[كتب أنخيل دي ماريا هذه المقالة بتاريخ 25 يونيو 2018، وظهرت بالإسبانية والإنجليزية على صحيفة the players tribune]
ترجمه عن الإنجليزية: الغازي محمد
يحضرني جيدًا ذلك اليوم الذي تسلّمت فيه رسالة قادمة لي من ريال مدريد، وقد كان أن مزّقتها إربًا إربًا دون حتّى أن أفتحها.
كان هذا صباح نهائي كأس العالم 2014، تحديدًا في الحادية عشرة صباحًا، وكنت حينها أجلس استعدادًا لأحقن رجلي بمسكّنات الآلام، فقد تمزقت عضلة فخذي في الدور ربع النهائي، ولكن بمساعدة المسكنّات كان يمكنني الركض دون أي إحساس بالألم. وأذكر بالنصّ ما قلته للمعدّين البدنيين حينها: "إن كان هذا يعني أن ينتهي أمري، فليكن، ليس مهمًا، المهم عندي أن أكون قادرًا على اللعب".
وفي هذه اللحظة، وبينما أضع ثلجًا على فخذي المصابة، جاء طبيب المنتخب، دانييل مارتينيز، قائلًا وبيده مظروف مغلق: "أنخيل، لقد وصلت هذه الرسالة للتوّ من ريال مدريد"
"ما الذي تتحدث عنه؟" أجبته
"إنهم يقولون أن حالتك لا تسمح لك باللعب، وبالتالي هم يخبروننا أننا لا يجب أن نسمح لك باللعب اليوم، لزومًا"
وفي التوّ واللحظة، فهمت ما يجري، لقد كان الجميع على علم بالأخبار التي تقول أن ريال مدريد ينوي التوقيع مع خاميس رودريجيز بعد انتهاء كأس العالم، وكنت على يقين أنهم سيبيعونني ليفسحوا له مكانًا، وبالتالي لم يرد ريال مدريد لأصله الاقتصادي (asset) أن يُدمّر (أي سعر ديماريا). هكذا هو الأمر ببساطة. هذا هو بيزنس كرة القدم الذي لا يراه الكثير من الناس.
التفت لدانييل قائلًا: أعطني هذه الرسالة، ولم أفتحها حتّى، كل ما فعلته كان أن مزّقتها إربًا إربًا، ثم قلت له: "ألق بهذه إلى القمامة، أنا صاحب القرار الوحيد في هذا الشأن"
لم أكن نمت جيدًا في الليلة التي سبقت هذا الصباح، جزئيًا لأن جمهور البرازيل كان يطلق الألعاب النارية طوال الليل بجوار فندقنا، ولكن حتّى لو كانت الليلة هادئة كأتم ما يكون الهدوء، لما استطعت النوم أيضًا. فشعوري في هذه اللحظة أمر يستحيل شرحه، شعورك ليلة نهائي كأس العالم، حيث يكون كل شيء حلمت به ماثلًا أمام عينك وعلى بعد خطوة واحدة منك.
أردت اللعب بشدّة حتى لو كان هذا يعني نهاية مسيرتي. لكنّي كذلك لم أرد أن يكون هذا على حساب تعقيد الأمور بالنسبة للفريق، لذا، استيقظت مبكرًا، وذهبت للقاء المدرّب [أليخاندرو] سابيلّا، ولأن علاقتنا كانت قوية جدًا، فإنني كنت سأضغط عليه لو طلبت منه أن يضعني في التشكيلة الأساسية، لذا، أخبرته بكل صدق، وأنا واضعٌ يدي على قلبي، أنه يجب أن يبدأ باللاعب الأنسب للبدء أيًا كان هو.
قلت له: "لو كان هذا اللاعب هو أنا، فليكن الأمر كذلك، ولو كان غيري، فليكن غيري، كل ما أريده هو أن نفوز بهذه الكأس، وأريدك أن تعرف أنك لو طلبت مني اللعب، فسألعب حتّى نقطة الانهيار"
بعد أن قلتُ هذه الكلمات، لم أتمالك نفسي وانفجرت باكيًا، لقد غمرتني اللحظة بالمشاعر.
