ومما قاله الكاتب والشاعر البحريني قاسم حداد : (( وضعتني في المهب وقالت : ليست الحياة في الإقامة ، الحياة في السفر )) .

إنَّ المتأمل لقصة  ومسرحية الحياة وتنقلات وتحولات بنو البشر فيها  ؛ يرى بعين اليقين ان الدنيا ليست للإقامة الدائمة او المكوث الطويل في هذا المكان او ذاك  ,  والعيش الحقيقي لا يتحقق بالتحجر والجمود والتقوقع حول البيت والقرية والمحلة والمدينة ... ؛ فالحياة في السفر والعيش في التحول من حال الى حال ... .  

السفر للإنسان من الضرورة بمكان ؛ وعلى الصعيدين الخارجي والروحي والنفسي – وقد عبر المتصوفة عن السفر الداخلي بالأسفار او مراحل السير والسلوك نحو الله او رحلة اكتشاف الحقيقة - ؛ فمن خلاله  تتعرف على الثقافات المختلفة الاخرى وتزداد معرفتنا وخبرتنا في شؤون  الحياة واحوال بني البشر , ونراجع حساباتنا  ونحاسب انفسنا  ونخلو بها ؛ مما يؤدي الى احياء جذوة مشاعرنا وعواطفنا  تجاه الحياة والناس , وتوليد العديد من الافكار والرؤى الجديدة ؛ فالسفر يوسع عقولنا  ويعدد خياراتنا  في الحياة  ... ؛ و كلمة “سفر” :  قد تعني رحيل ، وفي معنى آخر الكشف والإظهار، ربما توجد صلة وثيقة بين المعنين رغم ما يبدو بينهما من بعد؛ فالسفر كما يقولون يُسفر عن معادن الناس وأخلاق الرجال وهو معنى مشترك في أمثال الأمم والشعوب، وأيضاً يكشف السفر للإنسان عن زوايا جديدة في نفسه، وفي العالم، وفي وطنه بخوضه لتجربة مختلفة ورؤيته مدى الاتفاق والاختلاف بين البشر , وما يراه الناس عن السفر يظهر في آرائهم عن رحلاتهم ... . 

و السفر هو إنعتاق من القيود المكانيّة و الزمانيّة ,  إذْ هو مغادرة لمكان ما و إتّجاه  نحو مكان آخر قد يكون مجهولا و قد تكون هناك فيه إختلافات في الزمن بينه و بين مكان الإنطلاق ؛  السفر هو غذاء للرّوح و الفكر , إذْ هو يرفّه عن الذات إنْ كلّت من الروتين و العمل .

 ومما قاله الشافعي في هذا الصدد :

سافر تجد عوضاً عمن تفارقه… وانصب فإن لذيذَ العيشِ في النصبِ

إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسده…  إن ساحَ طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ

فالشخص الذي لا يبرح منزله  يبقى بنفس المستوى العقلي والثقافي كالحجر لا يتغير ولا يتزحزح من مكانه ؛ اذ ان العالم مثل الكتاب، و من لا يسافر يقرأ منه صفحة واحدة فقط ـ  كما قال القديس أوغسطين  - ؛ والسفر بالتأكيد أهم من مجرد مشاهدة المعالم الشهيرة والمباني الجميلة  والبحار والانهار والجبال والوديان والصحارى والبراري ... الخ ؛ و من لم ير إلا بلده يكون قد قرأ الصفحة الأولى فقط من كتاب الكون – كما قال  فرانسيس بيكون - ، إنه التغيير العميق و الدائم في رؤيتنا للحياة وفهمنا لطبيعة الكون وبني البشر  ؛ بل ان السفر يساعدك على اكتشاف نفسك قبل معرفة الاخرين , فقد يعني السفر ان تقوم برحلة داخل نفسك كما ذكرنا انفا من خلال الاختلاء بنفسك  والعزلة والابتعاد عن مشاغل حياتك وشؤون وطنك ومسؤولياتك تجاه الاخرين , بالإضافة الى انه يقضي او يخفف من اثار التحيز والتعصب والانغلاق الفكري والثقافي  وذلك من خلال احتكاك المسافر بالشعوب الاخرى ومعرفة سماتها واخلاقها ... لذلك قيل : قصر النظر من عدم السفر , نعم قد لا يستفاد المريض بالتعصب والعقد النفسية  والمصاب بالانغلاق والتقوقع على نفسه من السفر شيئا ويبقى كما هو ,  ؛ وعليه لا تتم فائدة الانتقال من بلد إلى بلد إلا إذا انتقلت النفس من شعور إلى شعور ؛ فإذا سافر معك الهم فأنت مقيم لم تبرح ـ  كما قال مصطفى صادق الرافعي – وكما قال توماس فولر : ((   إذا ذهب الحمار مسافرًا فلن يعود إلى المنزل حصانًا )) ... ؛ فجوهر السفر لا ينحصر في الاكتشافات الحقيقية ورؤية الاراضي والاماكن الجديدة فقط بل في الحصول على الرؤى المختلفة والافكار المغايرة ايضا ؛ وبما الحياة قصيرة و العالم واسع جدا،ً فكلما بدأت في اكتشافه أسرع كلما كان أفضل ـ كما قال  سيمون رافن  - . 

