المقدمة
(1)
لا اظن ان هذا العنوان دقيقا من الناحية الفلسفية والنظرية ؛ لان الزيف لا يجتمع مع الصدق كما الكذب تماما ؛ فهما متضادان ومتناقضان ؛ الا انني اتماهى مع بعض العبارات السائدة ومنها ما ورد في العنوان اعلاه : ( الصديق المزيف او الصداقة المزيفة ما شئت فعبر ) من باب حشر مع الناس عيد ؛ ولان الامر خفيف المؤنة ؛ فالمعنى هو ما اصبو اليه ؛ و طبقا للحكمة القديمة : ((تعرف الأشياء بأضدادها )) فإن الإنسان لا يعرف خصوصيات النهار إلا إذا جاء الليل، ولو كان النهار مستمراً لم يعرف الإنسان حقيقة النهار، والعكس صحيح أيضاً، كما أن الإنسان لا يعرف حقيقة العطش إلا بعد معرفة حقيقة الارتواء، وبالعكس، إلى غير ذلك من الأمثلة... ولمعرفة الصديق المزيف لابد لنا من اجراء مقارنة بين الصديق الصديق و الصديق المزيف او الصاحب المزيف بتعبير ادق ؛ وفيما يلي يتضح معنى كل منهما وتظهر خصائصه ؛ وسأبيّن الفرق بينهما .
فالصديق مشتق من الصدق كما اعتقد واؤمن ولكل منا وجهة نظر ؛ فهو ذاك الشخص الذي يصدقك ويصدق معك بمشاعره وعواطفه ومواقفه وكلماته , ويبادلك الاحاسيس الصادقة والنابعة من القلب , ولا يسيء الظن بمشاعرك تجاهه ,وهو الكهف الذي تلتجئ اليه عندما تداهمك الخطوب وتنزل بك النوازل وتهجم عليك نوائب الدهر , والسند المعتمد والحصن الحصين الذي تحتمي به من هجمات الاعداء وشماتة الانذال وخذلان المعارف والاقرباء ... ؛ فكلمة الصداقة مشتقة من الصدق كما اسلفنا انفا ، وأول ما نبحث عنه في الصديق أن يكون حقيقياً وصادقاً في أقواله وأفعاله، والأهم من ذلك أن يكون حقيقياً وصادقاً في مشاعره ونواياه ... ؛ و لكن لا مفر من التعامل مع الأشخاص المزيفين، والخبرة الاجتماعية المتراكمة هي التي تجعلنا أكثر قدرة على تمييز ومعرفة الصديق المزيف من غيره و كيفية التعامل معه و معرفة مدى تأثير الصداقة المزيفة على حياتنا.
هناك ظواهر مرضية اجتماعية ونفسية يعاني منها المجتمع وتستنزف المجتمع بشكل خطير، ومنها : أننا مجتمع نهتم بالظاهر والشكل على حساب الجوهر والمضمون حتى اختل حكمنا على الأمور، لأننا أصبحنا لا نقيم وفق معايير ثابتة حقيقية ، ولكن وفق استيفاء مظاهر الشكل ، فطالما استوفيت الأوراق أو المظاهر فلا يهم بعد ذلك أي شيء حتى أصبحت حياتنا أشباه أشياء في كل المجالات فلدينا شبه تعليم وشبه ثقافة وشبه علاقات اجتماعية وشبه منظومة صحية وشبه رياضة وشبه تدين ... ليصبح في الحقيقة مجتمعنا شبه مجتمع ؛ أننا لا نتعامل بعمق وصدق مع الأمور ، ولا نريد أن نعالج مشاكلنا بشكل حقيقي بدءاً من مشاكلنا الاجتماعية في الزواج والطلاق والصداقة والزمالة والحب... كل هذه المنظومات تحتاج إلى مراجعة شاملة ونعاني من تفاصيلها ، ولكن لا يجرؤ أحد على الاقتراب الحقيقي وإزالة ركام من الموروثات ، فعلى سبيل المثال في الزواج نكتفي بالحديث عن فشله والتعاسة فيه، ولا أحد يتساءل كيف نتزوج أو لماذا نتزوج ؟ ليستمر الزواج بنفس طريقته البائسة، فنتزوج مثلما يتزوج الناس ونتزوج تشبُّهاً بالأصدقاء والاقارب ، او نتزوج لننجب أطفالا لا نعلم شيئا عن كيفية تربيتهم أو حتى لماذا أنجبناهم وماذا نريد منهم وماهي واجباتنا نحوهم ؟
ولعل تشبث البعض منا بالعلاقات الاجتماعية المزيفة والعابرة والسطحية تعبر عن تعويضٍ شديد لإحساس بالنقص وفقدان الامان والعطف والحنان ... و يتخيل ذلك البعض بان المجتمع سوف يعوضه من خلال تلك المظاهر الكاذبة الخاوية البائسة والتي تخفي وراءها هشاشة نفسية مرعبة .
إن العشوائية النفسية والاجتماعية وحالات التناقض بين الفعل والقول هي علامات لمرض نفسي شديد للمجتمع عندما نرصدها في الأفراد فإننا نتوقف ونبادر بالعلاج فإن الحقيقة أنها في المجتمع أولى وأهم ، لأن علاج المجتمعات أصعب من علاج الأفراد وأكثر تعقيدا ؛ لأن علاج الأفراد يحتاج إلى الطبيب النفسي ولكن علاج المجتمع يحتاج أن ينهض كل المجتمع لعلاج نفسه. (1)
ومما تقدم نعرف ان الصديق المزيف هو الصديق الذي تكون علاقته بك مبينة على الخداع والكذب أو المصلحة او لقضاء الوقت في الثرثرة معك ليس الا ... الخ ، ولا يكون صادقاً بمشاعره أو مخلصاً بصداقته او مهتما بمعرفتك وتفقد احوالك ونجدتك ، وقد يكون الصديق المزيف مزيفاً مع سبق الإصرار والتخطيط، أو تمنعه بعض صفاته الشخصية السلبية من الإخلاص أو الدخول في علاقة صداقة حقيقية.
