ذَمُّ الحَربِ عِندَ زُهَيرُ ابن أبي سَلمى
=========
(أولاً: التعريف بالشاعر)
----------
- هو زُهَير بن أبي سلمى المُزَنِي، أحد الشعراء المُقَدَّمِينَ والمُعَظَّمِينَ عِندَ العرب، وأحد أصحاب المُعَلَّقَاتِ التي عَدَّها العرب أجود ما قيل في الشعر العربي، وهو والد كُلًّا من كعب بن زُهَير وجُبَير بن زهير، وكلاهما شاعران وصحابيان آمنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأسلما، وكان كعب من شعراء الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو صاحب قصيدة البردة، وكل الدلائل تشير إلى أن زُهَيراً كان من الذين تَحنَّفُوا من العرب، وعلم بعض أخبار اليوم الآخر والحساب وظهور نبي آخر الزمان، حتى أنه أوصى أبناءه إن أدركوا بعثته أن يتبعوه.
(ثانياً: الأبيات محل الشرح)
----------
- الأبيات المُختارة لهذا الشرح، هي أبيات من جملة مُعَلَّقَتِهِ التي كتبها ويتحدث فيها عن حرب داحس والغبراء، التي كانت بين قبيلتي عبس وذبيان وكلاهما من غَطَفَان، ودامت أربعين عاماً حتى قام الحارث بن عوف وهرم بن سنان، بدفع دِيَّاتِ القتلى من القبيلتين شريطة تَوَقُّف هذه الحرب، فقام بمدحهما وقام بِذَمِّ هذه الحرب وذكر ويلات الحروب بصفةٍ عامة، وما تُخَلِّفُهُ وراءها من مآسيَ ودمار على جميع المستويات، المادية والحسية.
(ثالثاً: شرح الأبيات)
----------
(فَمِن مُبلِغُ الأَحلافِ عَنّي رِسالَةً * وَذُبيانَ هَل أَقسَمتُمُ كُلَّ مُقسَمِ)
(فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم * لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَمِ)
(يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر * لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ)
- يخاطب الشاعر الفريقين الذين هما طرفا الحرب والقتال، وهما قبيلتي عبسٍ وذبيان، لعلَّ أن يكون أحد الفريقين أو كلامها، قد بَيَّت في نفسه العداء والخداع وعدم الانصياع للصلح، ويكون قد أقسم على مداومة هذه الحرب، فيخبرهم أن الله -عز وجل- مُطَّلِعٌ على نفوس الخلق ويعلم ما يضمرون فيها، وينصحهم بعدم الكتمان على الله -عز وجل- لأنهم مهما فعلوا ومهما كتموا ضمائرهم، فهي معلومة عند الله -عز وجل- ولكنه يُدَبِّرُ الكون بِحكمَةٍ فيدَّخِرُ كُلَّ شئٍ في كتاب كل إنسان، ليُعَرَضَ عليه في يوم الحساب، وفي أحيانٍ يُعَجِّلُ الحساب في الدنيا لحكمةٍ يعلمها، فلا جدوى على كل حالٍ من الكتمان على الله.
(وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ * وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ)
(مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً * وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ)
(فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها * وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ)
- في هذه الأبيات يُذَكِّرُ الشاعر الفريقين المتخاصمين بأهوال الحرب والقتال، فيخبرهم أن الحرب هي ما ذاقوا وما عرفوا، من قتالٍ وعناءٍ وتشريدٍ ويُتمٍ وخَوفٍ وفَزَعٍ وفَقدٍ وقَتلٍ وفِراقٍ، وليس الحديث عن الحروب بالحديث المُرَجَّم أي: المحفوف بالظنون والتوقعات، بل هو حديث حقٍ وصدقٍ يشهد له الواقع، ولذا يحذرهم الشاعر فيقول لهم أنهم متى يبعثون أي: يبدأون هذه الحرب، فإنهم يبدأون شيئاً ذميماً مكروهاً، وخاصةً أنه بسببٍ باطل، وأنها نار مُستَعِرَة إذا قمتم بإضرامها أي: إشعالها فإنها لا تترك شيئاً، وتَحرِق الجميع وتُلحِقُ بهم الضرر والوبال، وأنها مثل أحجار الرحى تطحن وتُحَطِّم ما يكون بينها، وتلقح كِشافا أي: تُهَيِّجُ في القتال بشكلٍ ظاهرٍ وتحمل أي: تتقدم في الهجوم، فتتئم أي: تُوَحِّد بين ضحايها فلا تفرق.
(فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم * كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ)
(فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها * قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ)
- وهنا في هذه الأبيات يستمر الشاعر في سرد نتائج الحروب، وأن من نتائجها أنها تُنتِجُ جيلاً جديداً ورث هذه العداوة والبغضاء، حَظُّهم عَاثِرٌ لهذا السبب، فهم أكثرُ شؤماً من أَحمرِ عادٍ، وأَحمَرُ عادٍ هو قُدار بن سالف الذي قام وعقر ناقة نبي الله صالح -عليه السلام- ويُضرَبُ به المثل فيمن كان شؤماً، لأنه كان سبباً لغضب الله عليهم وفنائهم، فهذه الحرب تُنتِجُ لنا جِيلاً أكثرَ شؤماً منه، ويستمر الشاعر في تحذيرهم ويُبَيِّنُ لهم أنَّ هذه الحرب تَغلِلُ لهم، أي: تجمع لهم العداء والبغضاء من حل حدب وصوب، فيأتون من قُرَىً بالعراق -وهي مساكن ذبيان وبعض عبس- فيأتون وهم في كثرةٍ، كأن الحرب قد جمعتهم مثل الحبوب بالقفيز والدراهم، كما يصنع التاجر ببضاعته.
(رابعاً: الختام)
----------
- كم كان زُهَيرُ بن أبي سلمى موفقاً في اختيار ألفاظه، التي أراد أن يعبر بها عن غرضه في هذه الأبيات، فنراه قد استخدم في التشبيه صوراً هي الغاية في التعبير عن مقصوده، فمن شؤم الحروب ونحسها ذكر لهم قصة عاقر ناقة نبي الله صالح -عليه السلام- ومن شدة الوقع في الحروب، ذكر لهم أحجار الرحى التي تطحن الحبوب بقسوةٍ وشدة، وفي مدى الخسارة في الحروب ذكر لهم صورة النار التي لا تُفَرِّقُ بين من أضرمها وبين غيره، فهي تَحرِقُ الذي يكون أمامها بلا استثناء، وقد لجأ إلى مخاطبة الجانب الروحي والإيماني فيهم، لعلهم يستجيبون فَذَكَّرَهُم أن الله -عز وجل- يَطَّلِعُ عليهم ويراهم.