Image title
دكتور جعفر جمعة الزبون

احتلّت الكتابة دورا مهما في حياة الإنسان حتى صارت مقياساً حقيقياً للتّحضر، فبها تتطور الأمم وتتواصل الشّعوب؛ ومبلغها هذا جاء من أهميتها الكبرى وحاجتها الماسة في أساس التّحضر والتّعامل والتّبادل المعنوي والمادي.

فهي ناتج خطير من فكر الإنسان(أو هبة إلهية)، استطاع من خلالها أن يؤرخ أيامه ويقيد علومه ويبرهن بها الحقائق وبما أعطي من معطيات قليلة أنّه قد تحضر ووصل إلى أوّل خطوة من خطوات الحضارة التّي أساسها الكتابة.

ومرت الكتابة بمراحل مهمة جدا، منها التّاريخية والفنية؛ فقد كانت الكتابة في بادئ الأمر عملية محاكاة للأشكال أي عملية رسم شكل معين أو أشكال يستعملها الإنسان في حياته اليومية العادية، وهذه الرّسوم ومما لا شك فيه تعطي معاني معينة.

 أو" قد يكون هذا الشّكل إما صورة لحيوان أو جماد أو شكلا مجردا أو رمزا متفق عليه".*

والكتابة الأوّلى كانت خالية من الجمالية بدائية، وتخلو من التّناسق، ولكنها لا تخلو من التّعقيد لما فيها من معنى تدل عليه، ومن ثم تطورت وأصبحت متنقلة على مدى التّاريخ لتستقر على شكلها الحاضر لدى جميع الحضارات، على أن لكل صوت ملفوظ حرف مكتوب، وفي إعتقادي أن هذه المرحلة هي من أعقد المراحل الفكرية في موضوع الكتابة، لأنَّ علمية تمثيل اللّفظ الصّوتي بحرف مكتوب هي عملية معقدة جدا، لا بل إن عملية اجتماع هذه الحروف مع بعضها لتكون كلمة تدل على معنى هو أكثر تعقيدا، واجتماع الكلمات مع بعض لتكون جملا تدل على معنى عام هو الأكثر تعقيدا، واعتقد أن اختراع رسم الحرف بما يقابله من اللّفظ الصّوتي هو أسمى غايات الفكر الإنساني الأوّل حول موضوع الكتابة.

وقد وجدنا في كتاب اسمه (توحيد المفضل) عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) كلاماً في الكلام والكتابة وأصلهما وفائدة كل منهما وسبب تنوع اللّغات و كذلك تنوع الكتابة وما فضّل اللّه على الانسان من اليد واللّسان فباليد يكتب وباللّسان يتكلم وبالعينين يرى وبالعقل والذهن يفهم ويفطن، والقول طويل سننقله كلّه للفائدة كما في الآتي: "تأمل يا مفضل ما أنعم اللّه تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا المنطق الّذي يعبر به عما في ضميره وما يخطر بقلبه وينتجه فكره وبه يفهم عن غيره ما في نفسه ولو لا ذلك كان بمنزله البهائم المهملة التّي لا تخبر عن نفسها بشي‏ء ولا تفهم عن مخبر شيئاً، وكذلك الكتابة التّي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على النّاس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النّظر فيه من أمر دينهم وما روى لهم مما لا يسعهم جهله ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة وليست مما أعطيه الإنسان من خلقه وطباعه وكذلك الكلام إنما هو شي‏ء يصطلح عليه النّاس فيجري بينهم ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة وكذلك لكتابة العربي والسّرياني والعبراني والرّومي وغيرها من سائر الكتابة التّي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك أن الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشّي‏ء الذّي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة عطية وهبة من اللّه عز وجل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا ولو لم تكن له كف مهيئة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا واعتبر ذلك من البهائم التّي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل وعز وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب"*. وهذا الكلام واضح جدا لمن تأمله.

"وترجع أقدم النّماذج الكتابية التّي حصلنا على دلائل عنها إلى المستوطنات السّومرية التّي تمركزت في الهلال الخصيب منذ قرابة 5500 سنة، حيث قام الاهالي بشق الأقنية بين نهري دجلة والفرات لري السّهول المجدبة التّي استوطنوها"*.

وفي الوقت الراهن ذاته الذي ظهرت فيه الحضارة السومرية ظهرت كذلك الفرعونية، "وفي الزّمن نفسه الذّي استوطن فيه السّومريون الاراضي الممتدة بين التّقاء نهري دجلة والفرات عام 3500 ق. م، أسس المصريون حضارة أعظم شأنا وأطول بقاء على امتداد نهر النّيل وضفافه الخصبة"* .