فالشخص المزيف هو الذي يظهر بصورة مختلفة عن حقيقته، سواءً على مستوى المعلومات التي يقدمها لأصدقائه عن نفسه وحياته، أو على مستوى مشاعره الحقيقية تجاه الآخرين أو مواقفه وأفكاره.
وليس من النادر أن يتحول الصديق الحقيقي إلى صديق مزيف بسبب التغيرات التي يمر بها الصديق أو التغيرات التي تمر بها العلاقة او بسبب التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الكبرى التي يمر بها المجتمع ومن ذلك قالوا : ((صديق في السلطة هو صديق فقدته )) وعليه لا تستغرب عندما يتخلى النذل عن أصدقائه القدامى واصحابه الخلص عندما تتغير احواله نحو الاحسن ؛ فالفقير والضعيف والنكرة عندما بصبح غنيا وقويا ومعروفا سرعان ما ينسى اصحابه وينكر قديم مودتهم ويتبرأ من عشرتهم ... وقد صدق حكيم العراق الامام علي عندما قال : ((إذا بلغ المرء من الدنيا فوق قدره تنكرت للناس أخلاقه )) ، وغالباً ما تظهر علامات انهيار الصدق في العلاقة وتحوّلها إلى صداقة مزيفة بشكلٍ واضح ومزعج ... وقد بين حكيم العراق الامام علي ذلك عندما قال : ((ما اضمر أحدكم شيئا الا أظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه ))
والمقصود هاهنا ان الاعتقادات والمشاعر والاحاسيس والشهوات التي يضمرها الانسان ويحافظ عليها ويراعى سترها عن اطلاع الغير عليها لمصالح متصورة ومقاصد اختيارية سواء كانت نافعة أو ضاره فإنها وان بولغ في مراعاة حفظها واجتهد في عدم اطلاع الغير عليها لا بد وان تظهر، ثم إنه – الامام علي - نبه على سببين من أسباب الظهور وحكم بأنه لابد وان تظهر بأحدهما مع تلك المحافظة ؛ ولكن هذا لا يعني انحصار انكشاف حقيقة الشخص بهذأين الامرين فقط ؛ ولذلك قيل : (( يعرف الصديق من العدو، بسقطات اللسان ولحظات العيون )) .
وبما ان الصداقة من أنبل الأشياء الموجودة في العالم – لذلك قيل ان الصداقة اسمى العلاقات الاجتماعية - ؛ وبما ان الصداقة الحقيقية هي التي يشترك فيها العقل والقلب والضمير ؛ اصبحت عملة نادرة لاسيما في المجتمعات المريضة والمأزومة ؛ ومن الشعر الذي نسب لحكيم العراق الامام علي قوله :
تَغَرَّبْتُ أَسْأَلُ مَنْ عَنَّ لِي *** مِنَ النَّاسِ هَلْ مِنْ صَدِيقٍ صَدُوقٌ
فَقَالُوا عَزِيزَانِ لَا يُوجَدَانِ *** صَدِيقٌ صَدُوقٌ وَ بَيْضُ الْأُنُوق
و الأَنُوقُ : (الرخمة) طائر مِنْ فَصِيلَةِ النَّسْرِيَّاتِ ، مِنْ رُتْبَةِ الجَوَارِحِ، لَهُ رَأْسٌ وَعُنُقٌ عَارِيَانِ مُلَوَّنانِ يتخذ الجبال مأوى لنفسه، و يَتَغَذَّى مِنَ الجِيَفِ و الحيوانات الميتة.
و " أعَزُّ مِنْ بَيْضِ الأَنُوقِ " مَثَلٌ : ذَلِكَ لأنَّهُ مِنَ الصَّعْبِ الظَّفَرُ بِهِ لِوُجُودِ الأَنُوقِ فِي الأمَاكِنِ الوَعْرَةِ و أعالي الجبال و قممها الَّتِي يَسْتَحِيلُ الوُصُولُ إلَيْهَا، وَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى أيِّ شَيْءٍ صَعْبِ الْمَنَالِ .
و الامام علي أراد أن يقول بأن الصديق الصادق و المخلص يكاد يكون نادراً جداً و قد يستحيل الظفر به كما يستحيل الوصول الى بيض الأنوق.
فمن الصعوبة أن تجد صديق حقيقي صادق في كل شيء ، يقف بجوارك وقت الشدة والفرح دون مصلحة ويقدم لك النصيحة والمشورة دون فائدة ، ولكن في حقيقة الأمر ما أكثر الأصدقاء المزيفين في هذا العالم اليوم، لا يعرفونك إلا وقت المصلحة فقط ، وعند المواقف التي تبين الصديق الحقيقي لا تجدهم، ولا تجد منهم من يساندك او يقف بجانبك او يخفف عنك اوجاع الحياة ؛ وقد عبر الشاعر الشعبي العراق عريان السيد خلف عن هذه النوعية البائسة من الاصحاب بقوله : ((ﺻﺤﺒﺔ ﻟﻴﻞ ﻛﺎﺱ ﻭﻛﻬﻜﻬﺔ ﻏﻤﺎﻥ ... ﻣﺤﺎﺑﺒﻬﻢ ﺟﺬﺏ ﻭ ﻣﺰﺍﺣﻬﻢ ﺑـــﺎﺭﺩ ...)) .
.......................................................................................
- علم نفس التدين (5).. هل يمرض المجتمع نفسيا؟ عمرو أبو خليل / بتصرف .