في معركة من معاركي في هذا العالم الافتراضي والتي كانت عن الشيخ جودت سعيد، جاء أحد الدكاترة المحترمين فأنزل باليوتيوب شريطا قديماً للشيخ جودت محاولا محاججتنا به وفضح فكر جودت حسب زعمه فأحسن بنشره من حيث أراد الإساءة.

ولكن حين استمعت للمقطع الصوتي وهو مناقشة بين جودت وبين أحد العلماء المصريين، علق في نفسي قول جودت لمناقشه أثناء نقاشه: (أنا أخاف من الأصول وأنت تخاف على الأصول) ويعني بذلك أن أصول الفقه صارت مقيدة للتفكير الإسلامي ومعيقةً له ولذلك فهو يخاف منها.

كان هذا الكلام حازا في نفسي ولم أقدر على تقبله، بالرغم أني أقر أن أغلب المنشغلين بهذا العلم أخذوه وكأنه مسطرة ثابتة لا تتزحزح فجمدت عقولهم جمودا عجيبا.

وبعد فترة قرأت هذا الكلام لسيد قطب الذي بدأت أقلبه في رأسي لشهور عديدة حتى وصلت لنتيجة أعرضها بعد كلام الشهيد.

قال في النقد الأدبي رحمه الله:

(المناهج إنما تصلح وتفيد حينما تتخذ منارات ومعالم، ولكنها تفسد وتضر حين تجعل قيودا وحدودا، فيجب أن تكون مزاجا من النظام والحرية، والدقة والابتداع.

وهذا هو المنهج الذي ندعو إليه في النقد والأدب والحياة).

وقال أيضا:

(ومن هنا نجد صعوبة مادية في تقسيم العمل الأدبي إلى عناصر: لفظ ومعنى. أو شعور وتعبير. فالقيم الشعورية والقيم التعبيرية كلتاهما وحدة لا انفصام لها في العمل الأدبي، وليست الصورة التعبيرية إلا ثمرة للانفعال بالتجربة الشعورية، وليست القيمة الشعورية إلا ما استطاعت الألفاظ أن تصوره، وأن تنقله إلى مشاعر الآخرين.

ولكننا على الرغم من هذه الحقيقة الواقعة مضطرون أن نتحدث عن هذه القيم كأنها منفصلة، كيما نستطيع أن نضع قواعد عملية للنقد الأدبي، تقربنا من الصواب والدقة في إصدار أحكام أدبية معللة!

وهذا العمل لن يكون مأمونا إلا إذا ظللنا على الدوام، وفي كل خطوة، نتذكر أن العمل الأدبي وحدة، وأنه لا سبيل لنا إلى تقدير القيم الشعورية إلا من خلال القيم التعبيرية).

فتأمل كلامه وتدبره، ثم انظر له أخرى ودقق النظر فيه، تجده قسّم العمل الأدبي لغرض الدراسة والدقة وإلا فالعمل الأدبي وحدة واحدة لا تفصل.

أقول: وكذلك هو العمل الفقهي والأصولي، فكلام الفقهاء واستنباطاتهم والأدلة الأصلية وكلام الشارع كله وحدة واحدة لا تنفصهم، والفقيه هو الذي يستوعب ذلك جميعا ويكون التصور الفقهي في عقله من خلال ما يطالعه من أدلة واستنباطات فينشيء مقاصدا فقهيةً في عقله ويخرجها عن طريق الفتاوى والأحكام.

الفقه وأصوله ليست علوما جامدة لا روح فيها ولا وموادا قانونية ثابتة، وإنما هي تفاعلات عقلية مقاصدية واستنباطية تأخذ من الكتاب والسنة على السواء ثم تنظر للواقع فتعالجه على ضوئهما.

الفقه والأصول ذوق وملكة وليس منطقا وقانونا جامدا، وما كتابات الأصوليين إلا لبلوغ تلك الغاية الذوقية الفقهية ومن هنا نخاف من الأصول حين تكون هي بذاتها الغاية وليس الوحدة التشريعية هي الغاية.

من هذا الفكر تنتفي عدة اسئلة كأسئلة تقديم الكتاب على السنة وأسئلة العام والخاص وحديث الآحاد وتقديمه على القواعد وما إلى ذلك.

ويبقى السؤال وهو هل بالإمكان تمييز معالم ذلك المتذوق الفقهي؟! باعتقادي نعم ولكنه أمرٌ يحتاج للعمل وليس بالأمر الهين السهل.