ونجد ان الانسان قد تطور فكره وأصبح يستعمل الالة في الكتابة، لذا " قد تطورت اساليب الكتابة المصرية والسومرية والتقت في نقاط متشابهة عبر مراحل البيكتوغرام والايديوغرام والفونوغرام، لكن المصريين توسعوا أكثر في هذه الطّريقة حين ابتكروا العلامات الابجدية فطوروا سلسلة تتألف من 24 رمزا تقريبا بحيث يمثل كل واحد منها حرفا ساكنا فمنحهم ذلك ابجدية فعالة وكاملة تقريبا. إلا انهم فشلوا لعدة اسباب في الاستفادة من الفرص الاقتصادية التّي اتيحت لهم نتيجة هذا الانجاز العظيم فقد أعاقت الاشارات الزّائدة وغير الضّرورية نظامهم الكتابي"*.

وأما الاختلاف في الكتابة فللمؤرخين أقوال كثيرة أشهرها "أن في منتصف الألف الرّابع قبل الميلاد أي في سنة 3500 ق.م اهتدى عبقري من سكان العراق في مدينة(الوركاء) شرق الفرات قرب ناحية(الخضر) من قرى بلد(السماوة)، إلى اختراع أقدم كتابة عرفها التّاريخ، وقد كانت الكتابة في أوّل أمرها بسيطة، إذ كانت الأشياء تدون برسم صورها على ألواح الطّين الطّرية بواسطة قصبة أو خشبة مستدقة النّهاية، وكانت قد اقتصرت في أوّل أطوارها على الأعداد والرسوم البسيطة التّي لا تمثل إلا الأشياء المألوفة، ثم أخذت تتطور بمرور العصور والأيام، وقيل إن أوّل ما مدت إليه اليد بالكتابة هي النّقوش التّي كان ينقشها سكان الكهوف والغابات، ثم ترقت هنود أمريكا نوعا ما، فصورا الوقائع وشكلوها بتلك النّقوش، ثم جاء الصّينيون فنقشوا وقائعهم في أماكنهم بنقوش كانوا هم فقط يعرفونها وبعد مدة أبدلوها بكتابتهم الحالية المستعملة عندهم حتى اليوم، ثم جاء البابليون بالخط(المسماري) المتفرع من تلك النّقوش، فكانوا إذا أرادوا كتابة(شمس) مثلا رسموا أربعة خطوط متخالفة الجهات، ثم نقشوها بالمسامير المصنوعة من الطّين النّاعم المطبوخ في النّار إلى حد الجفاف والتحجر، ولأجل ذلك سميت كتابتهم(المسمارية)، كما كانوا يستعملون الآجر والصفائح الخزفية لتلك الكتابة، وقد اكتشفت كثير من الكتب الآجرية المنقوشة بالنقوش المسمارية في الآثار القديمة، ويظن أنها كتبت منذ سنة 3800 ق.م ثم دامت هذه الكتابة إلى ما بعد الميلاد بقليل، ثم خلفهم قدماء المصريين بالكتابة(الهيروكليفيكية)، أي الحروف المقدسة، وهي كتابة تصويرية وبعضها خيالية صرفة، فمثلا إذا أرادوا كتابة شمس صوروا لها دائرة مستطيلة مرتفعة، ولكتابة معنى الشّغف والسرور صورة امرأة بيدها طنبور تضرب عليه، أو رجل يرقص، ولبيان حالة معنى الحيلة والمكر صورة(ابن آوى) إلى غير ذلك من نظائر هذه الخيالات*.

وهناك نوع آخر من الكتابة(الهيروكليفيكية)، وهي بالأصوات والحروف لكن بتصوير أشكال الحيوانات التّي أوّل اسمها عندهم وبلغتهم هو الحرف المطلوب.

فمثلا إذا أرادوا كتابة(قمر) صوروا حيوانا أوّل اسمه عندهم(ق) ثم آخر أوّل اسمه(م) ثم ثالثا أوّل اسمه(ر) ومن المجموع يفهم كلمة قمر. وقد كانت الحروف المصرية أولا 29 حرفا أي شكلا ثم زادت إلى 90 شكلا ثم ارتفعت بمرور الأيام إلى 1700 شكل وكلها كانت تنقر على الأحجار أو الأخشاب، ثم تطبع بعد ذلك على القرطاس المسمى عندهم بـ (بيبرس).