ثم كان أن أعلن سابيلّا، في كلمته للفريق التي تسبق المباراة، أن إينزو بيريز هو الذي سيبدأ المباراة لأنه جاهز تمامًا بدنيًا. ولم أمانع أبدًا ذلك القرار. لكن احتياطًا، حقنت نفسي بحقنة أخرى من المسكّن قبل بداية المباراة، وأخرى قبل بداية الشوط الثاني، لأكون جاهزًا إذا ما استلزم الأمر.
ولم يستلزم الأمر، وخسرنا النهائي في نهاية المطاف، وكان هذا اليوم هو أصعب يوم مرّ عليّ في حياتي كلها. وبعد المباراة، بدأت وسائل الإعلام في نشر الكثير من الأشياء المؤذية حول السبب الذي من أجله لم ألعب. بينما كانت الحقيقة - كل الحقيقة - هي ما قصصته عليكم آنفًا.
لكن، حتّى اليوم، لا زالت اللحظة التي انفجرت فيها باكيًا أمام سابيلا تهجم على ذاكرتي. وذلك لأنّي دائمًا ما تساءلت: هل ظنّ سابيلّا أن بكائي سببه أنني كنت متوترًا في هذه اللحظة؟
الحقيقة أن الأمر لا علاقة له البتّة بالتوتر أو القلق، لقد اجتاحتني المشاعر في هذه اللحظة بسبب معناها بالنسبة لي، في تلك اللحظة، كنّا قاب قوسين أو أدنى من الحلم المستحيل.
حوائط منزلنا، كان يفترض بها أن تكون بيضاء اللون، لكنّي لا أذكر أنني رأيتها يومًا وهي بيضاء، أول ما أذكره أنها كانت رمادية اللون، ثم انقلبت سوداء تمامًا من غبار الفحم. فوالدي كان فحّامًا، لا من أولئك الذين يعملون في المناجم، بل كان يعبئ الفحم في فناء منزلنا الخلفي. هل سبق ورأيتم كيف يُصنع الفحم؟ تلك الأكياس الصغيرة التي تشتريها من المتجر لحفلة الشواء أتتك من مكان ما، وبكل صدق: هذا مكان لا تحب أن تراه.
كان والدي يعمل في فناء المنزل لا يحميه سوى سقف من الصفيح، يعبئ قطع الفحم ليبيعها في السوق. ولم يكن وحده بالطبع، فقد كنت أساعده أنا وأختي الصغرى كل صباح، قبل أن نذهب إلى المدرسة، وكنّا لم نبلغ التاسعة أو العاشرة في هذا الوقت، وهو السنّ الأفضل لتعبئة الفحم، لأنك تعتبر الأمر كله لعبة لا أكثر. وعندما تصل الشاحنة التي ستحمل الفحم، نحمل الأكياس عبر غرفة المعيشة لنوصلها من الفناء إلى باب المنزل، ولهذا تحوّلت جدران المنزل إلى اللون الأسود بمرور الزمن.
لم يكن أمامنا من خيار آخر سوى هذا لنؤمن أقواتنا، ولم يكن أمام والدي من خيار آخر ليحمي به منزلنا من أن يؤخذ منّا.
لمدة قصيرة من الزمن، عندما كنت رضيعًا، كانت أحوال والديّ جيدة إلى حد ما، لكن والدي حاول أن يسدي معروفًا لاحد أصدقائه، ومن يومها تغيّرت حياتنا تمامًا، فقد سأله صديقه ذاك أن يوقّع له كضامن لسداد قرض منزله، كان والدي يثق به، لكن ما حدث أن هذا الرجل تأخر في السداد، وتراكمت عليه الأقساط، وفي يوم من الأيام اختفى تمامًا، وهاهنا لم يكن أمام البنك سوى والدي، وأصبح الآن لزومًا عليه أن يسدد أقساط منزلين، منزلنا والآخر الذي ضمنه، وأن ينفق على أسرته مع ذلك.
لم يبدأ والدي عمله بالفحم، فقد حاول قبلها أن يفتتح متجرًا صغيرًا في غرفة منزلنا المطلة على الشارع، كان يبيع المنظّفات، حيث يشتري تلك البراميل الكبيرة من المواد المنظفة والكولور والصابون ..إلخ، ويعيد تعبئتها في زجاجات صغيرة ليبيعها لأهل الحيّ، فلو كنت من أهل حينا، فلن تذهب للمتجر لتشتري زجاجة منظّف. لقد كانت غالية جدًا بالنسبة لنا. ستذهب بدلًا من ذلك إلى بيت دي ماريا، وستعطيك أمي زجاجة منظّف بسعر أرخص بكثير من سعر المتجر.
