سيداتي سادتي ،،

أردت التحدث في أمرٍ قَلَّ الحديثُ  فيه ، ولم يأخذه على محمل الجد والاجتهاد سوى قلةٍ قليلة من المخالفين للغلوِ والتعصب من أهل الدين ، أردت التحدث عن (العقل) بمآربهِ ومآخذه ، ومحاسنه ومساوئه ، ذلك الذي كرمّنا به الله سبحانه وتعالى ، فالمكتبات مليئةٌ بكُتبِ الكُتّاب الذين ردوا بسخطٍ  وقوة على الذين قللّوا من استخدام العقل في الإسلام ، وجاءت الكتب بالرد والنقض ، ومن أشهرها كتاب العقاد (التفكير فريضة إسلامية) ، فقد بيّن فيه بعض الآيات والأحاديث وبعض أقوال العلماء وأهل العلم وتوصّل بأن التفكير فريضةٌ على كل مسلم ومؤمن ، ومكان التفكير  "العقل" ، وأنا لا أريد الخوض في بيان العقل ومكانته بالإسلام ، فالذي يقرأ القرآن يكتفي ببعض الآيات كدليل قاطع على مَهمة العقل في التفكر والتدبر والتأمل ، ولكنني على ضعفي وقلة حيلتي أردتُ  الخوضَ فيما قَلَّ الخوضُ   فيه ، أردت الخوض في من جعل العقل بمرتبةٍ  لا تساويها مرتبة ، وقدّمه على القرآن والأحاديث المنقولة ، والذي جعل من المنطق شماعةً يتحدث بِاسمها بلا تحرُّج أو تكلّف ، ذلك الذي اِلْتَبَسَ   عليه إما التفكير بالمنطق أو التصديق بالغيب ، كم من عقلٍ خذل صاحبه بالمنطق ، وكم من عقلٍ استحسن صوت المنطق ولم يؤمن بما جاءت به الأدلة التي تنقض منطقه العقلي ، ونذكر في هذا ما ذُكر في مسألة الإسراء والمعراج ، وكيف كان العقل يصّور بمنطقٍ  أنه يسير على خُطى ثابتةٍ وصحيحة.

*أثار أحد المهتمين بالفكر والتأريخ إنكار قصة المعراج والتي ذُكرت في حديثٍ  صحيح أخرجه البخاري ، وقال : بأن قصة الإسراء صحيحه ؛ لذكرها في القرآن ، واستشهد بقوله تعالى :(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا  مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..) ، واحتّج وأنكر قصة المعراج لأنها لم تُذكر في القرآن بشكلٍ صريح ، وأضاف فيما احتّج به من تفسير بعض العلماء الأقدمين بأن قصة المعراج ذُكرت في سورة النجم ، وما كان منه إلا أن يقول بكل عقلٍ ومنطق أنّ ترتيب سورة النجم في قائمة السور جاءت برقم (٢٣) ، وأن سورة الإسراء الصريحة جاءَ ترتيبها برقم (٥٠) ، فكيف عُرجَ  به قبل أن يُسرى ؟!  وأن النبي صلى الله عليه وسلم صعد بروحه لا بجسده كالحلم في المنام ، وهذا قولٌ فيه منطق ، ولكن دعونا نبيّن أن المنطق والعقل في بعض الأحيان قد يصيب معك ، وقد يضيرُ  بك في أحيانٍ أخرى ؛ ذلك أن ترتيبَ  السور اجتهادي مِن فِعل الصحابة رضوان الله عليهم ، ومن أدلة ذلك قول أهل العلم :

١- اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة قبل جمع عثمان بن عفان ، وأنَّ  المُصحفَ   الذي نحن عليه هو نفسه ما جمعهُ ورتبه عثمان رضي الله عنه.

٢- مارواه مسلمٌ في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم : صلّى بالمسلمين مبتدئاً بسورة البقرة ومن ثم سورة النساء ومن ثم سورة آل عمران في ركعةٍ واحدة ، وفي هذا الحديث الصحيح خالف ما جاء في جمع عثمان رضي الله عنه ، فالترتيب الحالي : سورة البقرة ثم آل عمران ثم النساء ، وهذا الرد جاء بمنطقٍ  وعقل ، بعيداً عمّا نحن مؤمنون به في القرآن ، وبعيداً عن الذي نقلهُ البخاري في صحيحة ، عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصته في الإسراء والمعراج وصدّقه في ذلك أبو بكر رضي الله عنه.