وكان عندهم أيضا نوعان من الكتابة غير الحروف المقدسة المذكورة*.

أحدهما(الهيراتيكية) وهي المختصة بالروحانيين نسبة إلى(هيروس) أي المقدس الرّوحاني، ويستعمل في الأوراق الشّرعية والرسائل المذهبية وأوراق الحكومة، وثانيهما(الديماتيكية) نسبة إلى(ديموس) أي عامة النّاس، وهذه الأخيرة كانت مستعملة حتى القرن السّادس ق. م.

أما استعمال الحروف الهجائية في الكتابة، فقد كان مصدرها الأصلي هم(الفينيقيون) الذّين كانوا يقطنون السّواحل الشّرقية من(ميديترانه). وكانوا أهل تجارة واسعة وعلاقات تجارية مع مصر، وبهذه العلاقة والاختلاط، تعلموا الكتابة المصرية أي(الهيروغليفية) وأتقنوها. ثم رأوا بعد ذلك بذكائهم وحسب لوازمهم وضرورياتهم التّجارية أن هذه الحروف اللّازمة للكتابة لا تفي بما يطلبون، لذلك فقد فكروا فزادوها ثم نقحوها حتى حصروها في عدد مخصوص، قيل إنها كانت 16 حرفا، وأصبحت الحروف الهجائية الفينيقية خفيفة جميلة بالنسبة للمصرية كما أنها حسب أقول الأثريين قريبة الشّبه بما بين أيدينا الآن من الحروف الهجائية، غير أن الصّور الخيالية المصرية كانت لا تفارق حروفهم كثيرا، لأنهم كانوا يرسمون العين مثلا كدائرة ذات تقعير وفي وسطها نقطة تشبيها لها بالعين الإنسانية ويرسمون حرف الميم مثلا(والميم عندهم اسم للماء) حرفا معوجا بانحناء كحنوة الموج على سطح الماء، وهكذا*.

ولكن بمرور الأيام والسنين، وتعاقب الأمم والأجيال قد ازداد فيها ونقص وغيّر ونقّح أشكالها وأصواتها حتى بلغت إلى ما نحن عليها الآن، وحتى اختصت كل أمة بنوع وشكل من الحروف للكتابة قد لا تشابه كتابة أمة أخرى، أما الكتابة العربية فقد تفرعت عن الحروف الفينيقية كما أن الحروف الغربية الأوربية متفرعة عن الحروف اللّاتينية"*.

هذا مختصر تاريخ الكتابة ذكرته استطرادا وطلبا لإتمام الفائدة.

هذه نظرة موجزة كل الإيجاز حول الكتابة وأهميتها بصورة عامة، أما في الجاهلية فيحدده العلماء العصر الجاهلي على أنه 150 سنة أو 200 سنة أو أكثر قبل مجيء الإسلام، كانت الحياة في هذا العصر بسيطة غير معقدة لأن العرب كانوا يسكنون الصّحراء، والصّحراء ليست من الأماكن التّي فيها معطيات كثيرة بل محدودة جداً، مما أدى إلى اعتماد الإنسان في العصر الجاهلي على ذاكرته الثّاقبة في خزن المعلومات وتقييد الأشعار والأخبار، لأنّه لا يمتلك الدّواة والقرطاس ليكتب، كذلك كانت الكتابة لدى قلة ممن يعرفونها وفي أماكن محددة.

    

الكتابة لغةً واصطلاحاً:

قبل الخوض في خضم هذا المبحث ارتأيت الوقوف على مصطلح الكتابة كي نعرف ما هي الكتابة؟

بعد الاطلاع على بعض الكتب التّي تناولت موضوع الرّواية المكتوبة وخط الكتابة في العصر الجاهلي، مثل: كتاب مصادر الشّعر الجاهلي؛ للدّكتور ناصر الدّين الأسد، إذ خصص باباً بفصلين لموضوع الكتابة في العصر الجاهلي، لكني لم أجده قد تناول مصطلح الكتابة(لغة واصطلاحا)، كذلك كتاب الخط العربي؛ للدّكتور عبد العزيز حميد صالح وآخرون، فإنّه تناول موضوع الكتابة والخط قبل الإسلام في بابه الأول بفصله الأول، ولم أجده تناول مصطلح الكتابة، وبالمرور على كتاب إشكالية الرّواية للدّكتور عبد اللّطيف حمودي الطّائي*، في فصله الأخير الرّواية المكتوبة للشعر العربي قبل الإسلام، لم أجده تناول مصطلح الكتابة، كذلك الحال مع الدّكتور علي أحمد الخطيب في كتابه الشّعر الجاهلي بين الرّواية والتّدوين، فإنه يفرد موضوعا كاملا للكتابة في العصر الجاهلي، ولم أجده تناول مصطلح الكتابة كذلك، وهذا لا يعيب هذه الكتب إطلاقا، بل إني سأعتمد عليها اعتماداً كبيراً في بحثي المتواضع.