وفي الحقيقة سار الأمر على ما يرام، حتّى أتى ذلك اليوم الذي قرر فيه صغيرهم أن يفسد كل شيء وكاد أن يقتل نفسه مع ذلك!
نعم!، هذا صحيح!، لقد كنت ولدًا مشاغبًا.
لم أكن ولدًا سيئًا، لكنّي كنت أتفجّر طاقة، كنت مفرط الحركة، لذلك، في هذا اليوم، بينما كانت أمي تبيع في "متجرنا" وكنت أنا ألعب بجوارها في الغرفة وكان باب المنزل المطلّ على الشارع مفتوحًا ليدخل منه الزبائن، وفي لحظة انشغال من أمي، أكلتني رغبة في الاستكشاف، وبدأت المسير ..
وفي لحظة كنت في منتصف الشارع، وكان على أمي أن تهروّل مسرعة لتنقذني قبل أن تصدمني سيارات المارة. تخبرني أمي فيما بعد وهي تحكي أن الأمر كان دراماتيكيًا لأقصى حد.
وبهذا، كان هذا هو اليوم الأخير لمتجر ديماريا للمنظفّات. أخبرت أمي أبي أن الأمر خطير جدًا وأننا بحاجة إلى البحث عن مصدر رزق آخر.
وعثر أبي في النهاية على هذا الرجل الذي يحضر شاحنات الفحم من سانتياجو ديل إستريو. ولم يكن لدينا في هذا الوقت مال يكفي لشراء الفحم حتّى، لذا أقنع أبي الرجل أن يؤخر دفع ثمن الشحنات الأولى، وهكذا، كنت عندما أطلب منه بعض الحلوى أو الأشياء الأخرى، أنا أو أختي، يردّ قائلًا: "أنا الآن مدين بثمن منزلين، وشاحنة من الفحم".
أذكر يوم كنت أعبئ بعض أكياس الفحم، وكان الجو باردًا ومطيرًا. ولا يحمينا منه سوى سقف من الصفيح لا أكثر. كان الأمر صعبًا جدًا، وبعد بضع ساعات، حان موعد ذهابي للمدرسة، حيث كان الدفء، لكن أبي، توجّب عليه الاستمرار في هذا البرد ليستكمل العمل طوال اليوم. فلو لم يفعل، ما كنّا لنجد طعامًا يكفينا آخر اليوم، حقيقة لا مجازًا. لكنّي أذكر أنني كنت أحدّث نفسي في هذه الأحيان، مصدقًا موقنًا: "في يوم من الأيام، كل شيء سيصبح أفضل".
ولأجل هذا، فأنا مدين لكرة القدم بكل شيء.
في بعض الأحيان، تكافئك الأيام على شقاوتك!، فقد بدأت لعب كرة القدم مبكرًا جدًا، لأنني كنت أجهد أمّي إجهادًا عظيمًا لدرجة أنها اصطحبتني إلى طبيب وأنا في عمر الرابعة لتشكو له أنني "لا أتوقف عن الركض في الأرجاء"، وتسأله: "ماذا يجب أن نفعل؟"
ولأنه طبيب أرجنتيني على أحسن ما يكون، قال لها بكل تأكيد: "ماذا يجب أن تفعلوا؟، عليكم بكرة القدم"
ومن هنا بدأت مسيرتي في كرة القدم.
كنت بها شغوفًا مولعًا، وكانت كل ما أفعله، أذكر جيدًا أنني لعبت الكثير والكثير من المباريات لدرجة أن حذائي كان يتمزّق كل شهرين، وكانت أمي تلصقه مرة أخرى بصمغ صناعي لأننا لم نكن نملك ما يكفي من المال لنشتري حذاءً جديدًا. وعندما بلغت سنّ السابعة، كنت جيدًا جدًا في اللعبة، فقد أحرزت حتّى حينها 64 هدفًا لفريق حيّنا، وفي يوم من الأيام، دخلت أمي عليّ الغرفة قائلة: "في محطة الراديو يريدون إجراء مقابلة معك"
في هذه المقابلة، كنت خجولًا جدًا لدرجة أنني بالكاد تكلمت.
