٦٠ وما بعدها / بتصرف .
  • 9-بدو العراق الجنوبي: أوبنهايم وآخرون:٣/٥١٠ ، وانظر: العشائر العراقية: الطاهر:٧٥ / بتصرف .
  • 10-عن مقالة (سياسة الدولة العثمانية تجاه القبائل العراقية) للكاتب  معتز عثمان الجبوري / بتصرف .