ولعل البعض يسأل لماذا تختار الطيور البقاء في نفس المكان بينما يمكنها الطيران في أي مكان على الأرض ، ثم أطرح على نفسي نفس السؤال – كما قال هارون يحيى - ؛ فليس من المنطقي ان يبقى الشخص في المكان الذي تأذى فيه واكتوى بناره وكان بإمكانه الهجرة والسفر الى البلاد الاخرى ؛ وقد انشد الامام علي قائلا : 

فإِن قيلَ في الأسفارِ ذلٌ ومحنةٌ … وقطعُ الفيافي وارتكابُ الشدائدِ

فموتُ الفتى خيرٌ له من قيامِه … بدارِ هوانٍ بين واشٍ وحاسدِ

فأن لم تستطع السفر بالطائرات سافر بالقطارات وان لم تستطع سرا مشيا على قدميك ؛ فهذا خير لك من المقام بدار الذل والهوان , والعيش نفسه حقيقته قد تعني السفر نحو نهاية العالم ... وعليه تكون سلوة الانسان في الحياة السفر , كما قال جورج كلوني : (( لا أؤمن بالنهايات السعيدة ، لكنني أؤمن بالسفر السعيد ، لأنك في النهاية تموت في سن مبكرة جدًا ، أو تعيش طويلاً بما يكفي لمشاهدة أصدقائك يموتون ,  إنه شيء لئيم ، الحياة )) . 

ومن اجمل انواع السفر ؛ السفر الاستطرادي ، حيث لا يوجد هدف محدد ؛ وهذا النوع لا يسلكه الا المتصوفة والدراويش واصحاب المغامرات والمتسكعين والصعاليك , وفيه توجد الكثير من المفاجآت والمطبات ؛ لان السفر الاعتيادي يعتمد على التخطيط ومعرفة الوجهة وباقي التفاصيل المهمة . 

ويبقى السفر ملاذ الاحرار وصومعة الهاربين والمهاجرين من اماكن البؤس والصراع والجهل والازمات ... ؛ وكما قالت كيكي سميث : ((أعتقد أن هذا الإحساس بالسفر دائمًا له علاقة بإخفاء الهوية والخصوصية والمتعة في التمتع بحياة واضحة للغاية ومختصرة للغاية )) ؛ فالأحرار يسافرون دائما لانهم يكرهون تعطل حياتهم وتعطيل قواهم  بسبب الروتين الممل والرتابة اليومية الجامدة ؛ لذلك قال دان راذر : (( لم أؤمن أبدًا بقياس قيمة الفرد من خلال حجم حسابه المصرفي ؛أنا أفضل أن أنظر إلى المسافة المقطوعة )) فقيمة الحياة وجوهرها عبارة  عن : رحلة لا نهاية لها ؛ ونحن نسافر لنكتشف جمالها وجلالها ؛ فلابد لك من السفر حتى وان كانت الطرق وعرة وأماكن الاقامة سيئة ؛ فالسفر هو وسيلة لإطالة الحياة ، على الأقل في المظهر – كما قال جون ديوي - ؛ فلا يمكن قياس النجاح والسعادة في الحياة  إلا من حيث المسافة المقطوعة ؛  نعم قد تتعرض في السفر للمضايقات والوثوق بالغرباء والتعرف الى تجار وسماسرة الجنس والدعارة ,  وفقدان كل تلك الراحة المألوفة في المنزل و بين الأصدقاء ؛ الا ان هذا لا يعني شيئا امام فوائد السفر العديدة ؛ فالسفر قد يعني البحث عن الجنة المفقودة او الامل او السعادة ... ويبقى الانسان سائرا في درب السفر والتنقل والترحال ولا يوقفه الا الموت -  وهو الذي  قد يعني السفر ايضا ؛ ولكن الى العالم الاخر -  .