وفي هذا العام، تلقّى والدي اتصالًا هاتفيًا من مدرب الشباب بنادي روزاريو سينترال يخبره برغبته في أن ألعب في صفوفه. وكان هذا الموقف طريفًا جدًا. لأن والدي داعم مخلص لنيولز أولد بويز، بينما أمي مشجعة مخلصة لسينترال. ولو لم تكن من روزاريو، فلا يمكنك أن تفهم أي منافسة حادة تلك التي بين هذين الناديين. إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لأهل روزاريو. وعندما تقام مباراة الكلاسيكو بين الفريقين، يصرخ أبي لكل هدف، وتصرخ أمي لكل هدف، والفائز منهما يعيّر الآخر لشهر كامل بهذه الخسارة.
لذا، تخيّل كيف كان حماس والدتي عظيمًا عندما علمت أن سينترال يريديني بين صفوفه.
لكن أبّي لم يكن بذلك الحماس، حيث قال: "لا أعلم، لكن المسافة بعيدة جدًا عن البيت، 9 كيلومتر، ونحن لا نملك سيّارة، كيف سنذهب به إلى هناك؟"
وهنا قالت والدتي: "لا، لا عليك، سأذهب به أنا، لا بأس"
وكانت هذه اللحظة، هي لحظة ولادة "جراسييلّا"
جراسييلّا هي درّاجة صفراء قديمة صدءة، استخدمتها أمي لتوصلني للتمرين يوميًا. كانت لها سلّة أمامية، ومقعد خلفي يكفي لجلوس شخص آخر، لكن المشكلة كانت أن أختي يجب أن ترافقنا، لذا صنع أبي مقعدًا خشبيًا صغيرًا وثبتّه بجانب الدرّاجة، ووجدت أختي مكانها.
تخيّل معي إذًا: امرأة تقطع المدينة بطولها على دراجة خلفها صبي وبجوارها صبية وفي سلة الدرّاجة أحذية رياضية وبعض المأكولات الخفيفة. على كل مصعد ومنزل، وعبر الأحياء الخطيرة، وفي المطر، وفي البرد، وفي الظلمة. أيًا كانت الظروف، ظلّت أمي تقود الدرّاجة.
وكانت جراسييلّا توصلنا إلى حيث نريد.
إلّا أن فترتي التي قضيتها مع سينترال لم تكن سهلة أبدًا، في الحقيقة كنت سأعتزل كرة القدم في هذه الفترة لولا إصرار أمي، لا مرّة، بل مرتين. فعندما كنت في الخامسة عشرة، كان جسمي ضئيلًا لم يكتمل نموّه بعد، وكان مدرّبي في الفريق شخصًا غريب الأطوار. كان يفضل اللاعبين أصحاب البنية البدينة القوية واللعب الخشن، ولم يكن ذلك أبدًا أسلوبي في اللعب. وفي إحدى أيام التدريب، لم أستطع أن أقفز لأسدد الكرة برأسي، وفي نهاية اليوم اجتمع المدرّب باللاعبين جميعًا، ثم التفت إليّ قائلًا: "أنت رعديد، العار عليك، لن تصل إلى أي مكان، ولن تحقق أي شيء"
ولك أن تتخيل، لقد دمرتني هذه الكلمات، وقبل أن يتمّ كلامه كنت قد انفجرت باكيًا أمام زملائي، وهرولت موليًا خارج الملعب.
وعندما عدت للمنزل، دخلت مباشرة إلى غرفتي وبكيت وحيدًا. لكن أمي أحست أن الأمور ليست على ما يرام، لأنني عندما أعود من التمرين في العادة أخرج للشارع وألعب المزيد من كرة القدم. عندها دخلت علي غرفتي وسألتني عمّا بي، كنت خائفًا وجلًا من أن أخبرها لأني خشيت أنها من فرط غضبها ربما ستعود الطريق كله مرّة أخرى نحو الملعب لتضرب هذا المدرب. كانت امرأة هادئة في العموم، لكن لو بدر منك أي شيء تجاه أطفالها، فيستحسن يا صديقي أن تبدأ بالجري!
