أهوى قراءة السير الذاتية، لمافيها من عرض شامل لحياة شخصٍ ما عاش على هذه الأرض، بآلامه وآماله، وشعوره وعقله، وأَلِجُ من هذه السيرة لمعرفة نفسه وبيئته ومجتمعه، وزمانه والظروف التي أحاطت به، وفي كل ذلك متعة عقلية وفائدة عظيمة ومعلومات ترتدي ثوب الحكاية، أما معرفة النفس، فإن الإنسان يرى من قراءة السير تمايز البشر وتشابههم في آنٍ، فهم يمتلكون نفس المشاعر، أنا وأنت والملك والعالم والأديب والغني والفقير، كلنا نملك نفسا بسيطة تحزنها أبسط الأشياء وتفرحها أبسطها كذلك، أما التمايز فكل إنسانٍ نسيجُ وحده كما يُقال، كل إنسان نتاج فطرته وملكاته، وتفاعله مع بيئته واجتهاده وكسبه وكل ذلك مما قدر الله له، فينتج من تفاعل ذلك كله إنسان فريد لايشبه أحدا ولو كان توأمه (كما ألاحظ من ابني شقيقتي وهما توأم يستطيع المرء التفريق بين طباعهما ولم يتما عامهما الأول بعد، فسبحان خالق هذه النفوس ومبدعها!)
كما أن قراءة سِيَرِ الأعلام تعطي النفس دفعة معنوية، وزادا روحيا، حين يقرأ تفاصيل حياتهم وما واجهوه من صعوبات ومابذلوا من تضحيات، وما تهيأ كذلك لهم من فُرَصٍ يسّرها الله حتى وصلوا لما هم عليه، وآراءهم في الحياة والناس، وغير ذلك مما يفيد العقل ويُبهج النفس، وقراءة السِير الذاتية هي قراءة ترويحية يستجم بها الإنسان ومع ذلك فهي تزخر بالفوائد، وإن كانت لا تصدق في كثير من الأحيان، فكاتب السيرة الذاتية يكتب بنفسه عن نفسه ولك أن تتخيل تأرجح ميزان الصدق هنا، إما بقصد أو بغير قصد، وتزِنَ الأمور بميزان معقول، وقد كتب أحمد أمين مقدمة ثمينة عن صعوبة ذلك.
نعود لكتابنا، في الحقيقة اشتريته من جرير وكنت -يالخجلي- أعتقد أن أحمد أمين صحفي، وأنه شقيق مصطفى أمين الصحفي المصري الشهير الذي قرأت له قديما مذكرات طريفة ( هل لمصطفى أمين شقيق اسمه أحمد أمين أم أن هذا من نسج خيالي؟! لا أعلم!) المهم أنني ركنت الكتاب حينا، وحين قررت قراءته فوجئت بمقدمته تهزني هزّا وتشعرني -بما لايقبل الشك- أن الكاتب أديبٌ وعالِمٌ وليس صحفيا كما اعتقدت، فما هكذا يكتب أهل الصحافة! وليست نفوسهم وأقلامهم بهذا الجلال!
عمدت إلى ويكيبيديا لأكتشف أنه من أهم أدباء العربية في القرن العشرين، وأنه رئيس مجمع اللغة العربية ردحا من الزمن، وأنه أستاذ في كلية الآداب وأنه مؤلف (فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام) وكنت أنوي قراءتهما دون الانتباه كثيرا لاسم المؤلف، وهكذا وجدت من المعلومات ما يستقيم مع بلاغة أسلوبه وجلال قلمه، وأبحرت مع سيرته إبحارا سلسا جميلا فكنت أضيق عندما أتقدم في الصفحات وأوشك على الانتهاء من الكتاب الذي لم يتجاوز ٢٢٢ صفحة فقط، وحين انتهيت من قراءته تذكرت العبارة الشهيرة: " إذا شعرت وأنت تقلب الصفحة الأخيرة من الكتاب الذي تقرؤه أنك فقدت صديقا عزيزا، فاعلم أنك قرأت كتابا رائعا"، لكن الطبعة التي حصلت عليها ذات غلاف وتجليد أقل من المستوى، وبها عدد من الأخطاء المطبعية، وعتبي على جرير أنها لا تُعنى بالطبعات الجيدة في أغلب الكتب.
ولابد أن أُشير لشعور لازمني طيلة قراءة هذه السيرة، وهو الشبه الكبير بين الأديب أحمد أمين والشيخ علي الطنطاوي في مذكراتهما، وإن كانت مذكرات الأول كتابا واحدا، فإن مذكرات الثاني كانت في ثمانية مجلدات، ولكن ثمة قواسم مشتركة:
١- الأديبان عاصر كل منهما الآخر، وإن كان الشيخ علي الطنطاوي أحدث سنّا، لكنهما عايشا نفس الأحداث (الاستعمار، نهاية الخلافة العثمانية، نشوء الدول الحديثة واحتلال فلسطين...) ومايتبع ذلك من تأثير على الحياة الثقافية والأدبية.
٢- تشابُه الأسلوب الكتابي لكليهما تشابها واضحا.
٣- تأثير الجو العلمي للأسرة (الأب) على كل منهما.
٤- اشتغال كليهما بالتدريس والقضاء.
٥-نقد الأديبين لذواتهما نقدا واضحا ينم عن معرفة النفس، ومايسمى في علم النفس بـ (الاستبصار) وهو رؤية الشخص لنفسه من الخارج، ونقد محاسنها وعيوبها ومحاولة تفسير تصرفاتها كما لو كان يتحدث عن شخص آخر.
٦- كلا الأديبين يهوى العزلة، ويخجل من الناس، لكنه لايهاب المنابر، وله قلمٌ جريء واضح الفكرة لايجامل.
٧-تولى كل منهما عددا من المناصب الرسمية، سمحت له بالطواف في عدد من البلدان، زارها زيارة موظف مسؤول، ووصفها وصف أديب.
٨- تثقف كل منهما في بداية حياته ثقافة شرعية عربية اتصلت بكتب التراث اتصالا وثيقا، وكان لها في نفسه أثر عميق، وإن اختلف مشربيهما فيما بعد.
٩- كلاهما: عالمٌ وأديب.
بقي أن أقتبس من هذه السيرة آخر فقرة فيها، وهي عندما تكلم أحمد أمين عن توفيق الله له في أعماله، قال: " وهذا التوفيق ظاهرة يصعب تعليلها في عقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي، فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومُنوا بالإخفاق، ولا تعليل لذلك إلا أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".