فرأيت أن نقف وقفة سريعة على لفظ الكتابة(لغة واصطلاحا) ليكون البحث منهجيا وأكثر موضوعية.

الكتابة لغة: هي "أن يكاتب الرّجل عبده على مال يؤديه إليه منجما فإذا أداه صار حرا، وسميت كتابة بمصدر كتب لأنه يكتب على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب مولاه له العتق، وقد كاتبه مكاتبة، والعبد مكاتب، وإنما خص العبد بالمفعول لان أصل المكاتبة من المولى وهو الذّي يكاتب عبده"(1).

وبنفس المعنى يذكر صاحب كتاب التّعريفات أنها: "إعتاق المملوك يدا حالا ورقبة مالا، حتى لا يكون للمولى سبيل على إكسابه"(2).

فالكتابة لغة ومما تبين أعلاه هي ما يكتبه المولى ممن العتق للعبد بعد أن يؤدي العبد ثمنه ويصبح حرا.*


   الكتابة اصطلاحا: هي" صناعة الكاتب"(1)، و"إنشاء الكتب والرسائل"(2)، أو "عملية رسم شكل معين أو أشكال يستخدمها الإنسان لتعطي معنى معينا"(3)، أو "هي تلك الرّسوم والأشكال المثبتة للألفاظ الدّالة على معان مقصودة"(4)، الخ**..، من التّعريفات التّي يمكن العودة إليها.




نشأة الكتابة العربية


إن التّتبع لنشأة الكتابة والخط العربي يحتاج إلى وقفة متأنية، لأن هنالك آراء متضاربة حول نشأة واصل الكتابة العربية والخط العربي، سأورد بعضا منها وأشير إلى الأخرى، ليطلع من أراد الاستطراد.

فروي "أن أول من وضع الكتاب العربي، قوم من الأوائل، نزلوا عدنان بن أد بن أدد، أسمائهم هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت، فوضعوا الكتاب العربي على أسمائهم، ووجدوا حروفا ليست من أسمائهم وهي (ث،، خ، ذ، ض، ظ، غ) فسموها بالروادف"(1)، وأنا لست بمؤيد لهذا الرّأي لأنه يحتاج إلى الكثير من الدّقة والتّمحيص، ولماذا أخذت الحروف من أسماء هؤلاء الرّجال السّت فقط ولم تؤخذ من غيرهم؟ وهذه الرّوادف التّي وجدوها لماذا لم تكن أسماءً لرجال مثلهم؟ فاعتقد بأن هذا هو النّظام الأبجدي وهو نظام بالفعل قديم ولكنه ليس أول الكتابة العربية.

"وعن شرقي بن القطامي: أول من وضع خطنا هذا رجال من طي، منهم: مرامر بن بربرة، قال الشّاعر:

تعلمت بآجاد آل مرامر             وسودت أثوابي ولست بكاتب

وإنما قال: آل مرامر لأنه كان سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبي جاد، وهم ثمانية وكلمات أبجد، هوز...... إلى آخره ثمانية"(2)، هنا جاء عدد الرّجال ثمانية وفي الرّواية السّابقة كان عددهم ستة فقط، وهذا تضارب واضح في العدد، ولست بمؤيد لهذه الرّواية.

ويرى أحمد الهاشمي "أن أول سلسلة الخط العربي هي الخط المصري ومنه اشتق الخط الفينيقي ومن هذا اشتق الآرامي والمسند بأنواعه والصّفوي والثّمودي واللّحياني شمالي جزيرة العرب والحميري جنوبها"(3)، ويقول في موضع آخر أن "رواة العرب يقولون: إنهم اخذوا خطهم الحجازي عن أهل الحيرة والأنبار"(4)، وهنا يثيرني للتّساؤل، لماذا يأخذ أهل الحجاز خطهم من أهل الكوفة والأنبار؟ والجزيرة عامرة بالخطوط حسب ما يراه أحمد الهاشمي أن الخط اللّحياني شمال الجزيرة والحميري جنوبها، وهل أن المسافة بين الجنوب والشمال هي أبعد من العراق حتى يأخذوا الخط من العراق، إن هذا الرّأي هو في حد ذاته إثبات على أن الخط العربي نشأ من الخط النّبطي في الأنبار بالعراق، ونستطيع أن نجيب على التّساؤل الّذي يتبادر إلى الأذهان أنّ أهل الجزيرة إنما أخذوا الخط من أهل العراق لأن أهل العراق قد حسنوا الخط العربي كثيراً ولذا سيأتينا أن بعض الخطوط سميت على اسم المكان الذي حسنت به.