لذا، أخبرتها أنني تشاكلت مع بعض الزملاء، لكنها عرفت أنني أكذب، فلجأت إلى ما تلجأ إليه الأمهات دائمًا في هذه المواقف، واتصلت بأم أحد زملائي لتقصّ عليها الخبر.
عندما عادت أمي إلى غرفتي، كنت أبكي بكاءً شديدًا، وأخبرتها أنني لا أرغب في لعب كرة القدم بعد اليوم.
وصباح اليوم التالي، لم أكن أرغب في مغادرة المنزل، لم أرغب في الذهاب للمدرسة، لأنني شعرت بإهانة بالغة. حينها، جلست أمي جواري على السرير، وقالت بحزم: "سنذهب يا أنخيل، سنذهب، اليوم!، يجب أن تثبت نفسك له"
عدت للتمرين يومها، وحدث أجمل شيء على الإطلاق!، لم يسخر زملائي منّي. بل على العكس، ساعدوني. رفعوا لي الكرّات الهوائية، وتركها لي المدافعون طواعية لأحصل عليها، لقد بذلوا ما في وسعهم لأسعد وينشرح صدري واهتمّوا لأمري جدًا هذا اليوم. كرة القدم لعبة تنافسية جدًا، خاصة في أمريكا الجنوبية التي تكون فيها كرة القدم طريقك لحياة أفضل، ولذا لن أنسى ما حييت ذلك اليوم، ذلك اليوم الذي رآني فيه زملائي أعاني فقرروا مساعدتي.
في هذا العمر، 16 عام، كنت نحيفًا ضئيل الحجم، ولم أصعد بعد للفريق الأول، وهو ما سبب قلقًا لأبي. وفي ليلة من الليالي، على طاولة العشاء، قال لي: "أمامك ثلاث خيارات: إما أن تعمل معي، أو أن تستكمل دراستك، أو أن تستمر في لعب الكرة لعام واحد، ولو لم تنجح خلاله، تأتي للعمل معي"
لم أجب، فأنا أعرف أن الأمر صعب، نحن بحاجة ماسّة للمال.
أجابته أمي، قائلة: "عام آخر في كرة القدم"
كان هذا في يناير.
في ديسمبر، في الشهر الأخير من هذا العام، صعدت أخيرًا للفريق الأول ولعبت أولى مبارياتي في دوري الدرجة الأولى.
منذ ذلك اليوم، بدأت مسيرتي الرياضية، لكن في الحقيقة كانت المعاناة سابقة على هذا التاريخ بزمن طويل. عندما كانت أمي تلصق حذائي بالصمغ، عندما كانت تقود جراسييلّا في المطر، وحتى عندما أصبحت لاعبًا محترفًا، كان الأمر لا يزال صعبًا جدًا، لا يستطيع الناس خارج أمريكا الجنوبية أن يتخيلوا صعوبة الأمر، يجب عليك أن تختبر هذه الأمور بنفسك لتعرف.
فمثلًا، لا أنسى أبدًا يوم كنا سنلاعب نادي ناسيونال في كولومبيا ضمن بطولة الكوبا ليبرتادوريس، ولأن السفر جوًا لا يشبه أبدًا نظيره في الدوري الإنجليزي أو الأسباني. بل ولا حتى يشبه نظيره في العاصمة بوينس آيرس. لأنه في هذا الوقت لم يكن هناك مطار دولي في روزاريو. كنت تذهب للمطار، وأيما طائرة وجدتها ذلك اليوم، فاستقلّها ولا تَسَل.
وكان فعلًا أن ذهبنا ذلك اليوم نبحث عن طائرة تقلنا لكولومبيا، ولم نجد سوى طائرة بضائع ضخمة، هل تعرف تلك الطائرات التي يستخدمونها في نقل السيارات وما شابه؟ تلك هي الطائرة التي كانت ستقلّنا، وكان اسمها "هركليز". انفتح ظهر الطائرة وبدأ العمّال في شحن البضائع على متنها، كان هناك الكثير من الفُرُش. نظر بعضنا إلى بعض في حيرة، وتوجهنا لكابينة القيادة ظانين أننا سنركب فيها، فقال لنا العمّال: لا لا، أنت ستركبون في الخلف، مع البضائع، وضعوا هذه السماعات.
