Image title

تجاعيد حول عينين كبيرتين، غارقتين في تجويفيهما، و رغم ذبول الجفنين و سقوطهما، حتّى ليخالها الرّائي مكابدة نعاسا غالبها، إلّا أنّ لون القزحيّة العسليّ يبهرك بنظرة اصرار حادّة. بادرتني بابتسامة حييّة، و يد ترتعش لتمتدّ و تلقي  التّحيّة. سلّمتها كفّي الأيمن و شددت بالأيسر على ظهر يدها المرتعشة، هالني الملمس ، كأرض جدباء، قحطاء، تؤذيك بنتوؤاتها و أخاديدها.

- كيف الحال؟                                                                                                                          - الحمد لله

لم أزد على سؤالي ذاك حرفا يومها، لم أقم بما عُلِّمتُه في المحاضرات: متى دخلت غرفة مريض، عرّف بنفسك، اسمك، وظيفتك، ما أنت آت لأجله، كلمات قليلة واجبة لبناء حلقات تواصل بينك و مريضك حتّى يثق بك.. هكذا عُلّمنا.

هُراء! ما كُنتُ لأستذكر هذا في أوّل يوم لي في تربّصي كطالبة طبّ حديثة عهد بتواصل مباشر مع المرضى و مع مريضة كسالمة! فلولا تلك النّظرة الثّاقبة و أنفاس مسموعة تصارع حتّى تلتقطها، لظننت، أوّل ولوجي الغرفة، أنّني كُلّفتُ بجثّةِ ما يبدو أنّها امرأة ثمانينيّة، فلم يبق لسالمة من الأنوثة سوى الاسم و من الاسم سوى سلامة الابتسامة.. هيكل عظميّ متداع، غطّته أشلاء بشرة مترهّلة. لم أجد بدّا من سؤالها عن حالتها و عن سبب إقامتها بالمشفى فبالكاد تقوى المسكينة على التّنفّس. اتّخذت لي مجلسا في ركن ركين من الغرفة لأقلّب ملفّها الطّبّي الذي يزن بضعة أرطال من التّقارير و الخيبات، لم تكن مريضتي ثمانينيّة كما ظننت بداية، بل هي فتاة لم تتجاوز سنتها الثّالثة بعد العشرين. أتى المرض على جسد الصّبيّة النّضر فلم يبق و لم يذر.. سرطان الرّئة ذو الخلايا الصّغيرة، أشدّ السّرطانات عدوانيّة و أسرعها في النّموّ و الانتشار، شُخِّصَت به منذ سنتين و خلال السّنتين كان قد قضى على أختها و والدها و فتك بأكثر جسدها.

شعرت بعجز خانق و أنا أدقّق في تاريخها الطّبّي، كيف لنفس واحدة أن تُكَلَّف كلّ هذا العناء؟ مرض طُبِعَ لعنةً في المعلومة الوراثيّة و فقر زاد الدّاء أدواء و فقدان أحبّة كان لوجودهم أن يُسِرّ عن نفسها و يؤنس وحدتها، رحماك ربّي و صبرا من عندك! 

- ما وجدت ِ في ملفّي؟                                                                                                           ما تراني أجيبها ؟ كيف عساي أن أتصرّف في مثل هذا الموقف؟ هل تعرف علّتها؟                    -أظنّهم ينتظرون نتيجة التّحاليل ليقرّروا الخطوة المقبلة في العلاج.                               أجبتها باقتضاب شديد محاولة اخفاء جزعي.                                                                      - هل لكِ أن تخبري الممرّضة أنّني في حاجة شديدة إلى المورفين؟ 

ناديت الممرّضة التي حقنتها بملّيلترات ممّا تحسبه سالمة مورفينا فلم يكن سوى قطرات من مصل فيزيولوجي نستعين به أحيانا حين يقارب المريض على مجاوزة الحدّ المسموح به من أدوية مخفّفات الألم نبحث به عن تأثير الدّواء الوهميّ لتجنّب الادمان..لكن ما ضرّ المسكينة أن تدمنه و هي على شفا حفرة من الموت؟ 

أغمَضَتْ عينيها و أسلمت نفسها إلى النّوم أو ما كانت ترجو أن يكون نوما، غفت لدقائق ثمّ عادت إلى البكاء و الأنين لتعود الممرّضة بحقنة المصل الفيزيولوجي لكنّ سالمة رجتها فيما يشبه العتاب الذي خالطه غضب مع قلّة حول و حيلة " أرجوك لا أريد هذا، أريد المورفين، لا هذا! أليس في قلوبكم من رحمة". أصبحت لطول تحمّلها المرض و لزومها سرير المشفى و مخالطتها المرضى و الممرّضين قادرة على أن تفطن للفرق .

