كل يوم يكسر شيء ؛ يعطل جهاز ؛ يحترق مصباح , يأتي خبر سيء ...وماذا ينتظر المرء من مجتمع مريض وظروف معقدة وفوضى عارمة  ولا يوجد فيها بصيص أمل ؟

ضاقت ذرعا  بالأمر زوجتي ؛ وطلبت مني شراء بلبل , والحت علي بالطلب , 

علما أنها ليست من هواة الطيور .

قلت : ولماذا نشتري بلبل ؟؟

قالت : كي يدفع عنا عين السوء , ونفس الحساد !!

قلت : وما علاقة البلبل  الجميل والذي يغرد بأعذب الالحان  ؛ بكل هذه الأحقاد والاضغان , ما هي إلا أساطير الأولين وخرافات الجاهلين ... ؟!

أجابتني : بل هي موجات  سلبية ( طاقوية ) غير مرئية , لا تقل خطورتها عن الضرب باليد والركل بالقدم , اشبه بأشعة الليزر , وهذه الطاقة السلبية تنبعث من النفوس الحاسدة والحاقدة والقلوب المريضة وتتجه نحو هذا المرء او ذاك ... .

وألحت علي وأكثرت الطلب ؛ حتى رضخت للأمر الواقع ...

ركبت السيارة متوجها إلى سوق الطيور ...

بعد اللتيا والتي , وقع بصري على بلبل كثير الحركة , لطيف الهيئة , عذب الصوت ...

جئت به مكرها إلى البيت , فقامت زوجتي بإطعامه ... و وضعته في الحديقة ... ؛ 

وكلما ادخل البيت يستقبلني بالتغريد الرائع , ويرمقني بالنظرات الجميلة  , ويضرب بجناحيه فرحا ... و ومضت الأيام ... وصرت اشتري طعامه  بنفسي بل أطعمه بيدي ؛ فيأتيني مسرعا من وراء القفص ...  ثم تطورت العلاقة الوجودية فيما بيننا , وصار حضوره  و رمقات عينيه تذكرني بأسلافي وايامي الضائعة والزمن المفقود والذاكرة المغيبة ... وكأنني من الذين يؤمنون بتناسخ الارواح ... ,  و صرتُ أطلقه في فضاء الغرفة يطير ويرفرف بجناحيه ويغرد ويقف على رأسي تارة وأخرى على كتفي  ... .

أصبح جزءا من كياني  , وقطعة من روحي , وشريكا في حياتي ... فقد كسر روتين الحياة الرتيبة , وأضفى جمالا على البيت , أنستُ به وأنس بي ... أحببته وعرفني ... . 

في احد الأيام , جاءنا ضيوف ومعهم أطفالهم ... فقام احدهم بفتح باب القفص ... وعبث بالبلبل الآمن ؛ فطار من القفص ... . 

وتحركت بصورة لا إرادية , إذ قفزت من غرفة الاستقبال تاركا ضيوفي , مهرولا الى  الشارع العام لا مباليا بهيبتي و وقاري ...

سئلت الجيران في الحي , هل رأيتم بلبل ؟!

فقال احد الأطفال : هل هو أليف ؟! 

قلت : بلى 

فقال : رأيتُ بلبل أليف حط على شجرة السدر في  بيت أم ميسون ..

وأرشدني إلى البيت , فطرقت الباب , وخرجت فتاة جميلة في عمر الورود , طويلة الشعر كأنه الحرير ويتحرك مثل أمواج البحر , اما العيون عسلية واسعة كالكون ,و الشفاه لا تحتاج لقلم الحمرة لان الخالق قد تكفل بذلك  , وردية الوجنتين , ناصعة البياض , بريئة الملامح , نبرة صوتها كالموسيقى  ... ؛  شدهني هذا الطائر الجميل عن طيري الضائع  ... فالظاهر ان  قدري – في  هذه الايام -  أن انتقل من جمال إلى أخر... .

