هل الدين بالنقل فقط بدون العقل؟، أم بالعقل فقط بدون النقل؟ أم لابد أن نضبط النقل بالعقل بعد أن نضبط العقل بالوحي!!؟؟
*******************************
قال لي قائل: " الدين بالنقل و ليس بالعقل .. و الدليل على ذلك كلام (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه الذي قال: قال (لو كان الدينُ بالعقل لكان أسفلُ الخف أولى بالمسحِ مِن أعلاه) !"
فكان تعقيبي كما يلي:
" أولًا الراوية المنسوبة لسيدنا (علي) لم تكن كما ذكرت فهو قال (إذا كان الدين بالرأي) ولم يقل (بالعقل)!، ومن المعلوم أن ليس كل رأي بالضرورة مصدره العقل!، فكثير من الأراء تنتج عن العاطفة والهوى وغير ذلك، فالرأي قد يكون عقلانيًا وقد لا يكون كذلك بل الاغلب أن الأراء تغلب عليها الأهواء لا العقل!، هذا أولًا . أما ثانيًا فإنه إذا كان الدين بالنقل فقط لا بالعقل إذن ما فائدة (الفقه)!؟؟ الفقه يعني (الفهم) والفهم هو وظيفة من وظائف العقل !؟؟..ثم ماذا عن (القياس) وهو عند أهل السنة - بإستثناء الظاهرية - المصدر الرابع في تلقي أحكام الدين بعد الكتاب والسنة والاجماع؟؟؟ فالقياس كما هو معلوم هو فعل من أفعال العقل؟ (فالعقل يقيس حكم المجهول على حكم المعلوم لتشابه أو تطابق العلة المشتركة بينهما!) فالقياس هو بالعقل وليس بالنقل!... وماذا عن قوله تعالى: (لعلمه الذين يستتنبطونه منهم) فالاستنباط هو الاستنتاج العقلي!؟؟؟... ثم ماذا عن (الوحي) فهو ليس من (النقل) إنما المقصود بـ(النقل) أي (الروايات) المرفوعة للنبي أو الموقوفة عند الصحابي أو التابعي!، بل حتى أقوال واجتهادات وفتاوى فقهاء السلف تدخل ضمن (المنقول) إلينا أيضًا فهي تقع ضمن (النقل)!!... فمفهوم (النقل) ليس محصورًا في ما نُقل إلينا من أقوال وأفعال النبي بل كذلك أقوال وأفعال الصحابة والتابعين وكذلك الفقهاء الأوائل!!.

يا صديقي العزيز لقد ضللوك الذين قالوا لك أن الدين بالنقل فقط!! ، والحقيقة أن الدين بالعقل والنقل والوحي جميعًا ... فالعقل بدون الوحي يضيع ويضل في بعض المسائل التي هي أكبر من طاقة العقل ، والنقل بدون العقل يتحول إلى اساطير محفوظة يجترها الخلف عن السلف بدون وعي ولا تدبر ودون وعي!.. فالروايات المنقولة إلينا عبر القرون تحتاج للعقل ولمنهج عقلي منضبط كي يصفيها ويغربلها ويفرزها، بل وليبيّن ما هو (القوي) منها من (الضعيف)، و(الصحيح) منها من (السقيم)!، فالعقل هو غربال النقل، وله دور أساسي مهم في تحرير وغربلة وتنقيح مرويات النقل!.... كيف حكم الإمام البخاري - رحمه الله - مثلًا على الاحاديث التي دونها في كتابه بأنها (صحيحة) وأبعد كل ما شك في صحته؟؟؟ هل حكم عليها ببطنه ومعدته؟ أم بهواه وعواطفه؟ أم بعقله وبمنهج منضبط وضعه عقل البخاري ليكون هو غرباله في التصفية!؟؟، هل فكرت في هذه المسألة؟؟!

يا صديقي
أعد النظر في هذه المسألة ولا تصدق كل ما يُقال لك ، فإن رجال الدين كما يسميهم القرآن (الأحبار والرهبان) أضلوا كثيرًا من الناس - وربما بحسن نية - بفتاوى وأراء شخصية خاطئة أو ضالة ألبسوها عمامة الدين والحق المطلق!!...