وأعطونا هذه السماعات التي يستخدمها الجيش لحجب الضوضاء. تسلقنا على متن الطائرة، وكان هناك بعض الكراسي والفُرُش التي يمكننا الجلوس عليها أو النوم عليها، وهكذا، لثمان ساعات على هذا الوضع، قبل مباراة حاسمة في كأس الليبرتادوريس!، أغلقوا علينا الطائرة، في ظلام حالك. ونحن مستلقون فوق الفُرُش وبالكاد يسمع بعضنا بعضًا. أقلعت الطائرة، وتزحلقنا من أماكننا قليلًا قبل أن تستقر بنا في الهواء، ويصيح بنا أحد الزملاء قائلًا: "إياكم والزر الأحمر الكبير، لو لمسه أحدكم وانفتح الباب، فنحن في عدِاد الهلكى"
أمر عجيب. لو لم تعشه لن تدركه ولن تصدقه. لكن لو لم تصدّق فاسأل زملائي يخبروك بالقصة، لقد حدثت بالفعل، كانت هذه هي طائرتنا الخاصة، الطائرة هركليز!
ولا أذكر هذه الذكرى إلا وأنا في قمة السعادة، لأنه إذا أردت أن تنجح في كرة القدم الأرجنتينة فعليك أن تقوم بما يستلزمه الأمر، أي طائرة تجدها عليك أن تركبها دون أسئلة.
ولو حدث أن وجدت الفرصة أن تركب الطائرة ذهابًا بلا عودة، فعليك أن تفعل، وهو ما فعلته عندما ارتحلت نحو البرتغال، مع نادي بنفيكا. بعض الناس ينظر إلى مسيرتي الكروية ويقول: "يا لها من مسيرة، من بنفكيا إلى ريال مدريد إلى مانشستر يونايتد فباريس سان جيرمان"، وربما يبدو الأمر بالنسبة لهؤلاء بسيطًا. لكنّهم لا يعرفون حقًا كيف كانت تجري الأمور في هذه الفترات. فعندما وصلت إلى بنفيكا بعمر التاسعة عشرة لم ألعب إلا نادرًا طيلة موسمين. ترك والدي عمله وارتحل معي للبرتغال، ليضطر لأن يكون على بعد محيط من موطنه ومن أمي. وقد سمعته في بعض الليالي يحادث أمي هاتفيًا ويبكي لأنه يفتقدها كثيرًا.
في هذا الوقت، بدا أن سفري للبرتغال كان غلطة كبرى. لم أكن ألعب، وحينها رغبت في ترك اللعبة والعودة للديار.
إلّا أن أولمبياد 2008 وصل، وغيّر حياتي بالكامل. استدعيت للمنتخب الأرجنتيني رغم أني لم أكن ألعب مع بنفيكا. لن أنسى أبدًا هذا الحدث، هذه البطولة التي وهبتني فرصة أن ألتقي ليو ميسي، العبقري، الفضائي. كانت هذه أفضل أيام استمتعت فيها بلعب كرة القدم. كل ما توجّب عليّ فعله هو الجري في المساحة. سأجري، وستأتيني الكرة تحت قدميّ. تمامًا كالسحر.
فعيون ليو لا تعمل كما تعمل عيناي وعيناك. فهو ينظر يمينًا ويسارًا كأي آدمي، لكنه كذلك يمتلك قدرة خارقة على النظر من الأعلى، كما الطائر، لا أفهم كيف يكون هذا ممكنًا.
وصلنا للنهائي ضد نيجيريا، وكان هذا أعظم يوم في حياتي. أحرزت يومها هدف الفوز، وحصدنا الميدالية الذهبية للأرجنتين ... وآه من هذا الشعور!، لا يمكنك تخيّله أبدًا!
عليك أن تعلم أني حينها، ابن 20 عامًا، لا ألعب حتّى في بنفيكا. عائلتي موزعة بين قارتين. وأنا في لحظة يائسة. ثم تستدعيني الأرجنتين، وخلال عامين، أحصد الميدالية الذهبية، وابدأ في اللعب كأساسي مع بنفيكا، وأخيرًا انتقل لريال مدريد.