- مساء الخير سيدتي 

- مساء النور تفضل 

- هل وقع على  شجرة داركم  بلبل ؟

- بلى , وقد امسك به أخي 

- هو لي

- حسنا ,سوف اجلبه لك 

- شكرا جزيلا سيدتي ,آسف للإزعاج .

رمقتني بنظرة سريعة  وكانت اسرع من البرق الخاطف , واحد من السيف مصحوبة بابتسامة بريئة ...  ؛ وقتها عشت النقائض والاضداد : فرحانٌ وحزينٌ , متفائلٌ ومتشائمٌ , سعيدٌ وتعيسٌ ...  فرح لأني وجدتُ نصفي الثاني , حزين لأني ضيعت نصفي الأخر , متفائل لأني عثرت على البلبل الانيس  , متشائم لأجل الحبيب الجديد , سعيد بالوصال مع بلبلي , تعسٌ بسبب ولهي ب ميسون  وبعدها عني  ... . 

هام قلبي بها هياما , واضطربت أعضائي , واختلت أوضاعي ,و شرد ذهني , وقل انتباهي .. الهي ما الذي حل فيّ ؟ حب البلابل ثم عشق الصبايا ؟!

واخذ احدنا ينظر للأخر هو وأنا ...  هو يُريد الطيران مرة أخرى إلى بيتها , وأنا أريد ذريعة ثانية للكلام معها ...

مرت الأيام والنار تستعر في أحشائي , فلا شيء أمرُ من العشق عن بعد , والحب من طرف واحد ...

استقضيت ذات يوم وجلا قلقا حيرانا , لا ادري لماذا ؟

كعادتي في كل صباح , أخذت الطعام إلى بلبلي الأثير ...  ياللهول ...  صرخت بأعلى صوتي .. أين هو ؟

جاءت زوجتي مسرعة , ما الذي دهاك ؟!

قلت : انظري القفص قد سقط على الأرض , والبلبل غير موجود !

بحثنا أنا وهي وأطفالي وأطفال الجيران ؛ حتى عثرنا عليه مقتولا ! 

قتلته قطة سوداء شريرة لها سوابق عدة ؛  فقد قتلت الكثير من طيور الجيران !!

صدمت صدمة شديدة , لماذا قتلته القطة , علام قتلته ؟! 

بأي ذنبا فتكت به؟!

ليتها أكلته , لهان الأمر ؛ لأنها غريزة الأكل والبقاء  , لكن ان  تقتله لأجل القتل والقتل فقط , يا الهي يا الهي ما هذا الرعب  ! 

هذا شيءٌ عجيبٌ ! 

لعل هذه القطة اللعينة أصابها فايروس ( الذباحة والقتلة )  المنتشر في بعض البقاع  البائسة الهجينة من بلادي  و الخالية من مظاهر الجمال  والسمو الروحي ...

أنا أيضا قد أصبتُ بهذا الفايروس المعدي ؛ إذ حشوت المسدس بالعيارات النارية كي اقتل هذه القطة اللعينة ثأرا للبلبل القتيل !

لكنني في اليوم الثاني , رأيت القطة قد ماتت , والكلاب تلعب بأحشائها , وتستمتع بتمزيق أعضائها في الشارع !! 

انتابتني القشعريرة و الدهشة والحيرة ...  أهي عدالة السماء ... أم إن مشيئة الله تأبى أن يلطخ الابرياء أيديهم بالدماء ..؟!

ذهبت إلى بيت الجارة الجميلة عشيقة  الروح والخيال  , بعد إن هدأ روعي , كي اخبرها بالمصاب الجلل ! 

ولا ادري اتكترث لصاحب البلبل فضلا عن البلبل نفسه أم لا ؟

فرأيت السيارات والأطفال والموسيقى والزغاريد ... قالوا : اليوم عرس ميسون... !!! 

 رَجَعْتُ أَدْرَاجِي  خائبا حزينا ... وعادت لعنة الروتين و مرارة الملل تلاحقني أينما ذهبت  من جديد  ... ورجعت رتابة الأيام كما كانت من قبل   ...  ولا زالت روحي هائمة تبحث عن حبها المفقود ... .