إن الحياة مليئةٌ بالغموض والتساؤلات ، وتاريخُنا مليءٌ بالتناقض والشُبهات ، والقارئ عالقٌ  بين كشف الغموض ونقض الشبهات.

يقول شيخ المحققين محمود شاكر :(والتاريخ لا يُكتب بالتحكُّم وإنما يُكتب بالرواية ثم الاستدلال ثم يُبذل الجهد في سد الفجوات) ، وهذا قولٌ صائب لولا أن بعض الفجوات في سدها نظرٌ على بعض المحققين ، فليس كل محقق يصيب فيما وصل إليه من نتيجة وإن سلّمنا بصدق نيته واجتهاده ، وأيضاً ليس كل محققٍ يبحث عن الحقيقة لينقلها ، بل هي مجرد قناعات أرادها أن ترسخ في التاريخ على هيئة تحقيق ، وفي ذلك نضرب المثل بأديبٍ  شامخ ، رأيه يؤخذ ويُدْرس ، ويُرد على رأيه بالحجة ، هو أديبٌ  وعميد للأدب العربي الدكتور "طه حسين" ، فهناك الكثير من كتبه النافعة للأدب والحياة ، وهناك البعض من كتبه التي فيها لغطٌ  ونظر ولابد من بيان ذلك اللغط ، ونبدأ في كتابه :

(الفتنة الكُبرى) : كتبه الأديب ليبين حقبةً سوداء في تاريخنا الإسلامي ، تلك الفتنة التي عصفت في شتات الأمة الإسلامية "فتنة الصحابة" ، فما كان من شيخ المحققين "محمود شاكر" إلا أن ينتقد ماجاء به وينقض قوله ، استند طه حسين على مصدرين في بحثه وتحقيقه هما :

١- أنساب الأشراف للبلاذري.

٢- طبقات ابن سعد.

واعتمد العميد على أحاديث ضعيفة واعتبرها أساساً لإقامة منهج البحث ، وهذا ما لاحظه شيخ المحققين محمود شاكر وشرعَ في هدم حجج العميد.

بدأ طه حسين بتسليط الضوء على فتنة الصحابة وأسبابها ، و أوعز تلك الأسباب في أصولها العربية بقوله (فتنة عربية) ، (عامة عربية) وكان تكراره مقصوداً ليبين نتيجة ذلك البحث أن اليهودي (عبدالله بن سبأ) الذي يُعرف بابن السوداء ليس له صلةٌ بالفتنة والذي قال عنه الرواة :

(كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء ، حبشي الأم ، فأسلم في أيام عثمان ، ثم جعل ينتقل في الأمصار يكيد للخليفة "عثمان" رضي الله عنه ويُغري به ويحرَّض عليه ، ويذيع في الناس آراءً محدَثةً أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعاً) ، وفاجأنا العميد برأيٍ  آخر يناقض ما قاله الرواة والمؤرخون بقوله :(ويخيل إليَّ أن الذين يكبرون مِن أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يُسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافاً شديداً ، وأول ما نلاحظه أنّا لا نجد لابن سبأ ذكراً في المصادر الرسمية التي قصَّت أمرَ الخلاف على عثمان وانتفاضَ   الناس عليه ، فلم يذكره "البلاذري في أنساب الأشراف" وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً ، وذكره الطبري عن سيف بن عمر ، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر) ، وأكمل قائلاً : (ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن ، ولكني أقطع بأن خطره إن كان له خطرٌ ليس ذا شأن).

وهذا قولٌ فيه نظر ، وكأن العميد يرمز بأن فتنة الصحابة (فتنة عربية نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان ، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء) ، وأن اليهودي عبدالله بن سبأ "ابن السوداء" لا وجود له في التاريخ وإن وُجد فإنه لا ناقة له ولا جمل بفتنة الصحابة فهي فتنة عربية خالصة.

سنعود قليلاً ونذكر قول طه حسين في الفتنة وابن سبأ :(فلم يذكره "البلاذري في أنساب الأشراف" وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلاً ، وذكره الطبري عن سيف بن عمر ، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر).