كانت لحظة من الفخر لا لي وحسب، بل لعائلتي وأصدقائي وزملائي الذين دعموني طيلة هذه السنوات. يخبرني الناس أن والدي كان لاعبًا أشد مهارة منّي لكن انكسرت ركبته عندما كان صغيرًا واضطر للتخلّي عن حلمه. ويخبرونني كذلك أن جدّي كان أشد مهارة من والدي لكنه فقد كلتا قدميه في حادث قطار، ومعهما فقد حلمه.
كان حلمي هو الآخر قريبًا من الموت في لحظات عديدة.
لكن أبي ظل يعمل جاهدًا تحت سقف من الصفيح، وظلت أمي تقود دراجتها، وظللت أنا أجري في المساحة.
لا أعلم ما إذا كنت تؤمن بالقدر أم لا، لكن هل تعلم ما اسم الفريق الذي كنّا نلاعبه عندما سجلت أول أهدافي بقميص ريال مدريد؟
نادي هركليز لكرة القدم.
لقد كانت رحلة طويلة.
ربما تفهم الآن لماذا بكيت أمام سابيلّا قبل هذا النهائي. لم أكن متوترًا. لم أكن قلقًا على مسيرتي. لم أكن قلقًا حتّى من عدم اللعب في هذه المباراة.
عندما وضعت يدي على صدري وأنا أحدث الرجل، كان كل همّي أن يتحقق حلمنا. أن نخلّد في التاريخ كأساطير لبلدنا. كنّا قريبين جدًا جدًا من هذا الحلم..
لذا فإن قلبي ينفطر كلما شاهدت الانتقادات التي تروج في وسائل الإعلام في الأرجنتين. في هذه اللحظات يبدو النقد السلبي خارجًا عن السيطرة. وهو أمر غير حميد أبدًا. نحن في النهاية بشر من البشر، كلنا لديه عقبات في حياته لا تظهر للآخرين.
في الحقيقة، قبل التصفيات النهائية بدأت في عرض نفسي على معالج نفسي. كنت أعاني شديدًا داخل رأسي، وفي العادة كنت أعتمد على عائلتي لتجاوز هذه الأوقات. لكن هذه المرة كان الضغط أكبر من ذلك، لذا زرت معالجًا نفسيًا، وقد ساعدني جدًا. ففي آخر مبارتين لعبتهما كنت أكثر استرخاء وراحة.
ذكّرت نفسي أنني ضمن فريق من أفضل الفرق في العالم، وأنني ألعب لأجل بلدي، وأنني أعيش حلمًا طالما تمنيته حين كنت صغيرًا، وهي أشياء كثيرًا ما ننساها كلاعبين محترفين.
وحالما فعلت ذلك، عادت اللعبة مجرّد لعبة مرّة أخرى.
في هذه الأيام ينظر الناس في الإنستجرام أو اليوتيوب إلى النتيجة، وينسون ما ورائها من تكاليف. إنهم لا يعرفون شيئًا عن تفاصيل تلك الرحلة. هم فقط رأوني أحمل ابنتي مبتسمًا مع كأس دوري الأبطال، ويظنّون أن كل شيء في حالة مثالية. لكنهم لا يعرفون أنه قبل سنة فقط من هذه الصورة، ولدت ابنتي غير مكتملة النمو، وقضت أكثر من شهرين في الحضّانة متصلة بالأجهزة.
ربما ينظر الناس إلي صورتي مع الكأس وأنا أبكي ويظنّون أني أبكي لأجل كرة القدم. في الحقيقة، أنا أبكي لأجل ابنتي، لأجل أنها هنا بين ذراعي، تعيش هذه اللحظة معي.
يرى الناس نهائي كأس العالم، وأعينهم لا ترى سوى النتيجة.
1-0
لكنهم لا يروّن كم عاني العديد منّا جاهدين ليصلوا لتلك اللحظة.
لا يعرفون شيئًا عن حوائط غرفتي التي استحالت من الأبيض للأسود.
لا يعرفون شيئًا عن والدي وسقف الصفيح الذي كان يعمل تحته.
لا يعرفون شيئًا عن والدتي، وعن جراسييلّا التي قادتها تحت المطر، وفي البرد، لأجل أبنائها.
لا يعرفون شيئًا عن "هركليز"
أنخيل دي ماريا.
https://www.theplayerstribune.com/articles/angel-di-maria-argentina-english