ولو توقف صاحب الرأي السابق وتريث قليلاً قبل أن يحتج بعقله ومنطقه وقرأ الآراء الأخرى والتي تُنافي ما جاء به من حُججٍ قد زَينّت له عقله وجَمّلت له تفكيره ، لَما وقع في خيبة المنطق المُهلكة ، والتي جعلته على شفا حفرةٍ من النار ، أعاذنا الله منها.

*وهناك من جعل المنطق معياراً في تحديد أحكام التوريث ؛ كالذي طرح سؤالاً منطقياً وخُيَّلَ إليه الحكمة والتعقل ، فقد تساءل عن أيهما أقوى الرجل أم المرأة ؟

والجواب بكل سهولة الرجل ..!

فطرح سؤاله المنطقي : لماذا المرأة وهي ضعيفة ترثُ  أقل من الرجل ؟

فُتن السائل بعقله ومنطقه ، وكان جوابنا بعد الاجتهاد : أن هناك نصٌ   صريح في القرآن ذكره الله سبحانه وتعالى بشيءٍ كبير من المسئولية على عاتق الرجل ، قال تعالى :(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ   وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..) ، والشريعة الإسلامية قد فرّقت بينهما بالإرث لحِكِمٍ  كثيرة :

١- أن المرأة مَكفِيّةُ المُؤنة والحاجة ، فنفقتها واجبة على بعلها أو ابنها أو أخيها.

٢- المرأة غير مُكّلفة بالإنفاق على أحدٍ ، بخلاف الرجل المُكلف والمأمور.

٣- نفقات الرجل بالقوامة وأمور الحياة أكثر من المرأة ؛ فمنطقياً وعقلياً حاجته للمال أكثر من حاجة المرأة.

ومنطقياً كلما كثرت النفقات على الرجل استحق بمنطق العدل والإنصاف أن يكون نصيبه أكثر وأوفر في الميراث ، والأمر الآخر هناك حالات قد يكون فيها نصيب المرأة بالميراث مثل الرجل ، ولا يتسع المقام أن نفصّلَ فيها ، وبالإمكان أن تعودوا إلى تفصيل الميراث وتطلّعوا على ما دوّنه الشرع.

*وأخيراً نجيءُ إلى من جعل الإحتكام بالتاريخ منطقياً ، أنكر طه حسين وجود امرأ القيس بن حجر الشاعر الجاهلي ، وفي إنكار وجوده ضرر على تاريخنا العربي عامة ، والتاريخ الأدبي خاصة ، وقد كانت حجة طه المنطقية أن امرأ القيس من كندة وكندة من اليمن ، ولغة شعره الذي دُوّنَ في العصر العباسي لغةٌ قرشية ؟ فكيف بشاعرٍ يمني ويغلبُ  على شعره لغة قريش ؟

فجاء الرد : بأن كندة وإن كانت يمنية الجنس ، فقد كانت عدنانية اللغة أي -قرشية- ؛ وقد سادت وذاعت لغة قريش في العصر الجاهلي على لسان الشعراء الشماليين سواءً منهم من ينتسب إلى القبائل العدنانية أو من ينتسب إلى القبائل اليمنية ، ولا ننسَ    أن مكة قد أنعزلت عن المناذرة والغساسنة ، وأما ما حولها من قبائل عربية تطّبعت ببعض أطباع الفرس والروم ودخل في لغتهم شيئاً من الكلمات الأعجمية وحتى في شعرهم ؛ بينما مكة والتي تحكمها قريش كانت بمعزلٍ عن الحروب والتطّبع اللغوي ، وكانت القبائل تُرسل أبنائها لتعلم اللغة العربية الفصحى في مكة ، وكانت قريشٌ   تستعد لاستقبال نبيٍّ أُميّ لسانه مُبين ، وهذه الأسباب جعلت لغة قريش السائدة في بقاع الجزيرة العربية ، في شمالها وجنوبها.

والخلاصة : إنّ المنطق يتكيءُ على الدليل ، والدليلُ في أحيانٍ كثيرة يُصبح غير واضحٍ كالسراب ، تراه من بعيدٍ بعينك المجردة ، وما أن تصل إليه حتى تكتشف شتاته وسرابه ، وأكثر أهل المنطق والعقل ينطبق عليهم قولُ أبي نواس :

فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ  فلسفةً

حفِظْتَ  شَيئاً وغابَتْ  عنك أشياءُ