حين صحت الشعوب في البلدان "العربية"، وطالبت بحقوقها، وصدحت بأعلى صوت في الساحات رافعة شعار؛ الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فزعت واشنطن وحلفاؤها، فجلسوا يدرسون كيفية الحفاظ على المصالح هنا، وكيفية العرقلة هناك، وتساءلوا عن مصير الإبن غير الشرعي الذي يعيش في الشرق الأوسط "إسرائيل" إن حدث أي تغيير هناك.
بعد مراعات نقطتين أساسيتين؛ الأمن القومي "لإسرائيل"، ومصالح الغرب في المنطقة، برمجوا للعمل بما هو متاح، وخططوا للبدائل، فماهي الطرق والوسائل المتاحة والتي بناها الغرب منذ زمن ؟ وكيف استطاعت واشنطن أن تؤثر على الواقع الذي حدث في البلدان "العربية"، ولماذا ؟ وماذا بعد ؟
قبل أن نبدأ سطورنا، لابد أولا من أن نستحضر ثلاثة أمور مهمة، الأول؛ أن أي يقظة للشعوب ومطالبة بالديمقراطية لا تخدم مصالح الغرب أبدا، وسيقف ضدها في الخفاء رغم كل ما يعلن. ثانيا؛ أن ما يحيكه في الخفاء، غالبا ما يتحقق، لأنه يسخر لذلك الغالي والنفيس. ثالثا؛ أن المؤسسات العسكرية التي تمسك بزمام السلطة في غالب البلدان "العربية" إن لم نقل في العالم ككل، تخضع لواشنطن، ويمكن أن نصل لهذه الخلاصة، عبر قراءة بيسطة لتاريخ المؤسسة العسكرية وعلاقتها بالبيت الأبيض.
خرج الشعب المصري يوم 25 يناير 2011 ضد الفقر، والجهل والبطالة والغلاء، ورفع شعار إسقاط النظام فيما بعد، دق ناقوس الخطر، في الغرب، وجعل البيت الأبيض يخطط لمستقبل مصر، ويحرك المؤسسة العسكرية وفق المصلحة "الصهيوأمريكية"، وبتتبعنا للتسلسل الزمني للأحداث في مصر، وكيف أن الجيش هو من حسم الأمر في ثورة 25 يناير، لم يكن هذا التدخل لسواد عيون الشعب كما ظن العديد من المراقبين آن ذاك، بل أخفى مخططا مستقبليا يضمن أن مصر لن تضيع منه، ولن تضيع من البيت الأبيض، وقد حدث ذلك فعلا، تدخل الجيش، وتنحى مبارك، وأقيمت الانتخابات، وفاز فيها الدكتور "محمد مرسي"، ثم بدأ مخطط الجيش يدخل حيز التنفيذ منذ الوهلة الأولى، وحين صار جاهزا، خرج المعارضون للرئيس، إلى الشارع مطالبين بإسقاطه، وما هي إلا أيام حتى تكرر نفس السناريو السابق، بتدخل الجيش من جديد لعزل أول رئيس منتخب في مصر، ولينتقل الجيش من الإمساك بزمام السلطة في "الظل"، إلى الإمساك بها في "الواجهة".
وفي تونس هرب "بن علي" الذي حكم البلاد بقبضة حديدية طيلة ما يزيد عن العقدين، وبعد رحيله، عاشت تونس مرحلة مد، على مستوى الديمقراطية، لكن سرعان ما عادت للجزر، فبقايا النظام "العسكري"، والرئيس "بن علي" والرئيس "بورقيبة"، تجمعوا في حزب واحد، للانقلاب "بصناديق الاقتراع"، فكان لهم ما أرادوا.
مخطئ من كان يظن بأن "جماعة الحوثي" في اليمن، كانت تأمل تحقيق مطالبها بشكل سلمي، لأنه من المستحيل أن نصدق أن جماعة مسلحة، تحتج سلميا، خصوصا وأنه سبق لها أن خاضت حروبا مع نظام الرئيس اليمني السابق "عبد الله صالح"، لقد كانت هذه هي الخطة البديلة للانقلاب على إرادة الشعب، لتكرار ما حدث في مصر.
بالنسبة للوضع السوري، لا بد من الإجابة عن سؤال؛ لماذا وصل الأمر فيها إلى هذا الحد ؟ وهنا لابد من ذكر نقطتين أساسيتين:
الأولى: أن خصوصية سوريا تختلف عن تونس ومصر أو غيرهم، بحث أن "سوريا"، تعتبر ساحة تجاذب، فمن المعروف عنها تاريخيا أنها في "المعسكر الشرقي"، ولعل تحكم روسيا بالملف السوري حاليا دليل على ذلك. إذن، فمن الطبيعي أن تصير ساحة للاقتتال ولتصفية الحسابات السياسية بين الدول، حين تود واشنطن التدخل لاستغلال الموقف وخدمة مصالحها.
الثاني: أنه وباعتبار أن واشنطن لم تكن تستحوذ على سوريا، فلم يكن لديها بديل يضمن مستقبلها، ويضمن بقاء مصالحها، مثل ضمانة المؤسسة العسكرية في مصر، وضمانة بقايا النظام السابق في تونس، لذلك لا بد من إبقاء الأمر على ما هو عليه، إلى غاية التوصل لحل يبقي مصالح البيت الأبيض، وغالبا فمصلحة هذا الأخير، هي في تقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات.
لابد أن يتدخل الغرب بشكل من الأشكال، إما عن طريق وسطائه في البلدان، من قبيل المؤسسات العسكرية التي تعد خليلا للبيت الأبيض عبر تاريخها، أو عبر إدامة الصراع إن لم تكن هناك خطط بديلة، مثل ما يحدث في ليبيا، فما دام "حفتر"، لم يستطع أن يصل إلى درجة الثورة المضادة، وتشكيل قوة مؤثرة على المشهد، فسيطول الصراع إلى أن يتم تغيير الخطة، وقد نكون أمام ذلك في الشهور القادمة، أو كالذي يحدث في سوريا، فكما قلت سابقا، فدمشق لم تكن في يد أمريكا، بل كانت تتقاسمها موسكو وطهران، وفي حال لم يجهز البديل، سيحاولون إطالة أمد الصراع ما أمكن، كل هذا حفاظا على مصالحهم الخاصة، ولنتأكد بأن أمريكا لن تدعنا وشأننا أبدا، لذلك لابد من استحضار تكالبها على كل إرادة تغيير، في أي هبة شعبية.
بقلم: شفيق عنوري