هكذا تمضي سالمة جلّ يومها، بين عذابات تراوحها إغفاءات قصيرة أو فقدان وعي..كيف تمضي فتاة في مثل سنّها يومها؟ بين عائلة و أصدقاء و دراسة و إن كان مههن نوم فهو لراحة و تجديد طاقة. لا يدرك الإنسان عظم النّعم التي يغدقه بها ربّه منذ استيقاظه مع إشراقة شمس الصّباح حتّى ركونه إلى الرّاحة آخر اليوم، العافية التي تحملنا على الحركة و الفعل طيلة ساعات النّهار ليست من البديهيّات، المسلّمات، التي لن نفقدها بأيّ حال من الأحوال، و المرض يصيب الآخرين و قد يصيبنا أيضا ، " سَلُوا الله العفو والعافية ، فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بَعد اليقين خيرًا من العافية " صدق خير الأنام، عليه أفضل الصّلاة و أزكى السّلام.

عزمت على أن أخفّف عن سالمة، ما استطعت، من وطأة يومها. عدت صبيحة اليوم التّالي مدّعية بِشْرا و سرورا، سألتها عن ليلتها فحَمدت الله على كلّ حال بملامح من لم يذق للنّوم طعما.
- ما رأيك في أن نخرج؟
- نخرج؟ إلى أين؟ و كيف ؟ فأنا عاجزة عن الحركة!
- لا بأس، أحملك على كرسيّ متحرّك إلى حديقة المشفى، كم مضى من الزّمن منذ رأيت نور الصّباح و تنشّقت هواء عليلا؟
- لم أخرج من الغرفة منذ ما يزيد عن خمسة أشهر، كلّت نفسي!
لبثنا ساعة في الحديقة، أبان نور النّهار عن شيء ممّا أبقى عليه المرض من نضارة وجهها و جماله، و تورّدت قليلا و هي تدافع الحروف جاهدة لتحدّثني عن مشاريعها المستقبليّة، متى ستتزوج، و ممّن و أين و عدد الأطفال الذين تنوي إنجابهم ..كانت تحاول جاهدة أن تحافظ على قبس من أمل يعينها على الصّبر أو حتّى التّصابر، المهمّ ألّا تجزع فتستلّها فوّهة اليأس من الدّنيا قبل أن ترحل جسدا عنها. واظبتُ معها على جلساتنا الصّباحيّة لأسبوع قلّت فيه مطالبتها بالمورفين و زادت ساعات نومها ليلا. لا يحتاج المرء أحيانا سوى لوجود يؤنسه حتّى يطمئنّ و يجد للرّاحة سبيلا. لم تنقذ فسحاتنا سالمة من الموت - و ما كان شيء لينقذها - و لكنّ النّفس تكلّ و تعمى و ما من إنسيّ عاقل يقدر على أن يجابه وحده يد الموت تقتات رويدا على جسده و روحه، لا بدّ له من رفقة، عائلة أو أصدقاء و إن شحّ الزّمن بهؤلاء فطبيب غريب يعي حدود العقاقير و حقوق النّفس و يدرك أنّ المريض لا يُختزل في مرضه بل هو كيان يطغى عليه بعد روحيّ وجب الاهتمام به و " معالجته ".
أتممت تربّصي في قسم أمراض الرّئة، و أذكر أنّني تركت سالمة تعدّ لمغادرة القسم لأيّام قليلة تلتقي فيها بعض أقاربها بمناسبة عيد الإضحى، عدت إلى زيارتها و الاطمئنان عليها بعد إجازة العيد فأخبرتني الممرّضة أنّ سالمة مضت إلى ربّها يوما قبل موعد خروجها..
رحمها الله و غفر لها، أشَهِدَ أحد وفاتها؟ أذُكّرت بالشّهادة؟ ميتة الغريبة، الشّريدة تلك، لكنّها رحمة الله - أحسبها و الله أعلم - حلّت بها.
ما سُئلت يوما عن طريقة لمعالجة كلل النّفس و فتورها إلّا و نصحت بزيارة المرضى في المشافي العموميّة، في الأقسام الحرجة خاصّة، حدّثوهم، خفّفوا عنهم، آنسوا وحدتهم فكثيرون يعانون هول المرض و الوحدة مجتمعين.