أرادت النفس أن تبوح بأمرٍ ليس لها قوة في صده، وأراد العقل أن يمنعها لولا تلك القوة التي دَفَعت ذاك اللسان على التَمردِ والحديث، والنفس تكتم ما قد أصابها من همٍ ، وغم، وكآبه، والعقل يَقمع ما بالنفس ويسلبها تلك الحرية المقيدة كي لا تبوح بذاك السر، وبين هذه وتلك استطاعت النفس أن تتغلب وتنطق ما تُخفي من (حبٍ، وشوق، وعطف، وفقد)، وأرادت أن تدفع ببعض الكلامِ  دفعاً، وتدوّن ما توّد الحديث به تدويناً يُشار إليه كرثاء محبٍ  سوف يرحل يوماً، وتُعلن عمّا يجول في داخلها من ضعفِ   الفقد، وأي فقد؟ كلما رأت النفس ذلك الوجه الشاحب في المرآة عَلِمت أنّ العيونَ  لا تستطيع أن تُخفيّ ما فقدته، وأن اللسان عاجزٌ عن رثاءِ من أَحب، والمشاعر دفاقة كمعينٍ  لا ينضب حباً وشوقا.

إنك يا " أبتِ " قد تَركت مكاناً في حياتي لا يملأه حباً، ولا عطفاً، ولا عطاءً غيرك أنت، آهٍ على فقد الأحبة وما فقدت مثل أبا عبدالرحمن، إنك يا " أبتِ " قد تركت أثراً كبيراً لا يُشبهه أثر، ورحيلك أشد من رحيلِ غيثٍ  عن بقعةٍ  يابسة، كُنت يا أبتِ أغلى من عاش في حياتي، ولا زلت أغلى من رحل، أعترف أنني ضعيف القوة والبدن، وضعيف الإرادة والطموح، وكلّما أتذكر ابتسامتك الجميلة وحديثك الشيّق، ينفطر القلب، والعين تنهمر حزناً وبؤسا، تضيق بي الأحرف والكلمات من أن أقول وداعاً يا من أعطى كثيراً بحبه وعطفه، ويا من أخذ قليلاً ثم ارتحل، قرأت بعد رحيلك قول ابن بُرد في رثاء ابنه محمد :

كَأني غَرِيبٌ  بَعْدَ مَوْتِ «مُحْمَّدٍ»

ومَا الْمَوْتُ  فِينَا بَعْدَهُ بغَرِيبِ

إنك تعلم صبري وجلْدي بين أقراني ولكنني على ذلك فأنا غريبٌ  كقول ابن بُرد، وضعيفٌ   لفقدي إيّاك، صَحِبتُك طيلة السنوات الأخيرة في مرضك، وأبت نفسي إلا أن تَصحبَك في احتضارك الأخير، ولا شيءَ  يُخمدُ نار الفقدِ في نفسي إلا عندما أسترجع وقت تلقينك للشهادة، كُنت مُضدجعاً على جانبك الأيسر، وكان نَفَسُك ضعيفاً وعيناك خافتتين، فقُلتُ  لك، قُل : {أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله}، فالتفّت إليّ وأنت مشغولٌ في احتضارك، فَقُلتَ  لي بكلِّ هدوءٍ وسكينه، وسبابتك اليُمنى مرفوعة : {أشهد أن لا إله إلا الله}، فعُدتَ  مشغولاً باحتضارك ويداك تمسح وجهك الذابل المُرهَق، فزدادت حالتُكَ  بؤساً، ونقلتك للمشفى، وحضر الإخوة ولم يحتملوا لحظة الاحتضار وصعود الروح إلى خالقها، خرج أبناؤك من العناية المركزة خاضعين ومُسلّمين لقضاء الله وقدره، وآثرتُ  على نفسي أن أصحَبَك والروح تُنزع من جَسدك الضعيف كما كنت أَصحبُك في مرضك، سمعتُ  صوت شخير الروح ونزعتها، فدعوت الله ربي ورب كل شيء، أن يُسهِل عليك سكرة الموت، والأطباء في فوضةٍ يتبادلون الأدوار والمهام، لإنعاش قلبِك الضعيف، فصفّر جهاز النبض وأعلن عن وقوف القلب، وكأني بذاك الصوت قد وقف قلبي، فقلت معاتباً :(يا نفسُ   جِدي)، إن الموت حق، وإنّ الفَقد مكتوبٌ عليكِ، وجاءني الأطباء يُعزون، فتذكرت قول الله -سبحانه وتعالى- :{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}، فهَدأَت نفسي قليلاً، وقالت لي :(إن الله جلّ جلالة أقربُ  إليه منا، وهو أرحم الراحمين، وأعدل العادلين)، فقلتُ  لها: (لا إله إلا هو سبحانه إني كنت من الظالمين، يانفسُ   ويحكِ، جِدي واعتبري، قد رأيتِ  آيةً من آيات الله، وهي موت مَن تُحبين، أليس في فقد الأحبةِ عِبّر؟ فخَشعت كلَّ جوارحي لله رب العالمين لا شريك له)، وعُدتُ  من حيث أتيت، لا أستطيع حمل نفسي وبدني، وبَدَأت الكآبة تَغمر روحي وتذكرت قول بن برد :(ولولا اتقاء الله طال نحيبي)، فلم اشأ أن أُكثر من البكاء، ولا النحيب، ولم اشأ أن يكسوّني شيءٌ من الجاهلية القديمة، وأتم الله علينا يا أبتِ  أن غسلناك، وكفناك، وحملناك فوق الكتفِ   على الآلةِ كما قال كعب بن زهير:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ

وإن نَسيت كلَّ شيءٍ فلن أنسى تاريخ وفاتك :(3/ رمضان/ 1437)هـ، حينما وسّدنا وجهك بالقبر، ووضعناك في اللحدِ على جانبك الأيمن للقبلة، وكأنني أراك في منزلك الجديد " هادئاً ونائماً "، ووضعنا خلف ظهرك طوب اللبن، وغُطيت بالتراب وكأنك مُتلحفٌ   به، ودُفنَ جَسدُك، ووارى الثرى، ونحن واقفون نودعك في الدنيا، لاحقين بك في الأخرة، وأنا أعلمُ أشد العلم أن (المنايا قد دعتك فاستجبت لصوتها، فالله من داعٍ دعا ومجيبِ)، قد وقف عند قبرك الفقير قبل الغني، وودعك العَالِم قبل الجاهل، وبكى عليك الضعيف قبل القوي، وأخيراً وقف أبناؤك مودعين قد رتبوا لك منزلاً جديداً من التراب والبحص، والدموع على لحاهم وذقونهم تسيل وتغسل قبرك، وترطبه، وبدأ الناس في المواساة والتعزية، وأصبحت أُبدي للناس عكس ما أُخفي، وعُدت إلى المنزل وأنا مُسّلمٌ  لله كل شيء، فالله ما أخذ ولله ما أعطى، وبدأتُ  أُقلبُ  وجهي في السماء، وأكتم الفقد وأَلمه، فإذا سمعت شيئاً من سيرتك أو خبراً من أخبارك، تكون حالي كقول ابن برد :

فَأصْبَحْتُ  أبْدِي لِلْعُيُونِ تَجَلُّداً

ويا لك من قلبٍ  عليه كئيبِ

(رحمك الله) ..

اللهم اغفر لعبدك محمد وارحمه، وعافه واعفو عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله..

اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وذريةً خيراً من ذريته، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة بغير حساب، برحمتك يا ارحم الراحمين ..

اللهم اغفر لكل من قال لا إله إلا الله، اللهم آمين.