ويرى د. طه باقر أن الخط العربي مأخوذ من الآراميين وأخذه الأنباط الذّين استوطنوا القسم الشّمالي من جزيرة العرب وذلك عن طريق (تدمر)، ومن الخط النّبطي اشتق العربي الكوفي والنّسخي ومن النّسخي تطور الخط العربي الحديث*، ويؤيد هذا الرّأي الدّكتور صالح العلي إذ يقول: " إن الأنباط استعملوا الخط الآرامي المنشق من الفينيقي ولكنهم صوّروه وصقلوه تدريجيا حتى أصبح خطا قائما بذاته ومنه انحدر الخط العربي الكوفي"(1).. وأنا مع الدّكتور طه باقر وصالح العلي في آرائهما، ويترك الدّكتور ناصر الدّين الأسد الكثير من النّقوش التّي وجدت مثل الثّمودية واللّحيانية ويعتمد على النّقوش النّبطية وحدها، إذ يقول متحدثا عن النقوش التي وجدت: "لا يعنينا منها هنا إلا النّقوش النّبطية وحدها"(2) وأعتقد أنه قد ثبتت لديه الأدلة على أن أصل الكتابة العربية هي النّبطية وليس كما يدعيه البعض في الآراء المختلفة التّي لم أذكرها لأني لا أراها مصيبة وتفتقر إلى الدّليل القاطع كما أنها لا تثبت أمام التّدقيق والتمحيص.

ويرى د. عبد العزيز حميد، أنه "من الخط الآرامي ولد الخط النّبطي الذّي نمى بسرعة وابتعد عن الخط الآرامي"(3).

ويأتي الدّكتور عبد العزيز ليؤكد ويفصل القول في نشأة الخط العربي وفي أي وقت بالتحديد إذ يقول: " ومنذ القرن الخامس الميلادي اضمحلت الكتابة النّبطية وقامت بدلا عنها الكتابة العربية وينقسم الخط النّبطي إلى قسمين؛ نبطي قديم، وآخر متأخر والأخير هو الأقرب إلى الخط العربي"(4)....،.

وأورد أسامة النّقشبندي رأي يتقارب مع رأي د. عبد العزيز إذ يقول: "إن العرب الأنباط منذ محاكاتهم للخط الآرامي وأثناء قيام مملكتهم وبعد زوالها لم ينقطعوا عن تطوير كتاباتهم حتى ظهر عندهم الحرف العربي وتكاملت صوره في القرن السّادس للميلاد واستخدمه عرب الشّمال وانتقل إلى العراق والحجاز واسهم في تكوين الخط العربي الذّي عرف في الجاهلية وصدر الإسلام.. ومن الطّبيعي أن يأخذ العرب عن بعضهم أشكال حروف كتاباتهم وقد اختصت بعض المدن العربية قبل الإسلام بتجويد الخط العربي فسمي بأسمائها كالخط الحيري والانباري والمكي والمدني نسبة إلى الحيرة والأنبار ومكة والمدينة، وقد قيل في بعض الرّوايات أن الخط الحيري والانباري نقل إلى مكة والمدينة قبل الإسلام وتعلمه سادة العرب في تلك الفترة"(1).

ومما يقوله جاكسون أيضا يؤكد الاراء التّي سبقت "اما الخط الاسلامي في اللّغة العربية الذّي ينحدر من السّلالة النّبطية للكتابة الآرامية فقد ظهر بادئ الامر حوالي عام 500 ميلادية. ولكن من المؤكد ان الاشكال الاولية لهذه الكتابة قد عرفت طريقها الى حيز الوجود قبل 200 عام.*

مما تقدم كله هو إثبات على أن الخط العربي الموجود بالكتابات العربية قادم من المصري القديم ومن ثم الفينيقي وبعده الآرامي ومن بعده النّبطي ثم تطور ونمى بسبب القدرة الفكرية العالية التّي يمتلكها الفرد العربي في تطوير ما بين يديه بالرغم مما يحيط به من معطيات تكاد تكون معدومة لأنّه في الصّحراء وكما قيل "أنّ الإنسان ابن بيئته".



