كنت طفلا خجولا -  و ربما أخذني خجلي الى حدود الإنطوائية - و  كنت شديد الإلتصاق بالمنزل ، شغوفا بمتابعة الرسوم المتحركه ، أقضي وقتا طويلا ،  ممسمرا أمام صورة جمدتها عن طريق الفيديو - رحمه الله - محاولا رسم " جريندايزر " أو " الرجل الحديدي " :  أبطال برامج ذلك الزمان : عقد الثمانينيات .

و لا بد أن طفلا هذه صفاته - مع استعدادات شخصية أخرى ربما - وجد في عرض والده انسب الطرق لتمضية وقته : وعد الوالد طفله بهدية أن هو قرأ القصص المسلسلة الزرقاء - قصص الانبياء لعبد الحميد جودة السحار - و القصص المسلسلة الحمراء - قصص العرب في اوروبا للمحرر نفسه .

و لا أدري إن كنت قد قرأت القصص وقتها ، و اختبرت فيها لنيل هدية الوالد - حفظه الله - ام لا ، لكن يقيني أنني كنت ممتنا للوالد كثيرا و لا شك ؛ فالسنوات التي تلت قضيت أوقاتا طويلة منها أقرأ قصص السحار بنهم و متعة شديدين ، و لا أزال حتى اليوم محتفظا بنسخة من السلسلتين ... ارشادي الى القراءة كانت هديتي الثمينة ... فشكرا يا والدي .

بعد ذلك بسنوات كنت على موعد مع وجبة دسمة أخرى : خريف الغضب للاستاذ " محمد حسنين هيكل " يرحمه الله ؛ كانت الوجبة قصة من نوع جديد - بالنسبة لي  وقتها - كانت تأريخا سياسيا بنكهة قصصية قوية ، كتاب شديد التماسك من مقدمته الى منتهاه ، كل فصل يسلمك الى الذي يليه بمنهتى السلاسة ، مؤلف من الطراز الاول ، أسلوبه سهل ممتنع ، و ممتع ، التهمت الكتاب بسرعة ، و ربما التهمته بعدها مرات عديدة...فشكرا ثانية يا والدي العزيز ؛  فخريف هيكل كان كتابه.

في الفترة ذاتها تقريبا - تسعينيات القرن العشرين - سيحضر الوالد أضخم كتاب كنت قد رأيته حتى ذلك الوقت ، عدة مجلدات خضراء كبيرة : " في ظلال القران " لسيد قطب رحمه الله ، الكتاب الذي سأقرأ فيه كثيرا فيما بعد ، أسرني الرجل ؛ سحرني اسلوبه ، كان " سيد " سيدا في الأدب  و البلاغة ، كان ناقدا معروفا ، و أديبا مشهورا ، و " الظلال " ، و " التصوير الفني في القران الكريم " ، كتابان يشهدان على ذائقة أدبية من طراز رفيع عند الرجل ، و ليته ظل يصول و يجول في ميدان النقد و الأدب، بدلا من ميدان الفكر الحركي الذي جعله - في رأي الكثيرين - رائدا للتكفيرين ، و الموضوع خلافي لا شأن لنا به الآن . رحم الله سيدا ، و حفظ والدي الذي عرفني به ، فحتى اليوم - و رغم بعد الشقة الفكرية بيني و بين سيد صاحب المعالم و الظلال - الا أنني أرجع بين الفينة و الأخرى الى ما كتبه مستمتعا باسلوبه ، و مستفيدا من نظراته الفنية الأدبية في القرآن الكريم ... 

ربما لو تركني الوالد دون هداياه لاهتديت الى القراءة وحدي ، ربما ، لكن فضله علي سيظل عظيما : فقد هداني الى القراءة في سن مبكرة جدا ، و كانت اختياراته الأولى مناسبة لذوقي تماما ، كما أن ارشاداته و ملاحظاته ، حول هذه الفكرة ، و ذاك الشخص ، و هذه الجماعة  - رغم أننا قد لا نستمع اليها في سن الطفولة و المراهقة - كانت ، هذه الملاحظات  - و ستظل أن شاء الله - منارا يهدينا الى الطريق الصحيح .

فشكرا يا والدي العزيز ،  شكرا لا حدود له ...