هنا قدّم العميد كتاب البلاذري على كتاب الطبري وهذا خطأٌ فادح قد وقع به العميد ، ويعّقب شيخ المحققين محمود شاكر على ذلك بقوله :(إن الطبري ولد سنة 225 هـ ومات سنة 310 هـ ، فهو معاصر للبلاذري ، وفي طبقة تلاميذ "ابن سعد" صاحب الطبقات ، وإن سيف بن عمر الذي روى عنه الطبري هذا الخبر من كبار المؤرخين القدماء ، فهو شيخ شيوخ الطبري والبلاذري -أي سيف بن عمر- ، وهو في مرتبة شيوخ ابن سعد ، ومات قبل 190 من الهجرة). ومن المعروف أن الطبري في كتابه تاريخ الطبري قد أخذ أكثر من 900 رواية من شيخه سيف بن عمر والذي هو نفسه شيخ البلاذري ، وأكمل شيخ المحققين بقوله :(فإذا لم يكن كتابُ  الطبري من المصادر المهمة فليت شعري ماهي المصادر المهمة التي بين أيدينا) ، وأضاف بقوله :(إذا كان الرجلان من طبقةٍ واحدة كالبلاذري والطبري ، بل لعل الطبري أقوى الرجلين وأعلمهما وأكثرهما درايةً بالتاريخ وتحصيلاً له) ، وأكمل يقول في نقض حجة العميد :(وإن طه حسين يعلم أن كتاب ابن سعد الذي بين أيدينا كتابٌ  ناقص ، وأنه ملفق من نسخ مختلفة بعضها تامٌ وبعضها ناقص ، وبعضها مختصر ، ودليل على ذلك مما نحن بسبيله تَرجم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في 84 صفحة ، ولأبي بكر رضي الله عنه في 33 صفحة ، فلما جاء إلى عثمان والأحداث في خلافته ، وهي مايعلم الدكتور -أي طه حسين- ويعلم الناس ، لم يكتب سوى 22 صفحة !! فلما ذكر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضيّ عنه والأمرُ في ذمته وأقدحُ ، لم يكتب عنه سوى 16 صفحة !!) ، وقد احتج طه حسين في نفيه لشخصية عبدالله بن سبأ بأن البلاذري لم يذكره في كتابه ، والعميد يرى أن كتابه أهم مصادر البحث والتحقيق ، وفي ذلك يعّقب شيخ المحقيين بقوله :(ولا ندري كيف يستقيم أن يجعل عدَم ذكره خبراً ما وحجةً في نفيه) ، وبدأ يتسائل شيخ المحققين : (هل كان في نص البلاذري قديماً ذكرُ عبدالله بن سبأ اليهودي ثم سقط أو أُسقط من الكتاب ؟ وهذا لا يتاح لي إلا إذا وقفتُ  على نسخةٍ قديمة وثيقة من كتاب "أنساب الأشراف" فإن هذه النسخة التي بين أيدينا إنما طُبعت في أورشليم ، وطبعها رجلٌ من طغاة "الصهيونية" وقدَّم لها مقدمة لم تُكتب لا بالعربية ولا بالإنجليزية بل بالعبرية) ، وشكك شيخ المحققين محمود شاكر في ذمة الصهيوني الذي طبع الكتاب في مطابع الصهيونية في أورشليم -على حد قوله- ، وزاد من شكه أنه قد أضاف وأبدل ، أو أدمَج عبدالله بن سبأ في مكانٍ آخر ، وفي ذلك يستند شيخ المحققين إلى كلمة الناشر اليهودي في مقدمته المكتوبة بالعبرية :(إن حوادث جرت في عهد يزيد ابن معاوية وهي وقعة كربلاء وموت الحسين ، لم تُذكر في ترجمة يزيد ، بل ذكرهما في تراجم بن أبي طالب ، وذلك حسبَ  ما اقتضاه نظام الكتاب وفقاً لتسلسل الأنساب).

وهذه حججٌ  دامغة وكافية لنسف رأي العميد ، ورأينا كيف اعتمد العميد على أهم المصادر على حد قوله كتاب البلاذري وطبقات ابن سعد وتعمد التصغير و التقليل من كتاب الطبري علماً أن البلاذري والطبري من تلامذة سيف بن عمر والذي استند عليه الطبري في روايته لابن سبأ ، بينما لم يذكره البلاذري أو أُسقط عمداً بيد الناشر اليهودي في ذلك العصر.

وخلاصة شيخ المحققين : (التاريخُ  لا يُكتب بالتحكُّم ، وإنما يُكتب بالرواية ثم الاستدلال ، ثم يُبذل الجهد في سد الفجوات ، وسبيل ذلك أن نأخذ من الماضي أسباباً وعللاً وحوادث ذات خطر ، فإن استقامت أن تمتد معك إلى الحاضر الذي تؤرخه ، فهي حقيقةٌ بأن تكون شيئاً من التاريخ يوشك أن يكون حقاً كلّه أو بعضُه).

ولا أضيف شيئاً على قول الشيخ سوى : (الباحث عن الحق يكفيه دليل).