* ينظر: تركي عطية الجبوري: الكتابات والخطوط القديمة، مطبعة بغداد، 1984، ص66.



* الإمام الصادق ع، توحيد المفضل، المكتبة الحيدرية، النجف، ط3، 1969، ص 79-80.



* جاكسون، دونالد: تارخ الكتابة، تر: محمد غلام خضر، دمشق، سوريا، 2007، ص17.



* جاكسون، دونالد: تارخ الكتابة، تر: محمد غلام خضر، دمشق، سوريا، 2007، ص24-25.



* جاكسون، دونالد: تارخ الكتابة، تر: محمد غلام خضر، دمشق، سوريا، 2007، ص24-25.



* ينظر: الخليلي، محمد، شرح كتاب توحيد المفضل، د.ت، العراق، ج1، ص254- 257.



* ينظر: الخليلي، محمد، شرح كتاب توحيد المفضل، د.ت، العراق، ج1، ص255.



* ينظر: الخليلي، محمد، شرح كتاب توحيد المفضل، د.ت، العراق، ج1، ص256.



* ينظر: الخليلي، محمد، شرح كتاب توحيد المفضل، د.ت، العراق، ج1، ص257.



* ينظر: الطّائي، عبد اللّطيف حمودي: اشكالية الرّواية في الشّعر العربي قبل الاسلام، دار الشّؤون الثّقافية العامة، العراق، بغداد، ط1، 2008.



(1) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 2005، ج13، ص18.



(2) الجرجاني، علي بن محمد، دار المعرفة، تح: عادل أنور خضر، بيروت، 2007، ص168.



* ينظر: عبد اللّه اللّبناني: معجم البستان، ج2، ص2049.


كذلك: محمد، محيي الدّين، السّبكي، محمد عبد اللّطيف، المختار من صحاح اللّغة، ص445.


كذلك: الرّازي، محمد بن أبي بكر: مختار الصّحاح، ص 562. وغيرها من المعاجم في باب كتب.



(1) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 2005، ج13، ص18.



(2) الهاشمي، احمد: جواهر الأدب، مكتبة المعارف، بيروت، ج2، ص20.



(3) الجبوري، تركي عطية: الكتابات والخطوط القديمة، مطبعة بغداد، 1984، ص66.



(4) الخليلي، محمد: شرح توحيد المفضل للإمام الصّادق ع، العراق، د.ت، ج1، ص252.



** ينظر: اللّبناني، عبد اللّه: معجم البستان، مطبعة الاميركانة، بيروت، 1930،ج2، ص2049.


كذلك: مصطفى، إبراهيم، وآخرون: المعجم الوسيط، دار الدّعوة، استانبول، 1989،ط2، ج2، ص775.


كذلك: وهبة، مجدي: معجم مصطلحات الأدب، مكتبة لبنان، لبنان 1974، ص612.


كذلك: احمد، خليل: معجم المصطلحات اللّغوية، دار الفكر اللّبناني، بيروت، ط1، ج5، ص 108.



(1) التّستري، محمد تقي: الأوائل، مؤسسة مطالعات، إيران، طهران، 1993، ص251.



(2) م. ن: ص251.



(3) ) الهاشمي، احمد: جواهر الأدب، مكتبة المعارف، بيروت، ج2، ص20.



(4) ن. م: ص20.



* ينظر: أصل الحروف الهجائية ونشؤها، مجلة سومر، تموز 1945، السّنة الأولى، ج2، ص55.



(1) العلي، صالح احمد: محاضرات في تاريخ العرب، ج1، دار الكتب، العراق، الموصل، 1981، ص43/44.



(2) الأسد، ناصر الدّين: مصادر الشّعر الجاهلي، دار المعارف، مصر، ط5، ص24.



(3) صالح، عبد العزيز، وآخرون: الخط العربي، العراق، الموصل، 1990، ص15.



(4) ن. م: ص16.



(1) مجموعة باحثين: حضارة العراق، ج9، بغداد، 1985، فنون الكتاب، الخط والكتابة، أسامة ناصر النّقشبندي، ص448/449.



* جاكسون، دونالد: تاريخ الكتابة، تر: محمد غلام خضر، دمشق، سوريا، 2007، ص46.