وأخيرًا...
هذا القول الذي ذكرته ((لو كان الدين يُوخذ بالعقل لكان المسح على الخُفين من أسفل أولى)) المنسوب لسيدنا الصحابي الجليل علي بن طالب - رضي الله عنه - إذا صح عنه بالفعل - ولا ندري مدى صحته !! - هو نفسه، وفي حد ذاته، (رأي عقلاني) استنبطه سيدنا (علي) بالعقل ولم يتلقاه بالنقل أو من أحد أسلافه!... إذن أنت استشهدت بقول سيدنا (علي) العقلي المحض، وهو استشهاد منك بما هو منقول بالنسبة لك، أما بالنسبة لسيدنا علي فهو استنباط بما هو معقول (!!!)، عقل سيدنا علي!... ثم هذا (القول) هو بالنهاية (قول صحابي) وقول الصحابي - على الصحيح الراجح - حتى لو كان تفسيرًا للقرآن كما هي تفسيرات سيدنا ابن العباس رضي الله عنه - ليس حجة في حد ذاته، فالقاعدة الذهبية في فهم منهج تلقي الأحكام في الاسلام تقول بكل وضوح:
((كل الناس يُؤخذ منهم ويُرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم))
أي بما فيهم (أبوبكر) أو (عمر) أو (عثمان) أو (علي) أو (ابن العباس) أو (ابن مسعود) رضي الله عنهم!!، فالعبرة بالدليل الشرعي (القرآني) أو (النبوي) أو (العقلي الفقهي الاستنباطي والقياسي) وليس بأقوال الرجال في حد ذاتهم مهما كانت عظمتهم ومكانتهم في الاسلام، فهذا هو منهج السلف الصحيح لو كنتم تعقلون وتفقهون!!.

بل - صدقني يا صديقي - فحتى ((أقوال وتصرفات النبي نفسه)) - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة هي صنفان:
(١) صنف هو وحي يُوحى
فإذا صدر عنه هذا القول وهذا التصرف باعتبار النبوة (أي بإعتباره يتلقى الوحي من الله) فهو ملزم لكل المسلمين (أفرادًا ومجتمعًا) في كل زمان ومكان.

(٢) صنف هو اجتهاد فقهي وسياسي.
فإذا صدر هذا القول والتصرف عنه، عليه الصلاة والسلام، باعتباره محمدًا (الانسان)(العربي القرشي) فهو يدخل ضمن (العادات) و(الذوق الشخصي للنبي) أو صدر عنه باعتباره محمد (أمير المؤمنين وسائس وقائد دولة المدينة) الذي اختارته اغلبية شعب يثرب (المدينة) ليكون هو أميرهم وحاكمهم وقائدهم كما هو نبيهم ورسولهم، فهو إذن يدخل ضمن (السياسة الشرعية) للحاكم التي تتغير بتغير الأحوال والزمان والمكان والتي مصدرها الاجتهاد البشري الدنيوي و السياسي، إذن، فهو قول ورأي وتصرف لمحمد الحاكم والقاضي والقايد السياسي في إدارة (دولة المسلمين) أو كان من باب القضاء بين المتخاصمين فهو إذن تصرف قابل للمناقشة وليس ملزمًا للمسلمين في كل زمان ومكان حرفيًا لأنه ليس من الوحي الالهي، بل من الاجتهاد النبوي العقلي البشري والسياسي والقضائي المحمدي في تحقيق مقاصد الشريعة ولجلب المصالح ودرأ المفاسد في زمانه ومكانه ولتحقيق العدل في المجتمع وللفصل بين المتخاصمين، فهذا كله يدخل ضمن السياسة الشرعية للحاكم ، وهذا أمر حاله حال أمر الفتاوى الشرعية التي قد تتبدل بتبدل الأحوال وظروف الزمان والمكان كما هو معلوم في كتب علم وفقه الشريعة.

هكذا ينبغي أن نفهم مصادر تلقي أحكام الشريعة في الاسلام، إذ لو لم نفهم الاسلام والشرع بهذه الضوابط (العقلية) الصارمة فإننا سنقع في خلط كبير وغلط خطير كحال الخلط والغلط الذي وقع فيه الخوارج والدواعش وغيرهم ممن لا نشك في حسن نواياهم الدينية ومشاعر قلوبهم الإيمانية ولكننا نشك كثيرًا في مدى علمهم ورجاحة عقولهم وصحة فهمهم للاسلام وفقههم للشريعة وفي معرفتهم للمنهج المستقيم والحكيم المتوزان في تلقي أحكام الاسلام وطريقة تطبيقها في الأوضاع المختلفة بشكل سليم ... وفي تقديري لن تقوم للمسلمين قائمة ولن يجد قطار الاسلام مساره الصحيح الفعال والمؤثر والمُغيّر للواقع الحالي المشين والمهين والمزري إلا إذا قمنا أولًا - وقبل كل شيء - برد الاعتبار للعقل (المسلم) لكي يفهم الدين والدنيا والعالم وأنظمة الدولة بشكل سليم متوازن رشيد وعلى ضوء توجيهات وموازين القرآن الكريم ... ثم قمنا ثانيًا برد الاعتبار للانسان كإنسان واحترمنا قيمته وكرامته وأهميته في ديننا الحنيف، وهذا هو الطريق!... طريق النهوض بهذا الدين وهؤلاء المسلمين.
**************
أخوكم المحب
سليم نصر الرقعي